في مجموعته القصصية الأخيرة "أين كنت؟" من منشورات دار "هارفل سيكير" البريطانية، تتجلى موهبة الكاتب الأيرلندي "جوزيف أوكونور" كقاص وروائي من الطراز الأول، وعلى الرغم من أن المجموعة هي الأولى الصادرة لأوكونور خلال أكثر من عشرين عاماً، إلا ان أشياء كثيرة تسترعي انتباه قارئها، منها الخصوصية المميزة لأعمال أوكونور عموماً والمزاج وخيبة الأمل التي تذكر بمواطنه الإيرلندي الشهير "جيمس جويس". وعلى أية حال فإن أوكونور من الكتاب الذين يستحقون قراءتهم في اي وقت تنشر فيه أعمالهم. تحتوي المجموعة على سبع قصص قصيرة وقصة طويلة "نوفيلا" تأتي في نهاية العمل وتحمل عنوان المجموعة، "أين كنت؟" ويميز هذا العمل أيضاً أن أوكونور يعترف، خاصة في قصة "سحابتان صغيرتان" بأن قصته ربما لقيت صدى في قصة جويس"سحابة صغيرة". ولعل ما يتذكره القارئ عن قصة جويس هو إلقاءها الضوء على حياة شخصيته الرئيسية، وهو رجل حانق على الظروف التي تحيط بحياته فتمنعه من تحقيق أحلامه، ينظر بشيء من القلق إلى المستقبل، ما يحمله على الاستغراق في تأمل الذات سعياً إلى الخلاص. فيما تتناول قصة أوكونور حياة "إيدي فيراجو" بطله في أول أعماله الروائية "رعاة البقر والهنود" 1991. وفيها كوميديا سوداء ساخرة لا وجود لها على هذا النحو في قصة جويس، إذ أن ما يفعله إيدي هو تفسيره لما قام به بأنه ليس أكثر من وهم، وأنه مجرد متبجح لا يسعه إلا أن يسخر من نفسه. لقد ظل يبدد وقته في الجري وراء السراب. مستسلماً لحياة مفرطة في التوهم في مرحلة الطفرة الاقتصادية، وها هو الآن يعود من لندن في 2007. متفائلاً، وما أن تستقر به الحياة في "دبلن" حتى يتراءى له أنه لم يأت إليها إلا لكي يبيع الوهم. في بيته يبدو قلقاً على مستقبل ابنه بعدما ينفصل عن زوجته. وفي دبلن ساوثسايد يستغرق في الثرثرة مع زبائنه الذين يأتون لشراء المنازل التي يسوقها لقاء بضعة ملايين. وها هو بعد أشهر يواجه أزمة انهيار الاقتصاد الإيرلندي، الأمر الذي لا يحتاج منه إلا إلى المزيد من السخرية من نفسه. وربما وجد القارئ كذلك نقاط التقاء أخرى بين أوكونور في مجموعته الجديدة وبين وجويس. فقد كتب كلاهما من وجهة نظر نفوس محطمة من تجارب الوحدة والعزلة والانفصال عن واقعها. شخصيات تتوق إلى وضع نهاية لكل ما يعكر صفو حياتها، كلما توغل المشهد الحياتي في التوحش. تتساءل بنزق عن صفحات طويت من حياتها الماضية، كانت مفعمة بشيء من الأمل. تبحث عنها وسط زوبعة من المشكلات التي يفرزها الحاضر. مشكلات الهجرة، والنزوح إلى لندنونيويورك وغيرها من مدن العالم وتزايد معاناتها في المهاجر. ومشكلات الصراع الديني والسياسي والتطور التكنولوجي السريع الذي يمزق ويعيد تركيب حياة الناس في الداخل، على نحو أفضل أو أسوأ، لكنه يقطع أوصالها، ويحيلها إلى تفاصيل لا تلتقي. إنها في نهاية الأمر، حياة الإيرلنديين منذ القرن الفائت مرورا بالألفية الثالثة، تلك التي لم يتسن لجويس التطرق إليها. يتطرق أوكونور إلى هذه التفاصيل بلغة شاعرية، لغة على حد تعبير النقاد لغة تقارن بلغة الحجر النفيس إن جاز لها أن تعبر عن نفسها بشفافية ووضوح. إن الشخصية الإيرلندية، على الرغم مما يطرأ عليها من مستجدات، تظل مستعصية على فكرة الخروج من جوهرها الإنساني. في قصة "فجر أوركارد ستريت"التي تقع أحداثها في نيويورك عام 1869 يستمع القارئ إلى قصص واقعية يسردها زوجان إيرلنديان مهاجران إلى أميركا عن رحلتهما عبر البحر. وفيما يستمع أطفالهما إلى تلك الحكايات، تطفو على السطح بعض الوقائع الشهيرة الواردة في رواية أوكونور الشهيرة "نجمة البحر" التي تروي قصص المجاعة في ايرلندا ومرحلة ما بعد الحرب الأهلية في أميركا والآمال التي تراود المهاجرين الحالمين بالعودة إلى أوطانهم. هذه القصة تبدو مشوقة للغاية، لكنها مؤثرة، خاصة في جزئها الذي يروي مأساة الأسرة التي تفقد أطفالها بسبب الأزمات المتلاحقة واحدا تلو الآخر. وعندما تغادر الابنة الصغرى الحياة ترسل الزوجة التي لا تعرف الكتابة لأمها في ايرلندا خطاباً يكتبه أحدهم تقول فيه "أكتب لك بقلب جريح، وأنا لا أقوى على التعبير، إن ابنتنا الصغرى قد توفيت يوم الأربعاء الحادي والعشرين، ودفنت في مقبرة كالفاري. لم يتبق لي أمل آخر في الحياة". وقصة "موت موظف عمومي" شديدة التعبير عن حالة الحداثة التي تعيشها مجتمعات القرن الحادي والعشرين. فبطلها الشاب يمر بأزمة نفسية حادة تحفزه على الانتحار. إن مشاعر الحب والمودة والأمل قد اختفت من حياته، في أعقاب موت طفلته الوحيدة وانفصاله عن زوجته وإصابة أبيه بالشلل حتى بات غير قادر على التعبير عن حبه له على الرغم من إيمانه بذلك. في حين تقتفي قصة "أين كنت؟" تفاصيل قصة حب تبدو شبيهة بقصص الحب السينمائية، طرفاها رجل فقد زوجته وشابة لندنية تعمل في مجال السينما وبينما يتأمل القارئ فيما ستكون عليه النهاية، يستمتع جوزيف أوكونور بموهبته الفذة المتمثلة في قلب هذه المشاهد من صورتها التراجيدية إلى كوميديا ساخرة تأتي على لسان شخوصها. جوزيف أوكونور 1963روائي وقاص ومؤلف مسرحي وكاتب ايرلندي. خريج جامعة دبلن يونيفيرستي كوليج، وقد لفتت أولى رواياته، "رعاة البقر والهنود" المرشحة لجائزة وايتبريد أنظار النقاد، ثم تلاها العديد من أعماله الروائية والقصصية والمسرحية إضافة إلى مقالاته الصحفية. من أهم أعماله "نجمة البحر"، "مؤمنون حقيقيون"، "نحيب الملائكة" ومسرحية بعنوان "الورود الحمراء والبنزين".