هرب طويلاً من شبح الاستبداد، وظل يحذر منه، حتى اصطدم في النهاية بكيانه، فوجد ذاته التي اعتادت الحرية، ومارستها في عواصم كثيرة في هذا العالم، أسيرة سجنٍ بلا نوافذ، تتنظر لائحة اتهام، أمام صورة طاغية تطلّ عليها باستهانة من علٍ، ذلك جزء من الحكاية في رواية «حامل الوردة الأرجوانية» للكاتب اللبناني أنطوان الدويهي. تلح الرواية التي صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ودار المراد، على تمجيد الحرية، وتستحيل إلى أنشودة لها - وربما إلى بحث فيها أحياناً - خصوصاً أن دفة السرد بيد راوٍ أوحد، يبوح بشاعرية عن ما كان، وما هو كائن، يتنقل كيفما شاء بين أمكنة وأحلام، وكذلك حبيبات في مراحل مختلفة. راوي «حامل الوردة الأرجوانية»، التي تقع في 190 صفحة، مبدع مثقف، نشأ على عين أمٍّ وهبت نفسها لأسرتها، وكان أمامها لو أرادت أن تكون أديبة كبيرة، أو أسطورة غنائية، على الأقل من وجهة نظر ولدها الذي استمد من تلك الأم القيمة الكثير، حتى وهو في محبسه في «حصن الميناء»، إذ كانت الأم تنقل له ما يدور في الخارج بثبات، وأعلنت بعد أن طالت الشهور على ولدها في السجن أنها (المرأة ذات ال85 عاماً) ستضرب عن الطعام، في ميدان بوسط المدينة حتى تكشف السلطات عن التهم الموجهة إلى ولدها، وتستدعي اعتقاله هكذا. أعمال أنطوان الدويهي روائي وشاعر لبناني، من مواليد عام 1948، أكمل دراساته العليا في باريس، حيث حاز دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة السوربون عام 1979، وبقي في باريس حتى أواسط التسعينات، يعمل حالياً أستاذاً جامعياً في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (علم الحضارات المقارن) في الجامعة اللبنانية. صدرت له أعمال: «كتاب الحالة» (شعر)، «حديقة الفجر» (سرد)، «رتبة الغياب» (سرد)، «الخلوة الممكنة» (سرد)، «عبور الركام» (رواية)، إضافة إلى مؤلفات أكاديمية ومقالات كثيرة. بنى أنطوان الدويهي كيان روايته التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية)، واكتفى محكمو الجائزة بذلك، على عماد المذكرات، فالكاتب المعتقل، بطل «حامل الوردة»، يبوح في مفكرته بفصول من حياته وسيرته، يستدعي محطات من الماضي الحر، متداخلة مع الحاضر المحاصر في المعتقل الكئيب، في معية صورة الطاغية التي يقيم معها الرواي حوارات كثيرة، يهرب من ضيق السجن إلى هجراته الطويلة وذكرياته المحتشدة بالتفاصيل والعوالم. تعزف المذكرات، بالطبع على وتر وحيد، تظل مخلصة لبوح منفرد، وهو ما لن يروق لقارئ ما، خصوصاً من يفتش عن تصاعد للأحداث، ودراما الأصوات والإرادات المتباينة، إذ إن الكاتب حاول أن يبتعد عن ذلك عبر اللجوء إلى المفكرة الشخصية للرواي، والاستعانة بضمير المتكلم المنشغل بوجوديته، وعدم ترك حيز لسواه، يبوح فيه بما يريد، إلا عبر ذلك الراوي الذي مارس هو الثاني استبداداً ما في فضاء الحكاية. رحلة طويلة من الصفحات يقطعها القارئ في «حامل الوردة الأرجوانية» حتى يصل إلى سر السجن وتهم السجان، وهو ما تعمده الكاتب، كيما يبرز كيف يفكر «الطاغية» وتابعوه، وكيف يتعمدون القضاء على المقاومة في روح من لا يرونه على شاكلتهم، حتى ولو كان بعيداً عن السياسة، حتى وإن كان صموتاً لا يتورط في رأي، أو يعلن موقفاً، فذلك أيضاً شيء يدعو إلى الريبة، ويستحق التهذيب في السجن المظلمة. في الختام يكون الرواي أمام خيارين: مواجهة تهم الخيانة والنفي إلى معتقل قصي، أو حرية مشروطة بكتابة سيرة حياة الرئيس «الطاغية»، على عين السلطات في جامعة ما، حيث سيتم توفير المراجع له، خلال عام ينجز فيه كتاباً تتصدره صورة تشبه إلى حد كبير تلك الصورة التي تؤرقه في محبسه، ويحاول هو الهروب منها إلى فضاءات أخرى، لكنه لا يلبث أن يجدها تطارده. ومن أجواء الرواية «يهبط المساء على حصن الميناء وتغشى الظلمة الكوتين المستديرتين. إنه ليل آخر يحل علي في سجني لابد لي من اجتيازه. أرزح تحت وطأة فقداني حريتي، وجهلي المستمر لسبب اعتقالي، وغموض مصيري، إضافة إلى اختناقي في هذه الغرفة المقفلة، العديمة النوافذ، حيث صورة الطاغية المثبت نظره عليّ بلا كلل. وأستمد قوتي من حياتي الداخلية ومن قدرتي على الصمت، ومن هذه العزلة التي هي عزلتي، حيث يحيط بي ويحرسني أشخاص غير مرئيين، يخترقون جدران حصن الميناء السميكة وهم أكثر حياة من كل الذين يحيون، أجدادي الذين عرفتهم طفلاً، وأهلي ورفاق صباي الأول، وأحبة هجرتي الطويلة، والذين ماتوا صغاراً، والذين سافروا ولم يعودوا، والذين حوصروا في السهول الوسطى في أغاني والدتي الحزينة ورفضوا الاستسلام حتى الرمق الأخير». الامارات اليوم