صلاح الدكاك إحدى أفدح المغالطات التي سوَّقت لها النخب السياسية العربية المعارضة في أوساط شعوب ما يسمى بلدان "الربيع العربي"؛ اختزال منظومة الحكم في شخص الرئيس.. وهو اختزال يستتبع –ضمنياً- اختزال عملية التغيير المنشودة في طقس انتخابي إجرائي كرنفالي شبيه بطقس تبادل الحراسة بين نوبتين على بوابة واحدة، كما واختزال معضلات البلد الشائكة والمعقدة في بضعة نصوص دستورية نظرية يجري تغييرها بأخرى والتغاضي اللئيم عن جذور ومنابع هذه المعضلات التي تُبقِي على حالة الاحتقان قائمة وفي تصاعد ليدخل البلد مجدداً أطواراً أخرى من الفوضى وغَبَشِ الرؤية.. - حصد "الإخوان المسلمون" كراسي الحكم في ثلاثة بلدان على أرضية هذا الاختزال والتبسيط؛ وبما أن هذا التيار الباطني كان - قبل وبعد الاحتجاجات الشعبية- صاحبَ الحضور القوي في السوق والمُتغوِّل الوحيد في الاقتصادين المحلي والدولي بين تيارات المعارضة العربية، فقد كان - بموجب هذه المزايا - "الآخرَ البديل والحصري" و"الخلَف المكتمل الأهلية".. لقد بدا أن انتفاضة الشارع لم تفعل أكثر من كونها مكَّنت "الإخوان" من فوزٍ سهل على قاعدة ضعف منافسهم التقليدي في واجهة الحكم وارتباكه بفعل الانتفاضة... لنفترض أن هدفَ الشعوب من احتجاجاتها كان استبدال رؤساء دميمين وثقيلي دم، برؤساء وسيمين وطريفين.. حتى بهذا المعيار فإنها فشلت فشلاً ذريعاً؛ إذ أن البُدَلاء - بطبيعة الحال لا يمتثلون آية "غض البصر" إلا أمام شيئين: المِرآةَ ووجوه الغالبية البائسة التي يحط عليها الذباب أسراباً، ويعوزها - للخلاص من بؤسها - تغييرٌ جذريٌّ يلامس قاع المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، لا مجرد طبطبة خجولة على سطح المشهد السياسي وتَنَاوُب سحنات حليقة وملتحية على كرسي الحكم... بمقاربة المتغيرات الأخيرة في البلدان الثلاثة تونس وليبيا وبالأخص مصر من زاوية نظر ماركسية، يصعبُ العثور على دلائل تشير إلى أن تحوُّلاتٍ ما ذات قيمة قد حدثت، فالطبقة المسيطرة لا تزال هي الطبقة المسيطرة، ولا يزال البناء الفوقي بنموذجيه "الإخواني" الراهن أو "الوطني السالف"، انعكاساً لمصالحها وتعبيراً مباشراً عن مأزقها إزاء شارع محتقن ينبغي ملاطفته و حَقْنُهُ بالمسكِّنات التي تجعله ينكفئ إلى العشوائيات والمقابر مترعاً بأمل واهم في أن شجرة التغيير ستؤتي أُكُلها عما قريب وستصله ثمارها أينما كان.. إن مفردة "فلول، بقايا نظام، وثورة مضادة" هي مساحيق و"ماسكات" سياسية ترمي من خلالها سلطة الإخوان في مصر إلى ضرب عصفورين بحجر: تشتيت انتباه الشارع عن حقيقة الطبقة المسيطرة التي تنتمي "الجماعة" إليها والتي لا تزال مهيمنة بذات الدرجة من القوة.. وقَسْرَ رموز "الكارتيل الطبقي" على إعادة تقاسم المصالح الكبرى فيه بهيمنة إخوانية تتولى خلالها الجماعة بلورة شروط الشراكة وتحديد الأنصبة لكل طرف في "الكارتيل المؤلف للطبقة المسيطرة".. إن التسليم بالتأويل الإخواني لمفردات "فلول، بقايا النظام، وثورة مضادة" التي تشهرها "الجماعة" كحربة بثلاثة رؤوس في معاركها لاستكمال السيطرة على السلطة، هو - بصورة غير مباشرة- تسليم بأن "الإخوان" هم "الشعب، الشرعية الثورية، والثورة" كتحصيل حاصل.. ولدى الوقوع في هذا الفخ الاصطلاحي يغدو من المُتعذِّر ملاحظة الوشائج الطبقية الوثيقة التي تربط "جماعة الإخوان" بكواليس الحكم، ما يتيح لهم مزية الظهور في مظهر "الجديد الذي جاء من رحم معاناة الشعب" بعد مخاض ثوري مديد وعسير خلافاً لما هو عليه واقع الحال من بون طبقي شاسع يؤبد سيطرة قوى الاستغلال في نسختها الإخوانية على رقاب ضحاياه التاريخيين ببيعة جديدة.. إن السيطرة الاقتصادية هي أساس السيطرة السياسية، و"الإخوان المسلمون" لم يكونوا، طيلة العقود السابقة لبروزهم إلى واجهة الحكم، يدخنون السجائر الرخيصة برؤوس مشعثة وشعر منكوش ويتبادلون روايات "ماركيز وزولا" ويتجادلون حول القيمة الفائضة المضافة، على إيقاع أغاني "عدويه" في مقاهي الشتات.. بل كانوا يعقدون الصفقات بمثابرة ويُناكِبون "الفياجرا" بالخلطات الشعبية ومعاجين الأسنان بعود الأراك، وصالات القمار بالمرابحة والأندية الليلية بمراكز التحفيظ و.... يراكمون الأرباح والفوائد.. لقد هيأ الوضع الاقتصادي المريح للتنظيم الدولي، مناخاً ملائماً لاستيلاء "الجماعة" على مقاليد الحكم حتى في تلك البلدان التي كانت سياساتها طاردة للإخوان ومناهضة لتفشي الإسلام السياسي، مثل تونس.. حيث نَطَّتْ حركة النهضة إلى سدة الحكم مع أول انتخابات جرت عقب إزاحة زين العابدين، انطلاقاً من صفر الشعبية والحضور في الشارع... من حق دعاة الخطاب الغيبي تفسير مثل هذه النقلات الدراماتيكية بالقول إن "الإخوان يركبون لها براق الوعد الإلهي"، ومن حق السماء أن تؤجِّر جيادها النفاثة لمن تشاء وتعمل سائساً لدى من تشاء، لكن ليس من حق أحد أن يمتطي عقلي حتى لو كان السماء ذاتها... إن اتكاء "الإخوان ونظرائهم من مرابين وقطط سمان في الكارتيل الطبقي"، على رصيد نفوذهم القوي في السوق دوناً عن التيارات السياسية المعارضة الأخرى، لا يكفي وحده لإعادة إنتاج شرعيتهم في البناء الفوقي على شكل وليد ثوري طاهر اليدين ولا سوابق له في لعبة الحكم أو شبهات صلة مع هذا البناء.. فلحصول كل ذلك كان ينبغي بدءاً - اختطاف حركة الشارع المحتقن طبقياً بمعاناة القوى العاملة المنضوية في السوق أو الملفوظة منها وأرتال البطالة وغير المدمجين فيها بفعل مضاعفات العولمة.. غير أن اختطاف حركة الشارع وجَرْفَه باتجاه تدعيم مصالح الطبقة المسيطرة، لم يكن ليحدث، ولا أستطيع أن أفهم حدوثه، إلا كنتيجة لاتكاء "الإخوان" على أكتاف القوى التقدمية "سابقاً، أنصاف البرجوازية الطامحة حالياً" وعلى تواطؤها لا على غيابها أو تغييبها.. إن هذه القوى المتواطئة ؛ التي ظلت تستدر شفقة الجماهير من خلال الظهور في مسوح "الضحية التاريخية لمؤامرة إمبريالية لئيمة"، لا تفتقر - بطبيعة الحال- للجشع الذي لدى أطراف "الكارتيل المسيطر" بل لمستوى القدرات والنفوذ الذي تتمتع به تلك الأطراف.. لقد كان على هذه القوى المتحرجة من ماضيها الأيديولوجي كما لو أنه الجذام، أن تلتحق بالسوق وتدخل لعبة "البزنس" بالتشبيك مع هواميرها، وأن تقامر برصيد قربها من الجماهير لتجسير الفجوة بينها وبين السلطة بما هي ذراع محلية لمركز الهيمنة الدولية.. كانت هذه القوى تدرك "في مصر كمثال أوضح" انتفاء جهوزية البني الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير لخوض عملية سياسية تقليدية "انتخابات" تفرز واقعاً جديداً، في ظل هيمنة موازين القوى القديمة ذاتها، قياساً بجهوزيتها الثورية المرتفعة نسبياً لحلحلة هذه الموازين.. لذا فإن صناديق الإقراض كانت قتلاً للمخاض الثوري عوضاً عن أن تتمخض عن جديد يطرح كسرة كرامة أو كسرة خبز على موائد الغالبية المحرومة والكادحة... إن خيبة أمل الشعب المصري في "جديدة السياسي غير الجديد" ومحاولته استعادة "خيار التغيير الراديكالي" مجدداً بالعودة إلى ميدان التحرير، كانت خيبة أمل متوقعة وبديهية وقد طرحت تعبيراتها بصورة مبكرة في الشارع التونسي الذي أشاحت عنه عدسات الإعلام لمغزى غير خفي، فيما تتجلى الخيبة ذاتها على نحو أكثر كارثية في ليبيا المكتظة بالمليشيات المتناحرة.. - لديَّ ما يشبه اليقين في أن قوىً عاملةً تونسية أكثر تنظيماً وغيرَ مثقلة بساسة الأبراج العاجية، هي ما تحتاجه مصر في اللحظة الراهنة لتلافي الوقوع في فخ توفيقي محتمل تعمل على انجازه أصابع المخرجين ذاتهم بشحنة تمويه مضاعفة.. .....فَكِّروا في سيناريو آخر متوقع؛ عدا سيناريو مدرعات الجيش وهي تنزل محفوفة بالهيبة إلى شوارع القاهرة.. والمجلس العسكري وهو يتدخل لصالح "الشعب" ويتلو بيانه الأول.. مثل هذا السيناريو صار مكروراً ومزاج الشارع المصري ملول بطبيعة الحال.. ..................................................................... * الكارتيل: تحالف مجموعة شركات للهيمنة على السوق.