غندوزي يصدم لاتسيو الايطالي    مانشستر يونايتد الإنجليزي يعلن رحيل لاعبه الفرنسي رافاييل فاران    الروح الرياضية تهزم الخلافات: الملاكمة المصرية ندى فهيم تعتذر للسعودية هتان السيف    ارتفاع طفيف لمعدل البطالة في بريطانيا خلال الربع الأول من العام الجاري    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزي في وفاة الشخصية الوطنية والقيادية محسن هائل السلامي    أمين عام الإصلاح يبحث مع سفير الصين جهود إحلال السلام ودعم الحكومة    الحوثيون يواصلون لعبتهم الخطيرة وامريكا تحذر    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    كريستيانو رونالدو يسعى لتمديد عقده مع النصر السعودي    المنامة تحتضن قمة عربية    اليابان تطالب بتعزيز الآليات القائمة لمنع عمليات النقل غير المشروع للأسلحة للحوثيين مميز    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    بريطانيا تؤكد دخول مئات السفن إلى موانئ الحوثيين دون تفتيش أممي خلال الأشهر الماضية مميز    صحفي "جنوبي" يرد على القيادات الحوثية المتضامنة مع المحتجين في عدن    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    مجازر دموية لا تتوقف وحصيلة شهداء قطاع غزة تتجاوز ال35 ألفا    نقل منصات إطلاق الصواريخ الحوثية استعدادًا للحرب واندلاع مواجهات شرسة مع الأهالي ومقتل قيادي من القوة الصاروخية    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    المبادرة المُطَالِبة بالكشف عن قحطان تثمن استجابة الشرعية وتحذر من الانسياق وراء رغبات الحوثي    طعن مواطن حتى الموت على أيدي مدمن مخدرات جنوب غربي اليمن.. وأسرة الجاني تتخذ إجراء عاجل بشأنه    الحوثيون يواصلون افتعال أزمة الغاز بمحافظتي إب والضالع تمهيد لرفع الأسعار إلى 9 آلاف ريال    قائد الحراك التهامي السلمي يعقد لقاء مع المعهد الديمقراطي الأمريكي لبحث آفاق السلام    الحوثيون يواصلون حملة اعتقال الطلاب الفارين من المراكز الصيفية في ذمار    تحميل لملس والوليدي إنهيار خدمة كهرباء عدن مغالطة مفضوحة    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    الدولة العميقة ومن يدعمها هدفهم إضعاف الإنتقالي والمكاسب الجنوبية    اعضاء مجلس السابع من ابريل لا خوف عليهم ويعيشون في مأمن من تقلبات الدهر    بيان عاجل لإدارة أمن عدن بشأن الاحتجاجات الغاضبة والمدرعات تطارد المحتجين (فيديو)    برشلونة يرقص على أنغام سوسيداد ويستعيد وصافة الليغا!    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    ليفربول يسقط في فخ التعادل امام استون فيلا    "نكل بالحوثيين وادخل الرعب في قلوبهم"..الوية العمالقة تشيد ببطل يمني قتل 20 حوثيا لوحده    استعدادات حوثية للاستيلاء على 4 مليار دولار من ودائع المواطنين في البنوك بصنعاء    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    لاعب منتخب الشباب السابق الدبعي يؤكد تكريم نجوم الرياضة وأجب وأستحقاق وليس هبه !    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    سيف العدالة يرتفع: قصاص القاتل يزلزل حضرموت    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع ''صنعاء القديمة''    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    ميلان يكمل عقد رباعي السوبر الإيطالي    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    أفضل دعاء يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال.. ردده الآن يقضى حوائجك ويرزقك    بالفيديو...باحث : حليب الإبل يوجد به إنسولين ولا يرفع السكر ويغني عن الأطعمة الأخرى لمدة شهرين!    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    قل المهرة والفراغ يدفع السفراء الغربيون للقاءات مع اليمنيين    مثقفون يطالبون سلطتي صنعاء وعدن بتحمل مسؤوليتها تجاه الشاعر الجند    هناك في العرب هشام بن عمرو !    قارورة البيرة اولاً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الخليج" تنشر حلقات من كتاب "مستقبل البترول العربي في كازينو العولمة" (3)
نشر في الجنوب ميديا يوم 23 - 01 - 2014

قال وزير الطاقة الأمريكي رتشاردسون أيام الرئيس كلنتون سنة 1999: "لقد كان البترول محور القرارات الأمنية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال القرن العشرين، والنفط كان وراء تقسيمات الشرق الأوسط إلى دويلات بعد الحرب العالمية الأولى" . وكما سنبينُ في كتاب "مستقبل البترول العربي في كازينو العولمة" لمؤلفه د .عبدالحي يحيى زلوم فقد أصبح النفط في كازينو اقتصاد العولمة إضافة إلى كونه مصدراً للطاقة غطاءً واقعياً للدولار بعد كشف غطاء الذهب عنه، وبذلك سمح للدولار أن يبقى عملة الاحتياط العالمية وهو أمر أساسي لبقاء أي إمبراطورية .
يبين هذا الكتاب عورات اقتصاد العولمة وما يحدثه من سرقة موارد الدول تحت أرقى المسميات وأحط الأساليب وبمساعدة مؤسسات سرية وشبه سرية وعلنية على طرفي الأطلسي .
هللّت قنوات الإعلام الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً لخبر ادعت فيه أن استقلال الولايات المتحدة النفطي قد أصبح قاب قوسين أو أدنى بعد أن زاد الإنتاج النفطي الأمريكي عن نظيره السعودي خلال سنة 2013 ما يجعل النفط العربي والسعودي ذا أهمية دنيا بالنسبة إلى واشنطن . لكن هذا الكلام هو من باب التمني ولا صلة له بالواقع كما سنبين في الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب .
إن هذه الفرقعة الإعلامية مبنية على أسس خاطئة لو أحسنا الظن، أو أنها بنيت على خطأ لغرض في نفس يعقوب عن سابق معرفةٍ وتصميم ولعل هذا هو الأرجح .
أما إنتاج النفط في الولايات المتحدة فهو ما زال أقل من إنتاج السعودية: أمّا لو تمّت إضافة السوائل الخفيفة المصاحبة لإنتاج الغاز، والزيادات الناتجة عن اتحاد الهيدروجين مع النفط في عمليات التكرير، وكذلك الميثانول المستخرج من النباتات أو المنتوجات الزراعية، عندئذٍ يصبح المجموع لهذه المواد الهايدروكربونية مساوياً أو يزيد قليلاً على إنتاج السعودية سنة 2013 والتي ستزيد إنتاجها بدورها مليوني برميل خلال سنتين .
كذلك فإن الولايات المتحدة ستبقى مستوردة للنفط إلى يوم يبعثون حيث إنّ عجزها اليوم حتى بعد كل الإضافات غير الأحفورية التي ذكرناها، فإنها بحاجة إلى استيراد ما يعادل ضعف إنتاج الكويت من النفط يومياً، إضافة إلى أن تكلفة إنتاج البرميل الواحد في الولايات المتحدة يزيد حوالي 20 ضعفاً على معدّل تكلفة إنتاج نظيره العربي أو السعودي، إضافة إلى أن أكثر عائدات النفط العربي تعود إلى الخزانة الأمريكية بشكل سندات مما يدعم دور الدولار كعملة الاحتياط العالمي .
قرار الرئيس الأمريكي نيكسون في أغسطس/آب 1971 بتجاوز اتفاقية بريتون وودزكان له آثاره العميقة على الاقتصاد العالمي، غير أن قصة اعتماد الاقتصاد الأمريكي على كميات لا حد لها من الأوراق النقدية التي لا تحظى بأي تغطية تذكر قد سبق هذا التاريخ بأكثر من عشرة أعوام . وعليه فإن دور نيكسون في هذه القضية لم يكن الدور الرئيسي بأي حال .
ففي عام ،1957 وفي عهد الرئيس دوايت ايزنهاور، تجاوز حجم الأموال الخارجة من الولايات المتحدة تلك الداخلة إليها لأول مرة منذ تطبيق اتفاقية بريتون وودز عام ،1944 لسبب مختلف هذه المرة . فقد وجدت البنوك الأمريكية بأن الاستثمار في الخارج سيكون لها أجدى بكثير من وضع أموالها في مشاريع داخل الولايات المتحدة في وقت من المعروف فيه بأن ولاء هذه البنوك هو لميزانياتها في المقام الأول . وهكذا نجد بأن المؤسسات المتعددة الجنسيات بدأت الاستثمار وإقامة المنشآت الإنتاجية في مواطن العمالة الرخيصة في أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا، مع الإبقاء على أرباحها في الخارج .
بعدها جاء عامل الإنفاق العسكري الذي تضاعف بشكل أصبح يستنزف الآن حصة كبيرة من الاقتصاد الأمريكي . أصبحت الولايات المتحدة بحاجة إلى أموال طائلة لتشغيل قواعدها العسكرية في أنحاء العالم، إضافة إلى الحرب في فيتنام التي تطلبت في مرحلة الذروة وجود 589 ألف جندي أمريكي هناك .
يضاف إليهم نحو 600 ألف ينتشرون في قواعد حول العالم، فضلاً عن آلاف آخرين يجوبون بحار العالم على متن أكثر من 600 سفينة حربية تتكون منها الأساطيل الأمريكية العديدة، فهؤلاء بحاجة إلى دولارات، وهذه الدولارات تبقى خارج الولايات المتحدة .
تمويل حرب فيتنام
في عام 1963 وصل ليندون جونسون إلى البيت الأبيض خلفًا لجون كيندي، وكان أول من لجأ إلى طباعة أوراق النقد الأمريكية من دون تغطية كافية من احتياطات البلاد من الذهب المخزنة في Fort Knox بدلاً من اللجوء إلى خيار رفع الضرائب لتمويل الحرب المستمرة في فيتنام، وبرنامج التغييرات الاقتصادية / الاجتماعية، الذي عرف وقتها ببرنامج المجتمع العظيم . كانت النتيجة بيع المزيد من سندات الخزانة الأمريكية وتضخم كبير في عجز الموازنة الاتحادية، من ثلاثة مليارات دولار في أوائل الستينات، لينمو بنسبة 300% عام ،1967 وإلى أكثر من 800% في العام التالي . وبحلول عام 1970 كان حجم الدولارات المتداولة في سوق لندن الأوروبي يصل إلى 1،3 تريليون دولار، وهو مبلغ يشير بوضوح إلى أن الولايات المتحدة كانت تطبع الأوراق المالية من دون تغطية كافية من احتياطات الذهب .
عرف ديغول بالسرّ فتمت ازاحته
في هذا الوقت بدأت الشكوك تساور الرئيس الفرنسي شارل ديغول ومستشاريه الماليين حيال الفجوة الجلية بين حجم الدولارات المتداولة وما تملكه الولايات المتحدة من احتياطات من الذهب، الأمر الذي دفعه لانتهاج خط سياسي واقتصادي أوروبي ينطوي على قدر من الاستقلال عن واشنطن فكان أن عمل مع المستشار الألماني كونراد اديناور على التوصل إلى المعاهدة الفرانكو ألمانية . مثل هذا التطور عبر الأطلسي لم يرق لواشنطن، فكان أن مارست الضغوط على ألمانيا لإفشالها . وبالفعل، فقبل يومين فقط من التصويت على المعاهدة في البوندستك (البرلمان) الألماني عام 1963 تم طرح الثقة بالمستشار اديناور الذي ترك منصبه ولم يكتب للمعاهدة أن تخرج إلى النور .
وفي غضون ذلك كان الجنرال ديغول قد نجح في سحب ألمانيا من تحت مطرقة الضغط الأمريكي . وكانت الولايات المتحدة عام 1961 في عهد الرئيس جون كيندي قد طلبت من البنوك المركزية في أكبر عشر دول صناعية، بالحفاظ على ما لديها من دولارات، بغية التخفيف من حدة الاستنزاف الحاصل في حجم احتياطات الذهب الأمريكية، وكذلك الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية ما يعني في الواقع إسهامًا فعليًا في الحروب الأمريكية . كان رد ديغول بالطلب من واشنطن تخفيض قيمة الدولار، الأمر الذي عارضته بنوك نيويورك بشدة . وهكذا استمرت كميات الدولار في الخارج بالتصاعد السريع مقابل المزيد من الاستنزاف في حجم احتياطات الولايات المتحدة من الذهب .
الذهب الورقي
في عام 1968 كررت الولايات المتحدة التصرف نفسه عندما كشفت النقاب عن مشروع آخر في اجتماع لمجموعة العشر لإيجاد "الذهب الورقي"، وهو بديل عن الذهب كاحتياط لتغطية العملة الورقية من خلال صندوق النقد الدولي أطلقت عليه اسم "حقوق السحب الخاصة SDR لقي المشروع الأمريكي الجديد معارضة من قبل الحكومة الفرنسية وأصر وزير المالية ميشيل ديبري وقتها على العودة إلى اتفاقيات بريتون وودز . كما كررت فرنسا طلبها الخاص بتخفيض قيمة الدولار أمام الذهب . جاءت ردة الفعل الأمريكية عنيفة هذه المرة، حيث شنت البنوك الأمريكية والبريطانية هجمة مشتركة على الفرنك الفرنسي، متسببة في استنزاف 30% من احتياطات الذهب الفرنسية قبل نهاية عام 1968 وتفجرت المظاهرات وأعمال العنف في الشوارع الفرنسية وخلال عام واحد أصبح الجنرال ديغول خارج قصر الإليزيه .
بداية السبعينات الحرجة
تعد أوائل السبعينات فترة تحول كبير بالنسبة للشرق والغرب على حد سواء وما زالت حالة المد والجزر في النفط تتحكم بمعظم هذه العملية . غير أن ما بدا مصدرًا للثروة الهائلة منذ اكتشافاته الرئيسية في القرن التاسع عشر تحول الآن إلى جزء لا يتجزأ من المال نفسه وإلى أداة رئيسية في تغيير وجه الأسواق العالمية بصورة جذرية . جاءت سلسلة من الأحداث المهمة التي قد لا تبدو مترابطة في الظاهر لتقود إلى مثل هذا التحول، وكان أولها توقعات البعض مثل م . كنغ هوبرت القائلة بأن الإنتاج النفطي الأمريكي في الولايات ال"48 التحتية" سيصل إلى نقطة الذروة عام ،1970 ليبدأ بعدها مرحلة من الانحدار التدريجي، وهو ما تحقق بالفعل، حيث أصبحت الولايات المتحدة عام 1970 مستوردة للنفط، وفي العام التالي سجلت البلاد أول عجز في ميزانها التجاري .
وفي العام المذكور كان حجم الدولارات الأمريكية المتداولة في الأسواق العالمية يقترب من 300 مليار دولار، بينما كان حجم احتياط البلاد من الذهب في فورت نوكس لا يزيد على 14 مليار دولار بالسعر الرسمي الذي كان وقتها 35 دولارًا للأونصة، وذلك طبقًا للمعايير التي وضعتها اتفاقية بريتون وودز الخاصة بنظام الصرف العالمي . وهذه الاتفاقية التي تم التوصل إليها عام 1944 جاءت لتنظيم الأنشطة التجارية والمالية بين كبرى الدول الصناعية في العالم . وينص نظام الصرف هذا على ربط العملات بالدولار وربط الدولار بالذهب .
كان هذا الخلل الكبير في الميزان التجاري الأمريكي كارثة مؤجلة بالنسبة للولايات المتحدة . فالفجوة الحاصلة بين حجم الدولارات المطبوعة والمتداولة عالميًا، وحجم ما تمتلكه واشنطن من احتياطات الذهب لم يعودا سرًا على أحد .
وجاء لجوء الإدارات الأمريكية إلى سياسة طبع كميات كبيرة من الدولارات لتمويل الحرب في فيتنام، وإنفاقها الهائل خلال سنوات الحرب الباردة من دون توفير أي غطاء من الذهب، ليشكل خروجًا في غاية الخطورة على نظام الصرف العالمي، كما نصت عليه اتفاقية بريتون وودز . مما اضطر الولايات المتحدة إلى حد الانقلاب على الاتفاقية بإعلان نيكسون بتاريخ 15 أغسطس ،1971 بأن أمريكا قررت، ومن جانب واحد، إلغاء التزامها بالاتفاقية وتعليق خيار ربط الدولار بالذهب .
الذهب الأسود غطاءً للدولار
ما فعله نيكسون كان استبدال معيار الذهب بمعيار الدولار وفرض العملة الأمريكية على العالم كأمر واقع، أو على حد قول هيلموت شميدت - وزير الدفاع الألماني في عهد ويلي براندت - في وصف النظام المالي الجديد، بأنه نظام اللانظام "لأنه كان انتقالاً من نظام السعر الثابت إلى السعر العائم، الذي لا يستند إلى أي نظام سوى المصالح الأمريكية، كما اتضح لاحقاً كان القرار الأمريكي في نظر الكثيرين ممارسة لأكبر ابتزاز اقتصادي عرفه العالم . فمع قفز أسعار الذهب إلى 350 دولارًا للأونصة، أي عشرة أضعاف السعر الرسمي، أدرك الجميع بأن من يرغب في تحويل أمواله إلى ذهب لن يحصل بعد الآن على أكثر من 10% من القيمة التي كانت تضمنها له اتفاقية بريتون وودز، التي شكلت الأساس الذي كان يحكم شراء البنوك المركزية والأفراد للدولار .
كانت المحصلة الفعلية للقرار الأمريكي انفصال الاقتصاد النقدي عن الاقتصاد الحقيقي المنتج للبضائع والخدمات الفعلية، وظهور اقتصاد المضاربة الجديد ومعه نظام متذبذب إلى الأبد . كما أن هذا القرار جاء حاملاً معه "موت النقد" كما عرفته البشرية على مدار خمسة آلاف عام ومفسحًا المجال لهيمنة "اقتصاد الكازينو" على الاقتصاد المنتج، وليذهب إلى غير رجعة عالم الأنشطة التجارية والاقتصادية المعمرة، التي تقاس على أساس من المعايير الثابتة .
تقرير حدود النمو
لعل من أبرز الافتراضات الأساسية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي الأمريكي هو العمل على تحقيق معدلات نمو لا محدودة، وهو افتراض تحداه تقرير معمق صدر عام 1972 تحت عنوان "حدود النمو"، باعتبار أن حلم الاقتصاد الأمريكي يصطدم بعقبات ليس أقلها الانفجار السكاني، ومصير المصادر الطبيعية مثل النفط والغاز آيل للنضوب . ومما جاء في التقرير الإشارة إلى أن النظام الحالي، القائم على افتراض وجود مصادر لا حدود لها، قد ينهار في غضون قرن على الأبعد، خاصة في ظل الزيادة المطردة في عدد سكان العالم .
لامست الرسالة التي تضمنها التقرير مسامع البيت الأبيض، فكان قرار نيكسون عام 1972 بتعيين جون . دي . روكيفيلر على رأس لجنة رئاسية جديدة حول السكان والمستقبل الأمريكي . جاءت النتائج التي توصلت لها دراسات اللجنة حول هذا الموضوع لترسي الأساس لمذكرة صدرت عن مجلس الأمن القومي في ابريل 1974 تحت إشراف مباشر من هنري كيسنجر، اعتبر فيها معدلات النمو السكاني العالية المسجلة في بعض الدول النامية الغنية بثروات طبيعية معينة "مصدر قلق للأمن القومي الأمريكي من النوع الذي ينبغي إعطاؤه أولوية عالية"، ومضى التقرير إلى حد الدعوة إلى مراقبة مناطق معينة - معروفة بامتلاكها احتياطات واسعة من المصادر الطبيعية لضبط النمو السكاني فيها، باعتبار هذه المصادر ضرورة استراتيجية لنمو الشركات الأمريكية، ولم يتطرق التقرير إلى ما هو مطلوب من جانب الشركات نفسها . المثير في الأمر أن معظم البلدان التي وردت أسماؤها في مذكرة كيسنجر وهي: بنغلاديش، باكستان، الهند، اندونيسيا، الفلبين، تركيا، مصر وإثيوبيا، مع إيران وسوريا، هي دول إسلامية، أو أن المسلمين يشكلون نسبة كبيرة من السكان فيها .
نمو الغرب تحت أقدام المسلمين
المفارقة هنا تكمن في أن المصادر النفطية اللازمة لتحقيق النمو الرأسمالي تقع تحت الأرض الإسلامية، ولهذا نجد أن القوى الاستعمارية تعمدت، وفي وقت مبكر، يعود إلى الحرب العالمية الأولى، إلى تقسيم الجزء الشرق أوسطي من الإمبراطورية العثمانية، بطريقة تضمن أن تأتي الحدود الجديدة للدول ما بعد الدولة العثمانية بطريقة تصبح معها الدول التي تمتلك مصادر غنية هي نسبيًا الأقل من حيث عدد السكان، في حين أن الدول الأكثر سكانًا جاءت أفقر منها من حيث وفرة المصادر الطبيعية .
نظام مالي جديد
جاء إلغاء نظام الصرف الثابت الذي وضعته اتفاقية بريتون وودز وما ترتب عليها من استبدال معيار الذهب بمعيار النفط بصورة غير مباشرة، ليضع العالم أمام نظام مالي جديد أصبح فيه الدولار عملة المبيعات النفطية . غير أن فرض هذا النظام عالميًا كان يتطلب إحداث تغييرات كاسحة من قبل الولايات المتحدة . فكان أن أصدر نيكسون تعليماته لهنري كيسنجر للتحرك بهذا الاتجاه، وطبقًا لدراسة حالة صدرت عن كلية الإدارة بجامعة هارفارد، بعنوان "السيطرة على النفط العالمي: 1920 - 1974" فقد كان لكيسنجر خطط أخرى على ما يبدو .
إذا كان الدولار قد خسر دعم الذهب فقد وجد البديل الأفضل: الذهب الأسود، وفوق ذلك فإن فرض الدولار كعملة تسعير إجباري لشراء النفط، أوجد طلبًا لا ينقطع على العملة الأمريكية، وهو وضع لم يتغير كثيرًا عبر السنوات الطويلة التالية . ففي أوائل عام 2013 كانت أسعار النفط تتراوح حول 100 دولار للبرميل . وإذا كان معدل الاستهلاك العالمي من النفط يصل إلى 90 مليون برميل يوميًا، فإن الخزينة الأمريكية تطبع نحو 9 مليارات ورقة دولار يوميًا (9000000000$) مغطاة في الأساس من النفط والاقتصاد القوي المفترض . غير أن مثل هذا الاقتصاد يرزح حالياً تحت وطأة ديون سجلت معدلات فلكية، لدرجة أن العديد من المحللين الاقتصاديين فقدوا ثقتهم بقدرة الاقتصاد الأمريكي على الاستمرار، لا عجب إذًا، والحالة كذلك، أن تسعى الولايات المتحدة حاليًا لإبقاء المصادر النفطية تحت سيطرتها العسكرية المباشرة .
400 % ارتفاع العجز
تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن العجز المترتب على هذه الدول، بفعل النظام المالي الجديد، ارتفع بمعدل 400% عام 1974 عما كان عليه قبل عام واحد فقط . فقد وجدت هذه الدول نفسها أمام خيار وحيد لتسديد فاتورتها النفطية بالأسعار الفلكية الجديدة، وهو الاقتراض من البنوك الغربية، وسرعان ما تحولت هذه القروض إلى عبء كبير على اقتصادياتها الوطنية . وبعبارة أخرى، فإن ما فعلته سياسة كيسنجر كان إيقاع الدول النامية في مصيدة الديون التي أجبرت الدول الأفقر الى اللجوء لصندوق النقد الدولي على أمل تجنب تراكم الفوائد المستحقة من الديون للبنوك الغربية . غير أن قروض الصندوق بدورها لم تكن بأفضل من ديون البنوك بكثير، فقد جاءت مرتبطة بشروط جعلت من اقتصاد الدولة المقترضة أقرب إلى رهينة فعلية لسياسات الصندوق المعروفة وشروطه، من تبني الدولة الضحية لمبادئ التجارة الحرة، وفتح أسواقها أمام الشركات ورجال المال والأعمال الأمريكيين . وفي ظل هذا النوع من الشروط الضاغطة تصبح مصادر البلاد الطبيعية إما تحت سيطرة أو التملك المباشر "للمستثمرين الأجانب" الذين يشترونها بأسعار احتكارية، وصولاً إلى أن تنتهي البلاد رهينة في أيدي المجموعة المالية العالمية .
وتعد تجربة الاقتصاد الهندي مع ظروف ما بعد فورة الأسعار النفطية نهاية عام 1973 مجرد مثال يختزل المشكلة . ففي عام 1974 كانت نيودلهي تملك 629 مليون دولار من الاحتياطات، وكان نصف هذا الرقم يكفي لتسديد فاتورتها النفطية بأسعار عام ،1973 غير أن الفاتورة التالية تجاوزت 1،241 مليار دولار . وسرعان ما وجدت الدول النامية نفسها أسيرة أرقام غير مسبوقة من الديون وصلت عام 1974 إلى 34 مليار دولار .
تدوير البترودولارات
وجدت الدول النامية الأغنى نفسها مجبرة على الإسهام في ملء الخزائن الغربية . ففي يناير ،1974 على سبيل المثال، توصلت وزارة الخزانة الأمريكية إلى اتفاق سري مع السعودية، الدولة الأكثر تلقيًا للدولارات النفطية، ينص على حصر استثمارات أموال النفط السعودية في شراء سندات الخزانة .
وكان البنك المركزي السعودي قد استعان بمستشار استثماري أمريكي من العاملين في الوول ستريت هو ديفيد ملفورد الذي "نصح" السعوديين بشراء سندات الخزانة الأمريكية . وهكذا تحول البترول العربي من مادة استراتيجية مهمة إلى أوراق دولارية لم تطأ أراضي العرب البتة، بل بقيت أرقامًا في بيوت المال الغربية سوى اليسير منها . أما أكثرها فيتم إعادة تدويره إلى اقتصادات تلك الدول أو إقراضه للدول النامية، لمنفعة أصحاب الرأسمال العالمي والشركات عبر القطرية العملاقة .
وعلى الجانب المالي، استخدمت السبعينات في معظمها لتثبيت "نظام - اللانظام" العالمي الجديد، والذي يقضي بطباعة كميات ضخمة من النقود، دون تغطية، سوى أن العالم كان مجبراً على استعمال هذه الدولارات - عديمة القيمة - في دفع ثمن النفط . وهكذا، أصبح النفط، أي الذهب الأسود ضمانة للدولاركبديل للذهب الأصفر . وأيضاً - وكي يتاح للنقود أن تخلق - فإنه لابد للديون أن تخلق . وهكذا تم إثقال كاهل معظم الدول النامية بعبء الأسعار الفاحشة للنفط، وكان على هذه الدول أن تقترض لتدفع من البنوك الغربية العالمية التي تخزّن البترودولارات .
المؤلف في سطور
أنهى د . عبدالحي يحيى زلوم دراسته الإبتدائية والثانوية في القدس والجامعية الأولى والعليا في الولايات المتحدة في الهندسة وإدارة الاعمال والإدارة العليا . عمل في قطاع النفط العربي والعالمي أكثر من خمسين سنة حيث أسهم في الأعمال التأسيسية للعديد من شركات النفط منذ بداياتها . والمؤلف باحث له ثمانية كتب بالعربية، وخسمة بالإنجليزية .
الخليج الامارتية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.