مختارات من نصوص التراث(1) هذه مجموعة من النصوص اخترتها من كتب التراث العربي والإسلامي؛ مستعينا بالموسوعة الشعرية المسماة بموسوعة الشعر العربي، ومستعينا كذلك بمجموعة من الكتب التراثية والمواضيع المتعلقة بالتراث مما أقوم بتنزيله من على شبكة الإنترنت، وببعض الكتب والمجلات المطبوعة التي أقتنيها. إن الهدف من اختياري هذه النصوص هو استخلاص العبرة من التاريخ، بالمقارنة بين أحداث عصر وعصر، وحوادث زمان وزمان، ومكان ومكان آخر، وذلك بالاطلاع على فكر من سبقنا إلى الوجود من الناس، وعلى نظمهم السياسية والثقافية والاجتماعية، وعلى ما مروا به من أحداث. ولعل لهذه النصوص المختارة، أو لبعضها على الأقل، علاقة وثيقة بحاضرنا الذي نحياه الآن، وبثقافتنا المعاصرة. هذا، وقد ابتدأت بذكر نُتف من صور الديمقراطية ومحاسنها، ثم نويت إيراد مجموعة من النصوص التراثية أكتبها على حلقات بعونه تعالى. واللهَ أسألُ أن يوفقنا إلى ما فيه خيرنا في ديننا ودنيانا. وصلى الله على رسوله محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. إنني من الذين يرون في الديمقراطية بمفهومها النابع من قيم الدين خلاصا من كل مانعانيه من نوازل وبلايا في حياتنا على مر العصور، بل إن الديمقراطية عندي كأنها ركن من أركان الإيمان، وهي في نظري كالغانية فائقة الجمال ، التي ترمقها العيون خلسة او جهارا لتلتذ بما منحها الله تعالى من حسن فائق، والتي من المفترض ان لا ينكر جمالها منكر؛ ذلك لأن الديمقراطية تعادي الاستبداد بجميع أشكاله، ومن يعترض عليها يكون كأنه يعترض على خالقه جل وعلا، الذي خلق الناس أحرارا ، وأمرهم بالتشاور فيما بينهم حين تعرض لهم إشكالات في كيفية إدارة شؤون حياتهم السياسية والاجتماعية، وان لا يطغى رأي الفرد على رأي الجماعة مهما كانت الظروف. ولنا في رسول الله أحسن أسوة حين أمره الله تعالى بمشاورة أصحابه. ورب ظانٍّ يظن أنني أتناسى شرع الله سبحانه، أو كأنني أهمله لا سمح الله؛ ولكنني أقصد إلى أن القيم الفطرية السوية، التي فطر الله الناس عليها، وسوّى بها نفوسهم لا مشورة فيها عند أي قوم عقلاء. فلن تجد بين كل الشعوب إلا من انحرف بعض أفراده عن جادة الصواب بانحرافه عن الفطرة من يستفتي الناس على الكذب والحسد والنميمة، ولا على الغدر والخيانة، ولا على أكل مال اليتيم، ولا على قتل النفس بغير حق، ولا على المجاهرة بالزنا، ولا على زواج المثليين..فكل ذلك وغيره من أضعافه لا حرية لأحد في فعله؛ وإنما الحكومة المنتخبة من برلمان منتخب هي التي تقوم بمنعه والمعاقبة على فعله بالنيابة عن الشعب؛ مرتكزة في ذلك على ما شرع الله لخلقه من طرق الاستقامة على الحق. طالعت مرة مقالة، أو جزءا من كتاب لأحد الكتّاب لا يحضرني اسمه الآن، من الذين يُسمّون بالحداثيين، وقد أضاف إلى مقاصد الشريعة مقصدا سادسا ألا وهو" الحرية "، وحسنا فعل ذلك الكاتب جزاه الله خيرا. فمقاصد الشريعة ،كما هو معلوم، عند أهل الأصول خمس: حفظ الدين، وحفظ النفس ، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال. والحرية وإن كانت مما تتضمنه المقاصد دون تصريح، فإن ذكرها كمقصد مستقل لا يعيب عندي من أضافها، بل إن ذكرها يركز عليها الاهتمام بما تستحقه منه. والناس جميعا؛ عربا وغير عرب، ومسلمين وغير مسلمين، عاشوا قرونا كثيرة تحت نير الاستبداد؛ لكنّ منهم من تخلص من تلك العيشة السيئة المهينة ولو بمقدار قل أو كثر، ولو أيضا بعد لأي ومخاسر جمة، ومنهم الذين ما يزالون يرزحون تحت عبء الاستبداد، وثقل الرزايا الناتجة عنه، بل إن منهم من يستعذبه من كثرة ما دَرِبَ به واعتاد عليه ومارسه، وأصبح لا يرى انتظام الحياة إلا به؛ سواء على مستوى الأسرة، أو العشيرة، أو على مستوى الحكام. وقد وجدنا العديد من الناس بيننا من يقول مثلا: الشعب الفلاني لا يستحق إلا قسوة فلان من الحكام المستبدين، والشعب الفلاني الآخر لا تصلح له الديمقراطية ، بل يصلح له الدّعس بالأقدام، وذلك لمساوئ يرونها فيه، ونسي أولئك أن المساوئ لا تكثر إلا في الشعوب التي لم تذق طعم الديمقراطية ولم تعتد عليها. وبما أن الشيء بالشيء يذكر في العادة، فإن أخاً لي وقد جاوز الثمانين بقليل يكره كلمة " ديمقراطية "، بل ويمقتها، ويرى أن الحكام يجب أن يكونوا من العسكر؛ لأن بيدهم القوة والمنعة، ولأنهم يذودون عن البلاد في حال الاعتداء عليها... وعبثا حاولت إقناعه بالعدول عن فهمه هذا، وضربت له أمثلة من صدر الإسلام حين كان قادة الجيوش يأتمرون بأمر الخليفة وأهل مشورته ممن كانوا يسمون بعد ذلك بأهل الحل والعقد، وأن شغلهم كان ينحصر في قيادة الجيوش ووضع الخطط العسكرية. وأخي الذي ذكرته نشأ مثل الكثيرين غيره على اعراف وتقاليد تنأى عن المشورة وتحب الاستبداد بالرأي، وتعد ذلك من الرجولة بمكان، مع ان أخي رجل متدين تقي، لا يأكل الحقوق ولا يشهد الزور ولا يرتكب غير ذلك من المساوئ . ولقد طالعت نصوصا تراثية في الكتب التي ذكرت محاسن الأشياء وأضدادها فألفيت من الناس من ظن المشورة عملا سيئا؛ انطلاقا من ظنه أن الذي يطلب المشورة يحقر نفسه. ففي كتاب: (تحسين القبيح وتقبيح الحسن لأبي منصور الثعالبي) جاء ما يلي: " كان عبد الملك بن صالح الهاشمي يقول: ما استشرت أحداً قط إلا تكبر عليّ، وتصاغرتُ له، ودخلته العزة، ودخلتني الذلة. فإياك والمشورة، وإن ضاقت بك المذاهب، وأداك الاستبداد إلى الخطأ والفساد. وكان عبد الله بن طاهر يقول: ما حكّ ظهري مثل ظفري، ولأن أخطئ مع الاستبداد ألف خطأ أحب إليّ من أن أستشير، فأُلحَظَ بعين النقص والحاجة." أه. ثقافة خاطئة ورثناها في المشورة، وتناسينا محاسنها؛ فعانينا منها ما عانينا، وما نزال نعاني. شورى (ديمقراطية) حقيقية لم يستغلها العرب والمسلمون: وفي تاريخنا العربي الإسلامي نماذج مشرفة ولو أنها قليلة تبين حسن الديمقراطية وجمالها، ومن هذه النماذج، تولي أبي بكر ومن بعده عمر الخلافة، ثم عثمان، ثم علي( رضي الله عنهم جميعا)، والذي في عهده نبذ قسم من الناس الشورى وراء ظهورهم، وأبوا التسليم للخليفة المنتخب؛ محتجين بقتل عثمان، مع أن هذا الأمر من حق الخليفة كي يرى فيه هو ووزراؤه وقضاته رأيهم، وما كان لعلي أن يفرط في حق أحد، أو يُنقص من أحكام الشريعة في القصاص من القتلة أي مقدار. ابتعاد عن الشورى أدى بنا إلى فرقة شنيعة، واستبداد في النظام السياسي ليس بعده من استبداد. ونموذج آخر: "لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر: مالي ولك؟ تنحّ عني، إنما أنا رجل من المسلمين. ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس! إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طَلِبَةٍ له، ولا مشورةٍ من المسلمين، وإني قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون. فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك." (البداية والنهاية لابن كثير ). والله اكبر ولله الحمد. ولعل حادثة حدثت مع عمر بن العزيز أيام كان واليا على المدينةالمنورة للوليد بن عبد الملك سنة 93ه كان لها أبلغ الأثر في استقامته وتقواه ( ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية) وهي أنه: " ضربَ خُبَيْبَ بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا بأمر الوليد له في ذلك، وصب فوق رأسه قربة من ماءٍ باردٍ في يوم شتاءٍ باردٍ، وأقامه على باب المسجد يوم ذلك فمات رحمه الله. وكان عمر بن عبد العزيز بعد موت خبيب شديد الخوف لا يأمن، وكان إذا بشر بشيء من أمر الآخرة يقول: وكيف وخبيب لي بالطريق؟ وفي رواية يقول: هذا إذا لم يكن خبيب في الطريق، ثم يصيح صياح المرأة الثكلى، وكان إذا أثني عليه يقول: خبيب وما خبيب إن نجوت منه فأنا بخير. وما زال على المدينة إلى أن ضرب خبيباً فمات فاستقال وركبه الحزن والخوف من حينئذ، وأخذ في الاجتهاد في العبادة والبكاء، وكانت تلك هفوة منه وزلة، ولكن حصل له بسببها خير كثير، من عبادة وبكاء وحزن وخوف وإحسان وعدل وصدقة وبر وعتق وغير ذلك." أه. ورحم الله عمر بن عبد العزيز وغفر له. وقصة أخرى: معاوية بن يزيد يخشى الله تعالى: "وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن ابن جعدبة عن صالح بن كيسان قال: ولّى يزيدُ بن معاوية معاويةَ بن يزيد ابنه الخلافة بعده وكان كارهاً لها، فلما مات أبوه خطب الناس فقال: إن كانت الخلافة خيراً فقد استكثر آل سفيان منه، وإن كانت شراً فلا حاجة لنا فيه، فاختاروا لأنفسكم إماماً تبايعونه هو أحرص على هذا الأمر مني، واخلعوني فأنتم في حل من بيعتي، فقالت له أمه أم هاشم: لوددت يا بني أنك كنت نسياً منسياً وأنك لم تضعف هذا الضعف، فقال: وددت والله أني كنت نسياً منسياً ولم أسمع بذكر جهنم، فلما احتُضر قيل له: لو بايعت لأخيك خالد بن يزيد فإنه أخوك لأبيك وأمك، فقال: يا سبحان الله كُفيتها حياتي وأتقلدها بعد موتي؟! " (أنساب الأشراف للبلاذري) ورحم الله الرجل الصالح معاوية بن يزيد. وحكاية بديعة: الزهد في الإمارة والفرح بانتهاء مدتها: "يحكى عن قاطني أحد البلاد في أقاصي بلاد المغرب أن الإمارة تدور فيما بين أعيانهم وثُباتهم على نُوَب يقوم بها من ينوبه ثلاثة أشهر، ثم ينعزل عنها بنفسه عند انقضاء أمدها؛ فيتصدق شكرا، فيرجع إلى أهله مسرورا، كأنما أُنشِط(حُلَّ) من عِقال، ويشتغل بشأنه - وذلك لأن حقيقة الإمارة والرياسة هي هجر الراحة لراحة المَسوسين في إنصاف مظلومهم من ظالمهم، وإتعاب البدن في الذياد(الدفع والحماية) عنهم وحمايتهم في أهليهم وأموالهم ودمائهم، وإنصاب(إتعاب وإرهاق) النفس في إنشاء التدابير للقتال دونهم والذب عن جمهورهم." (الجماهر في معرفة الجواهر للبيروني) ورضي الله عن أولئك الأمراء. وإلى لقاء آخر دنيا الوطن