الدول الجديدة ليست كلها جديدة حقاً، فبعضها ولد كامل التكوين، في حين يتعين على الآخر أن يبدأ من الصفر. أكثر من نصف الدول الأحدث عهداً في العالم ولدت أو أعيدت ولادتها بعد انهيار الشيوعية في أوروبا، وكانت في السابق بلدانا مستقلة لعهد يرجع أحياناً إلى العصور الوسطى، أغلبها نال استقلاله ومعه مؤسسات راسخة من محاكم وبنوك وقوات شرطة ومدارس وعمالة ماهرة لإدارة كل تلك المؤسسات. وبعد 10 سنوات أو ما يقرب، من التغيير الاقتصادي الحاد بدأت أماكن مثل كرواتيا واستونيا وسلوفينيا، تشهد انتعاشاً يعززه وعد بالعضوية في الاتحاد الأوروبي، وتمكنت دول شيوعية سابقة مثل جمهورية التشيك من تجاوز الأزمة المالية العالمية بصورة أفضل من دول مجاورة أكثر ثراء. وعلى الطرف الآخر من هذه المجموعة دول حديثة أفقر بكثير، مثل جنوب السودان واريتريا وتيمور الشرقية وجميعها ولدت بعد صراع مسلح، ولا تملك الكثير من المؤسسات أو حتى العناصر البشرية الماهرة التي تحتاج إليها الدول كي تنهض بنفسها. وجنوب السودان مثال صارخ على ذلك، فعندما أبرم مع السودان معاهدة سلام عام 2005 تنص على إجراء استفتاء على الانفصال كان الجيش هو من بدأ المؤسسات الوطنية وأتمها. وكانت رغبة الانفصال مفهومة، فأغلب سكان جنوب السودان بينهم وبين سكان الشمال فروق عرقية ودينية عميقة. لكن عندما نال الجنوب الاستقلال الكامل العام الماضي، كان ربع سكانه فقط هم الذين يعرفون القراءة والكتابة، ولا يلتحق بالمدارس الثانوية إلا 2٪ وحسب، ممن هم في تلك المرحلة السنية. ولا تتجاوز الطرق الممهدة فيه 300 كيلومتر كما أن أكثر من ربع السكان سيحتاجون مساعدات غذائية هذا العام. وإذا كان لنا أن نقيس حال جنوب السودان بحال دول مجاورة أكثر نموا مثل اثيوبيا وتشاد فسنجد أنه يتعين عليه الاعتماد على الأممالمتحدة وهيئات الإغاثة لسنوات مقبلة حتى إذا حقق نمواً سريعاً وسلساً. قالت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة الخاصة بجنوب السودان هيلدا جونسون ل«رويترز» قبيل الذكرى السنوية الأولى للاستقلال في يوليو الماضي «في حالة جنوب السودان، لا نعيد الإعمار، لا نعيد البناء، بل نبدأ من الصفر»، وتظهر أكثر من 10 مؤشرات رئيسة في 31 دولة تأسست أو أعيد بناؤها منذ عام 1990 مدى كبر القفزة التي تواجه جنوب السودان. فأغلب أنجح الدول الجديدة لديها سمات تساعد على النجاح منذ البداية: جيران ينعمون بالاستقرار ويتسمون بالسخاء عادة، مؤسسات قوية، سكان يجمع بينهم التجانس والتعليم الجيد، وفساد منخفض نسبياً. أفضل الدول أداء، مثل جمهورية التشيك وسلوفاكيا وليتوانيا واستونيا، وكذلك أنجح مثال هو ألمانيا بعد إعادة توحيدها، هي تلك التي لديها أطول خبرة في إنشاء مؤسسات الدولة والحكومات المركزية. كما أن من الملاحظ أنها دول مواردها الطبيعية محدودة واقتصاداتها تقوم على التجارة. وفي ما يتعلق بقياسات تشمل متوسط الأعمار ومؤشرات الفساد والتعليم وحرية الصحافة وسيادة القانون سجلت الدول الشيوعية السابقة في شرق أوروبا تحسناً بصفة عامة أكثر من الدول الجديدة في مناطق أخرى. وعلى عكس ذلك، كان أداء دول غنية بالموارد مثل روسيا وتركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان جيداً في أرقام مجمعة مثل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لكنها تتذيل القائمة عندما يتعلق الأمر بفاعلية الحكومة وسيادة القانون والشفافية. وهذا ليس مفاجئا، فالاقتصاديون يعلمون أن ضعف المؤسسات يمكن أن يكون مدمرا إذا صاحبته وفرة المال. ومن أسوأ الدول الجديدة أداء طبقاً للكثير من القياسات اليمن، بعد اندماج شطريه باقتصاده المتداعي وغياب الحكومة الفعالة. وفي حين يحاول اليمن الاستفادة من احتياطيات الغاز الطبيعي من المرجح أن يتسبب الفساد والنمو السكاني السريع في استمرار الفقر. لكن الصورة ليست بالغة السوء، فكثير من أفقر الدول الحديثة العهد شهدت تحسنا في الدخل والصحة خلال ال20 عاما الماضية. حتى في الحالات التي عجزت فيها المساعدات الدولية عن إشاعة الاستقرار فإنها كثيرا ما كانت تنقذ أرواحاً. فقد شهد اليمن واريتريا، وهما من أكثر الدول اضطراباً، تحسناً ملحوظاً في متوسط الأعمار. كما تراجع معدل الوفيات بين الأطفال حديثي الولادة في كل الدول ال31 الأحدث عهداً وتقلص معدل التسرب من التعليم. حتى في الصومال الذي يعتبر بصفة عامة أكثر دول العالم اضطراباً حالت المساعدات الدولية دون حدوث ارتفاع كبير في معدل الوفيات بين الأطفال. لكن حتى الأصدقاء المخلصين لا يضمنون النجاح. فرغم كل الدعم الذي تتلقاه على سبيل المثال جمهورية كوسوفو اليوغوسلافية السابقة من الغرب ورغم نموها الاقتصادي السريع، فإنها تعاني الفساد والجريمة المنظمة. ومن العوامل السلبية الأخرى حالة الغموض القانوني التي تحيط بها وعدم اعتراف موسكو أو بكين بها واعتمادها بشدة على الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في الحصول على المساعدات والحماية. وفي حالة جنوب السودان دعمت الولاياتالمتحدة وقوى أخرى ميلاد الدولة الجديدة ليس لاعتقادها بأن لها مستقبلاً مشرقاً، بل لأن الاستقلال بدا أفضل من البديل، وهو استمرار حرب أهلية امتدت لعقود وسقط فيها نحو مليوني قتيل. وقدم المتمردون الجنوبيون ومؤيدوهم الغربيون حجة مقنعة مفادها أن جنوب السودان يستحق أن يكون حراً. يقول جون تمين، وهو عامل إغاثة محنك سابق ويترأس الآن مشروع السودان، «المجتمع الدولي لا يمكنه بناء الدول، بل يتعين على الدول أن تبني نفسها، نحن نقدم المساعدة فقط، ونحقق نتائج جيدة جدا في الحيلولة دون فقد الأرواح، لكننا لا نجيد بناء المؤسسات».