وفاة وإصابة خمسة أشخاص في حجة وصعدة جراء الصواعق الرعدية    عصابة حوثية تعتدي على مواطن في إب بوحشية مفرطة    ما هو شرط زيدان لتدريب فريق بايرن ميونيخ؟    الارياني: الأسلحة الإيرانية المُهربة للحوثيين تهدد الأمن والسلم الدوليين ومصالح العالم    ثمن باخرة نفط من شبوة كفيلة بانشاء محطة كهربا استراتيجية    أكاديمي: العداء للانتقالي هو العداء للمشروع الوطني الجنوبي    إيران وإسرائيل.. نهاية لمرحلة الردع أم دورة جديدة من التصعيد؟    الكشف عن تصعيد وشيك للحوثيين سيتسبب في مضاعفة معاناة السكان في مناطق سيطرة الميلشيا    صمت "الرئاسي" و"الحكومة" يفاقم أزمة الكهرباء في عدن    غارات عنيفة على مناطق قطاع غزة والاحتلال أكبر مصنع للأدوية    السيول الغزيرة تقطع الخط الدولي وتجرف سيارة في حضرموت    مصرع وإصابة عدد من عناصر المليشيات الحوثية الإرهابية غربي تعز    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    شاب يقتل شقيقه جنوبي اليمن ووالده يتنازل عن دمه فورًا    الحوثيون يغلقون مسجد في عمران بعد إتهام خطيب المسجد بالترضي على الصحابة    بالصور .. العثور على جثة شاب مقتول وعليه علامات تعذيب في محافظة إب    محمد المساح..وداعا يا صاحبنا الجميل!    صورة ..الحوثيون يهدّون الناشط السعودي حصان الرئيس الراحل "صالح" في الحديدة    آية في القرآن تجلب الرزق وفضل سورة فيه تبعد الفقر    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلام على الغائبين بقلم:رائد الحواري
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 02 - 2014


سلام على الغائبين
أديب نحوي
أدب الحرب محدود نسبيا في الرواية العربية، فرغم خوض العرب لثلاثة حروب قبل احتلال كامل فلسطين التاريخية، لم يكتب الروائيون العرب ( أدب حرب ) بمعنى الكلمة، باستثناءات معدودة، فهناك وصف للأعمال الحربية التي نشبت بين أفراد من المقاومين العرب والعصابات الصهيونية عام 48، كما هو الحال في رواية "السفينة" لجبرا إبراهيم جبرا، فهي تمثل
اشتباكات فردية وليس بين جيشين نظاميين، وهذا الأمر يشير إلى قناعة الكاتب العربي بان الجيوش العربية لم تحارب في عام 48 ولا في عام 67، وذلك لان نتيجة المعارك كانت قد حسمت لصالح الاحتلال الصهيوني، وما حدث فيها فعليا لا يعدو أكثر من عرض مسرحية ليس أكثر.
من هنا لم يتم كتابة روايات حربية عربية، كما هو الحال عند الروس، إلا بعد عام 1970، مثل رواية "زمن القارب الثقيل" لعبد النبي حجازي، ومن بعد عام 1974 تم إصدار مجموعة من الروايات الحرب بقلم الروائي المصري جمال الغيطاني فاصدر " ارض ارض" ورواية " الرفاعي" واصدر نبيل سليمان من سوريا "أحزان حزيران" وأديب نحوي الذي أذهلنا في رواية "سلام على الغائبين".
ما يميز هذا العمل اللغة الأدبية التي استخدمها الروائي أديب نحوي، فاستخدم ألفاظ ومعاني وأعطانا صور فنية، جعلت القارئ ينهل وبشغف وباضطراد من هذه الرواية.
الرواية تتحدث عن موقع عسكري تل الفخار في الجولان مكون من سرية واحدة فصيل المدفع، فصيل الهاون، فصيل الرشاش يستبسل أفرادها في الدفاع عن موقعهم، فيقاومون حتى الرصاصة الأخيرة، يوقع الجنود أفدح الخسائر بالغزاة، من خلال كمين محكم تم نصبه للقوات المهاجمة، يتم القضاء على عناصر السرية باستثناء ستة جنود يقعون في الأسر، ويبقى وضع قائد الموقع النقيب خالد ضو القمر مجهولا عند القيادة السورية، لا هو من الشهداء ولا من الأسرى، حتى يتضح بعد ذلك انه وقع في الأسر،
ولكن يتم تصفيته من قبل الكابتن جدعوني موفد الحرب النفسية في جيش الاحتلال إلى تل الفخار، وذلك انه اعتقد جدعوني إن هذا القائد هو
من قادة المعارك الباسلة ضد القوات الصهيونية، وأوقع بها هذا الكم الهائل من الخسائر في الأرواح والمعدات، وهو من حث جنوده على الصمود لأكثر عشرة ساعات وحتى الرصاصة الأخيرة.
يصاب جدعوني بانهيار عصبي بعد معرفته حقيقة النقيب ضو القمر فيطلق الرصاص عليه وهو يسير أمام الجدعوني فيرديه قتيلا، هذا سرد موجز مختزل لأحداث الرواية، لكن عظمتها لا تكمن في فكرتها وحسب، بل بالتفاصيل الصغيرة التي تناولها الكاتب، وباللغة الأدبية التي استخدمها، وقدرته على التحكم بشخوص الرواية وسيطرته على أحداثها، فاستطاع الإمساك بكافة الخيوط فيها، فلم يترك فردا في روايته إلا جعله يتحدث بذاته ويبدي ما في صدره وعقله من مشاعر وأفكار.
من هنا نستطيع القول بنجاح الكاتب في حياديته وجعل الشخصيات تتكلم بذاتها دون تدخل من الكاتب، وهذا الأمر من ابرز معالم نجاح وتألق الرواية، وسنحاول في يلي إضاءة الجوانب المشرقة في العمل الروائي " سلام على الغائبين" إن كان على صعيد الشكل أم المضمون.
كرواية حرب لا بد من الحديث عن الجنود وصف الأعمال الحربية، وها هو الكاتب يبدأ روايته " إن الأسرى التلفخاريين الستة" هذه البداية شكلت محور الرواية، فهؤلاء الستة هم أبطال العمل، وتدور الأحداث حولهم
" قالت : يا مروان هم جماعة ذبح الأمهات والأطفال في دير ياسين والقسطل. قال : لعيون أمهات وأطفال دير ياسين والقسطل. وأخذ يرمي. مروان حنون. وبين يديه يحن السلاح. لعيني الطفل مخزن. ولعيني أمه مخزنان. لأنهم ذبحوها مرة وهي تشاهدهم يذبحونه، ومرة عندما ذبحوها بعد ذلك. ثم احترقت إحدى ناقلات الجنود. وخرج منها السفاحون بالعشرات. المذخران يذخرون، أنا ألقم ومروان يرمي. رشاشات طيب. ومروان أطيب. للقسطل مخزن. ولدير ياسين مخزنان. الأول لأنه دير. والثاني انه لياسين. ذخر يا نحاس إن كنت تذخر. وناولني المخازن يا اسعد فقير فاني أراها بين يديك قد أخذت تزهر " ص7
الرقيب شاكر الحموي تكلم بهذه الكلمات عن الأحداث ، ما يميز هذا الوصف من المعركة إن الكاتب استطاع إن يأخذنا إلى الماضي ويجعل منه دافع ومحفز للجنود، فهو كائن حي يعطي المقاتلين النشاط ويمنحهم السرعة والدق والحماس، فلم يشعرون بالتعب أو الخوف أو الإحباط، فهم مع بعضهم البعض واستحضار الماضي دير ياسين جعل منهم عناصر فوق الطبيعية البشري، فالحماس والتلذذ والانسجام في القتال وكأنهم في لعبة أو نزهة، يدل على إن الجندي العربي خلق للحرب وللقتال وليس للاستعراض.
وإذا عدنا إلى الاقتباس وجدنا الجماد " مروان حنون. وبين يديه يحن السلاح " كائنات حية تبدي من الأفعال ما هو بشري، وسنجد في بعد إن السلاح كائن حي تماما وقيوم بأفعال بشرية، وتكمن أهمية الأسلوب الذي استخدمه الكاتب في جعل القارئ يدخل أجواء المعركة من خلال الطريقة التي تناول بها الأحداث والأسلوب الذي تتكلم به شخوص الرواية، فلم بشعر بالامتعاض أو الملل،علما بأن موضوع الحرب تحديدا يشكل عائقا أمام القارئ العربي، لما فيه من حساسية تذكره بالمأساة التي حلت ليس بفلسطين وحسب وإنما بالدول العربية مجتمعة.
ويضيف الرقيب محمود الشيخوني واصفا جزء آخر من المعركة
" أدعو الله أو ثم ارمي الحشوة. يا رب اعم عيون اعدائك عن مدفعي كلما رميت منه الحشوة. يا رب باسمك أرميهم وليست من يدي بل من جلال قدرتك. يا رب أنظر إلى خندقك الشرقي في تل الفخار بعين الرضا. فلم يبقى فيه سوى مدفع واحد مضاد للدروع ب عشرة. يا رب من يرد جنازير الغزاة الطامعين عن شباب فصيلتك الشرقية الصامدة في وجههم سوى دال ب عشرة.
.... شعرت بأمر عجيب.
قال : شعرت يا سيدي العقيد بأمر عجيب. صحيح إن الرب تبارك حكمته، لم يرزقني إلا بالبنات، لكني شعرت وأنا أتنقل في الخندق، بان مدفعي قد أصبح ابنا على سبع بنات. فأخذت أحنو عليه بكفي، وكأني أضم بينهما، من ابني، وجهه، واقبله، فكأني اقبل من ابني، خده. وأربت بيدي على ظهره : بيضت وجهي اليوم في تل الفخار يا ابني، الله يرضى عليك. وهكذا خرجوا من مجال الرمي المجدي، ولم يتجاسروا بعد ذلك على العودة إليه أبدا، طيلة النهار. فلما أتى الليل هجروا الدبابات واضطروا للتقدم نحو الخندق مترجلين" ص74
علاقة الجنود بالسلاح تأخذ شكل العلاقة الأسرية، فالأب الشيخوني يعامل ابنه "المدفع" بكل حنان وحب وحرص، وهنا الكاتب يعطينا طبيعة العلاقة في الأسرة العربية، فالأب يحمي ابنه وهو صغير، والابن يحمي أباه عندما يكبر، وهذه الجدلية في الحماية تكون إحدى سمات المجتمع العربي، فالصورة السابقة ترسخ فكرة العلاقة العربية والكيفية التي تفكر بها، ومن هذه الزاوية تم تناول هذه الحدث.
بدون الحماية المتبادلة بين السلاح والجندي ما كان يمكن أن يتم تحقيق الانجازات، التي حققها الشيخوني وابنه في ارض المعركة، وهنا يعيد الكاتب الحياة إلى الجماد فيأخذ في "الزغردة واللحق" ويتم تطويرها لتكون كائن بشري، وأي كائن؟ ابنا للشيخوني، كما أن العلاقة الحميمة بين الابن والابن تنشأ في أجواء القتال والقتل والتقتيل مما يجهلها علاقة حميمة وقوية لا يمكنها أن تفتر أبدا، فسيكون للجندي ذكرى جميلة وشيقة مع سلاحه، ذكرى عزيزة، محفورة في القلب لا يمكن للزمن أن يمحوها.
كما إن الإيمان الذي اقترب بكافة شخصيات الرواية، المقاتلة وغير المقاتلة، جعل الرواية تبدد ما قيل عن الجنود العرب في حرب 67 بأنهم لم يكون يحملون من الإيمان شيء، والإيمان في حديث الشيخوني ليس مجرد كلمات لا تمت إلى الجور بشيء، بل إيمان عميق راسخ كالجبال في قلب الجندي، وله تأثير واضح وفاعل في صمود واستبسال الجنود، وسوف نخصص لاحقاً لموضوع الإيمان تحليل منفصل.
الوصف السابق جاء على لسان الجندي العربي السوري، أما وصف المعارك من قبل جنود الغزاة فجاء كما يلي
" ... قبل ظهر هذا اليوم، عندما قفز من عربته المحترقة، أن لا ينبطح على الأرض ثم يزحف ويختفي في إحدى الحفر، كما فعل جميع من قفزوا من الناقلات والعربات المحترقة فما إن مضت على ذلك، عشرون دقيقة من الزمن، حتى هطلت عليهم من السماء قذائف الهاونات اللعينة حيث قتل منهم نصفهم بلا شك في أعماق تلك الحفر الجهنمية؟ وإلا فما الذي أوحى إليه إن يظل راكضا وهو يحاول اللحاق بالعربات الهاربة من القذائف الميم دال حتى شاهدته أنا بنفسي، وهو يعدو بسرعة مذهلة في آخر مئة من مجال الرمي المجدي فأوعزت لسائق عربتي بالإبطاء قليلا حتى وصل إلينا فالتقطناه" ص112.
" إن الكابتن آهارون فكر : تماما. فلو أنها كانت نامية عندي، لما أرسلت عشرة من جنودي إلى ذلك المنخفض الشيطاني ليفاجئوا الخندق الشرقي من الخلف، فقتلوا هناك جميعا ولم يعد منهم واحد "ص113
نجد اعتراف صريح وواضح بالبطولة التي حققها الجنود العرب في تل الفخار، فالخسائر التي يعترف بها الأعداء تمثل شهادة لهم وتأكيد على قدرتهم القتالية، كما جاء الوصف عادي جدا للمعركة، وكأن الحدث غير مهم للراوي، فهو لا يبدي أي حماس أو انفعال، على النقيض من الجندي العربي السوري، فالكاتب أردنا إن نقف على حقيقة الجنود الذي خاضوا المعركة من كلا الطرفين، ونحكم عليهم بحيادية قدر المستطاع. وهنا ومن باب الأمانة نقول بان المقاتلين الأعداء اخذوا يدرسون ويحللون المعركة بكافة جوانبها وأين كان خطئهم ولماذا وقع بهم هذا العدد الكبير من الخسائر وذلك ليداروه في المستقبل، وعلى النقيض منهم العرب الذين لم يدرسوا الحرب ويداروا الأخطاء القاتلة التي وقعوا فيها، وهذه تعتبر أمانة تاريخية تحسب للكاتب الذي رغم انحيازه لوطنه ومواطنيه إلا انه قام بشهادة حق.
سائق العربية جدعوني يقول
"لقد هربوا ولم يتركوا أمامي سوى الغبار، والحفر سيدي الكابتن، كثيرة وعميقة. فإذا أسرعت سقطنا في واحدة منها قبل إن أراها. وإذا لم أسرع، أخشى إن تسقط فوقنا واحدة تخرق درع الدبابة، فماذا لو أصابتنا ونحن عربة مسكينة تلبس درعا، سيدي الكابين" ص138
هذا الحديث يضاف إلى ما قلنا عن عادية الحديث والحدث عند الغزاة، فإذا استثنينا " ونحن عربة مسكينة لا تلبس درعا" نجد إن المعنويات هابطة جدا و تنم عن مشاعر الانكسار رغم أنهم فعلا انتصروا، وردات الفعل التي أبدوها تبين لنا بأنهم غير متحمسين للحرب، ويمكن إن يفهم منها أنهم اجبروا على خوضها مكرهين، على النقيض من خصومهم العرب الذي كانوا يتشوقون للقاء الأعداء.
أما وصف المعركة من قبل الراوي الكاتب فجاء بطريقة مغايرة لما سبق،
" وهب واقفا واخذ مكان زوهار أمام المنظار فألصق عينيه بالعدستين , ثم هتف :- ما هذا ؟ وظل ينظر وهو يصف ما يشاهده : انه أمر عجيب حين سقط في نفس اللحظة فوق مدرعته شيء مريب . لم يشعر به إلا بعد أن حدث الأمر الرهيب فخرقت الحشوة سقف العربة ونفذت إلى داخلها من فوق رأس الكولونيل وانفجرت وزوهار ألقى بنفسه إلى الزاوية الخلفية منبطحا ثم نهض. والحشوة ألقت بكولونيله تحت منظار المواشير , لكنه لم ينهض ثم أن العربة تحولت بمثل لمح البصر إلى عدة أقراص طائرة . وكل قرص صعد في الجو فدار حول نفسه قليلا ثم سقط وكانت قد انعقدت فوق الحطام سحابة من الدخان الكثيف, ما لبث أن خرج منها ميجر اسود. وخرج بعد ذلك لسان النار, أما الآخرون الذين كانوا في العربة لم يخرج منهم احد. وثمة دبابات كانت قد أخذت تصل, وجوهها إلى الشرق ومدافعها ترمي من الخلف, ومسرعة لتخرج من مجال الرمي المجدي . فاستدارت ناقلات ومدرعات كتيبة الكولونيل كلاين وأخذت تسابقها نحو الشرق كذلك, بسرعة برقية بينما كان المشاة المحمولون يقفزون من الناقلات المحترقة ويتدحرجون على الأرض, محاولين إطفاء النيران العالقة بثيابهم بالتراب . ما هذا ؟
لقد ظل قتال المدافع بضع دقائق وحيد الطرف وهو ليس إلا قذائف صاعدة . أما الآن , وقد دخلت جميع أنواع آليات الغزاة إلى المجالين المحكم والمجدي معا, فقد أصبحت القذائف صاعدة نازلة, من تسع مدافع إلى الخندق الشرقي صاعدة ومن مدفعين مضادين للدرع نحو الدبابات والناقلات والعربات نازلة, ولان الغزاة كانوا يهاجمون منتشرين في خطين متتبعين عرض كل واحد منهما, أربعمائة متر, فقد اقتسم مدفعا تل الفخار خطي الانتشار بالتساوي مئتا متر يمينية منهما للميم الدال الجنوبي, ومئتان يساريتنا للميم دال الشمالي."ص135-138
موازين القوى لصالح القوات المهاجمة، تسع دبابات مقابل مدفعين فقط، ومع هذا استمر القتال لأكثر من عشرة ساعات متواصلة، خسائر بالجملة تقع بالمهاجمين، وما يلفت النظر في الأحداث السابقة أن العاصر القيادية في القوات المهاجمة تتعرض للإصابات والقتل كما هو حال بقية الجنود والعناصر المقاتلة، على النقيض من القوات المدافعة التي لم يذكر منها أكبر من رتبة نقيب، وهذا أشارة من الكاتب على أن الغزاة كانوا مستعدين قيادة وأفراد للحرب عمليا، وهم يشركون القادة قبل الأفراد، وعلى النقيض منهم العرب الذين بخلوا في تقديم اقل ما لديهم من سلاح وعناصر قيادية لهذه الحرب.
مقدرة فائقة على التحكم بالألفاظ، وجعل الحياة تدب في الآلات الحربية الجماد الجندي العربي السوري الآمر الناهي في المعركة، " أقبلت وهي لا تتبختر، بل تمشي مكسورة الخاطر ومعها من مدفع تل الفخار عفو خاص"ص137، لقد جعل الكاتب من الآلات وأدوات كائنات بشرية وتقوم بفعل المشي والعفو، وهذا الأمر يدل على حذق أديب نحوي ومقدرته على استخدام الأفعال البشرية للمعدات والأدوات القتال، فالمجاز ليس من السهل استخدامه في هكذا موضع.
وقد جمع الكاتب في موضع آخر بين الإنسان والآلة، إشارة منه إلى التوحد والتماهي بينهما في إصدار عفو عن عربة جدعوني " لقد حاكموها على ما يبدو من أمر، هناك . هي والفاعل الأصلي محاكمة وجاهية" هذه المقدرة على التلاعب بالألفاظ والمعنى تنم عن القدرات اللغوية الفائقة التي يمتلكها الكاتب، فاستخدام ثلاثة أصوات لسرد حدث، عمل بحد ذاته إبداع، فاللغة الخاصة لكل راوي، ومن ثم وصف الحدث من كل شخص، جاء يعطي قارئ الرواية موسيقى متنوعة.
إذا عدنا إلى النص نجد التوازن في تسليط الأضواء على جانبي المعركة، فيغطي الجانب الدفاعي كما يغطي الجانب الهجومي، ويتحدث عن القتال بشكل شبه حيادي، فلا يضخم الخسائر أو يقلل منها لكلا الجانبين، من هنا نقول : أديب نحوي استطاع ن يتجاوز ذاته ويقدم لنا عمل روائي تاريخي واقعي بحيادية وبتجرد، وأيضا بأسلوب ولغة مميزة.
من يطلع على أدب الحرب السوفيتي نادرا ما يجد هذا التعدد في الأصوات وهذا الإحياء للجمادات، وهذه الألفة ما بين السلاح والمقاتل، كلها يفتقدها الكتاب السوفييت، وهذا يعطي الكتاب العرب التفوق والمقدرة على تجاوز الآخرين أدبيا، كما تجاوزها الجنود العرب في بطولاتهم الجنود الآخرين
المكان والزمان
ما يميز الرواية أنها تركز على المكان والزمان فهما ملازمان للحدث الروائي ملازمة وثيقة، فأديب نحوي يذكرنا بتفاصيل المكان ليؤكد تاريخية الحدث الروائي وواقعيته، فهو بين الفينة والأخرى يتحدث عن المكان، وكأنه يردنا أن نتذكره بكل ما فيه وأن نهتم به كاهتمامنا بالجنود تماما، فهو يشكل مع الإنسان وحدة واحدة لا يمكننا أن نأخذ احدهما ونتجاهل الآخر.
" فإذا كان الغائب قد غاب في القطاع الشمالي من الجبهة، فأين شاهده رفاقه آخر مرة، هل في عين فيت أم في مجدل شمس؟ هل في قلعة نمرود أم في تل الأحمر. فإذا كان من عناصر مرصد زعورة ولم يشاهده أحد في تل مالك أو ... شوهدوا في أحراش بقعاتا ... من عناصر مخفر برج بابل... قد وقع قي الأسر أو قتل ما بين عرتا والمغر أثناء قصف تل العزيزيات"ص19.
مثل هذا الوصف الدقيق للمكان ينم على الإحاطة الكاملة به وعلى انه يحتل مكانة في قلب الكاتب أولا، ثم لتذكير السوريين والعرب به وبتفاصيله البسيطة ثانيا. فكل جزء منه مهم وله اسم ومكانة وحضور وذكريات عند أصحابه، من هنا لا يمكن أن يتم شطبه أو إلغائه من الذاكرة والوجدان أبدا، ويجب التشبث به إلى ابد الآبدين.
أما الزمن فرغم وضوحه إلا أن الكاتب تطرق له بتحديد دقيق
" وان ملاك فصيلة الجزيرة الشرقية التي يقودها الملازم بشير العدناني، كان في اليوم التاسع من حزيران"ص14
فالدقة في الزمان جاءت لتأكيد على تاريخية الأحداث وإشارة إلى أهمية هذا التاريخ بالنسبة للعرب. وذكر الزمن والمكان من الكاتب والتركيز على الأحداث الحربية في تل الفخار، له بعد فكري وعقائدي، يريد منا عدم نسيان المكان والتاريخ، فهما يحملان ذكريات البطولة والشهادة.
الجندي العربي السوري
تناولت الرواية الجندي العربي والكيفية التي يتعامل بها أثناء القتال والحرب
" صالح سواس، قتال الفرنساويين وهم في عز عنجهية سماوات قوتهم. يرمي القنابل على ثكناتهم في الظلام ثم يمشي عائدا إلى الحارات دون أن تهتز شعرة من أجفانه... وهو أعور؟ أليس لأن الفرنساويين أمسكوا به وعذبوه ليقر من أين يحصل على القنابل فلم يسمعوا منه سوى أنه يأتي بها من عند المندوب السامي، فاغتاظوا منه لذلك أشد الغيظ وضربوه على عينه ضربة أصبح بعدها أعور " ص158
إننا أمام ظاهرة مزدوجة للبطولة، القتال والصمود رغم شدة التعذيب ففقدان إحدى العينين أثناء التحقيق ولا يحصل المحقق على اعتراف، يبين هذا الأمر المقدرة الفولاذية التي يتمتع بها العربي، فهو يستطيع أن يتعامل مع كافة الظروف والأحوال، إن كان طليقا يقاتل ولا يهاب، وان كان أسيرا يتحمل أقسى أنواع العذاب والتعذيب ويبقى شامخا صلبا، أليس امتلاك الصفتين معا يشير إن العربي فيه من القدرات على التحمل والعمل ما هو فوق الطاقة البشرية؟
كما صور لنا الكاتب أن العربي يقوم بعمل المقاومة باحتراف ودون ارتباك أو توتر، من هنا كان ينجح في مهمته ولا يلفت إليه الأنظار، ويعطينا الكاتب أنموذج آخر لطبيعة العربي فيقول رسلان عن أبيه
" كلا إن أبي لم يولد وهو أخرس. أما جدي فكان يتكلم أحسن الكلام، وقد قال للوالي التركي وهو على رأس وفد من أبناء منطقتنا : إننا ما دمنا نتكلم، فلن نتكلم ونعلم أولادنا أن يتكلموا إلا بلغتنا العربية. فأرسل الوالي جنوده إلى قريتنا في اليوم التالي حيث أمسكوا بجدي وسحبوا لسانه من فمه وقطعوه بالحربة.
قالوا : من اجل أن لا يتكلم بعد ذلك على الإطلاق. وكان أبي طفلا صغيرا. فلما شاهدهم يفعلون ذلك خرس، ولم يتكلم منذ ذلك اليوم أبدا. بل خرج ذات يوم وهو في العشرين من عمره وظل يمشي على رجليه حاملا معه بارودته حتى وصل إلى معان، فانضم إلى الثورة العربية ضد الأتراك وقاتلهم وهو أخرس. ثم عاد مع الملك فيصل إلى دمشق وقاتل الفرنسيين في ميسلون وهو أخرس، ثم أنضم على المجاهدين من أبناء منطقتنا وقاتل الفرنسيين في جبل العرب وهو أخرس. ولم يتزوج إلا بعد الجلاء... وهكذا نشأنا نحن أولاده، لا نكلمه إلا بأيدينا"ص222
العناد والمقدرة على الاستمرار في الكفاح ضد الاحتلال في أماكن عدة وفي ظروف متباينة وعلى امتداد سنوات طويلة، يشير إلى القوة والإرادة الكامنة في هذا العربي العنيد، وعلى امتلاكه قدرات خارقة ليس من السهل وجودها عند الآخرين، ومثل هذا الوصف يعطينا دفعة إلى الأمام في زمن القهر والهزائم والانتكاسات، وحافزا للاقتداء بهم وبنهجهم.
بهذا التمهيد لماهية العربي يدخلنا أديب نحوي إلى نوعية الجنود الذين استبسلوا في تل الفخار، فهم يحملوا هذا الإرث النضالي العريق، من هنا نجدهم يحملون العناد ولا يتراجعون يقد أنملة عن موقفهم، فالصلابة والجلد عند اشتداد الوطيس تمثل إحدى السمات لهذا الجندي، فها هو العريف ذيب يقول
" لا يمكن اقتناص الأفعى إلا بطلقة واحدة، لأنها بالثانية تكون قد اختفت "ص78 " فإذا لم يكن الراعي قادرا على التسديد السريع والرمي المحكم، فأنه لا يستطيع أن يردي الذئب قتيلا بطلقة واحدة بين عينيه، وإلى أن يهرب الذئب، إذا لم يصبه الراعي بالطلقة الأولى، تكون قد هلكت حتى الطلقة الثانية عشرون غنمة"ص89
طبيعة البدوي الذي يعمل بالرعي منحته مقدرة على التعامل مع أعداءه الطبيعيين الأفاعي والذئاب، ومن بعدهم أي معتدين آخرين سيظهرون في المستقبل، يجب التعامل معهم بسرعة وحزم، فالطبيعة الصحراوية جعلت منه إنسان قاسيا مع من يريدون أذيته أو الاعتداء على ممتلكاته. فهو محترف ويقوم بعمله بحرفية ومعنية عالية، كما إنه صاحب فكر ومنطق في مهنته، فهو ليس مآكنة او الآلة، لا تعي ما تقوم به، يحركها الآخرون كيفما شاءوا وأينما أرادوا، بل ينبع العمل من ظروف الحياة التي علمتهم كيف عليهم الانتصار عليها وعلى ما فيها من عقبات وصعوبات.
صور أخرى لجندي آخر والكيفية التي يستعد بها للمواجهة الأعداء، جاءت عن الرقيب مصباح الأعمى
"كيف أنها كلها بوضع الاستعداد للرمي الفوري: حشوا للحشوة وتسديد إلى الهدف وإطلاق للقذيفة في زمن لا يتجاوز بحال من الأحوال مدة دقيقة"ص172
في الفقرة السابقة توضح لنا التهيئة والاستعداد للقتال في زمن لا يتعدى الدقيقة الواحدة، إشارة إلى نوعية الجنود العرب، المستعدون للحرب والقتال بسرعة فائقة ودقة ومتناهية. فهم على أتم الاستعداد لمواجهة الأعداء، وعملية الرد لا تتجاوز الدقيقة الواحدة، ونستوقف هنا قليلا هل أردنا أديب نحوي الإنتقال إلى حالة الجندي العربي في حالة الهجوم؟ فهو مذهل في الدفاع ومن الطبيعي أن يكون ناجحا في الهجوم أيضا، أليس هذا ما يريدنا تعلمه وإدراكه؟ ففي الوصف لهم يخبرنا بطريقة ما إنهم الجنود العرب يمتلكون من القدرات الهجومية مل يمتلكون من القدرات الدفاعية، من هنا يمكن أن يشكلون قوة هجومية فاعلة تستطيع تحقيق الانتصار وتحرير الأرض
وقد أضاف أديب نحوي إلى الصفات القتالية للجندي العربي صفة نادرة تحمل الإبداع والتألق، مما يجعله شخصية مميزة تستطيع إن تحلق عاليا من خلال الابتكارات والمبادرات الشخصية، فتخرج عن القواعد الجامدة لمهمة المقاتلين، فعمليا وجد الجندي للقتال وللحرب وتنفيذ الأوامر الصادرة من القيادة، لكنه هنا في تل الفخار استطاع إن يكلف نفسه عمل جديد أستطاع من خلاله إن يطور الجنود محفزا إياهم على التطور والسعي نحو الأفضل لمواجهة الأعداء
" هل إن الملازم هو الذي علمك القراءة والكتابة يا ذيب؟
نعم، سيدي العقيد. وقد ظل يعلمنا، أنا وجميع المجندين الذين لا يعرفون القراءة والكاتبة مدة سنة بكاملها، أصبحنا ي نهايتها نكتب وظائف الإنشاء بكل سهولة " ص81 "
"... نكتب وظيفة موضوعها فضل المعلم على تلاميذه نحب فيها الملازم أعظم الحب، فما رأيكم يا شباب؟ فتحمسوا. وذهبوا فكتبوا: من علمني حرفا كنت له عبدا. أما أنا فقد كتبت في وظيفتي من علمني حرفا كنت بيده سيفا"ص82
نجد فيما سبق الإبداع للجنود العرب بكل تجلياته، كما التألق لم يكن باتجاه واحد الملازم المعلم مع أن مجهوده يقدر ويحترم، ولكن الانذهال جاء من الجنود، فقلب أو تطوير مقولة متداولة ليس بالأمر السهل، وهذا ينم على أن فعل الإبداع ملازم ومواكب للجندي العربي.
كما إن تحويل المعنى من عبد إلى سيف لها مدلول تحرري يدفع المعنى إلى الأمام ويخلصه من مفهوم العبودية التي رفضها العرب من خلال الحديث عن السواس وأبيه الأعور، فالأحداث والشخصيات مكملة لبعضها البعض ومنسجمة مع فعل الحرية والتحرر، من هنا نجد الرواية تبنى فكرتها بشكل تراكمي يؤكد المفاهيم التحررية التي تطرحها.
الحديث السابق ن المعركة جاء على لسان الجندي العربي وعلى لسان لكاتب، والآن سنقرأ ما يقوله الجندي الإسرائيلي عن المعركة من خلال الكابتن جدعوني
" أمام موقع عسكري صغير يسمى تل الفخار، سقت في الساعة الحادية عشرة من صباح هذا اليوم، حربنا النفسية. ثم حلت محلها، خلال بضع دقائق حرب القتل، وهي الحرب التي علمتنا يا سيدي الجنرال، إنها المزيفة والخاسرة ولو خضنها ضد أعدائنا، مئة سنة... لكن بعد أن نصب، للواء غولاني وكتيبه البرقية تتقدم نحو موقعه، فخا جهنميا، سقط فيه عدد كبير من الضباط والجنود دفعة واحدة، ثم استمر يقاتلنا بعد ذلك، مدة عشر ساعات متتالية، قتالا ضاريا مستميتا، ملحقا بهم مزيدا من الخسائر في الأرواح ... لاكتشاف المادة المشعة التي تتركب منها نفوسهم وهأنذا الآن أمام واحد من أؤلئك: جسدا متمددا أمامي وغارقا في الغيبوبة. لكنه ما أن بدأ يعود إلية قليل من الحياة منذ دقائق، حتى أخذ يدعو، وهو ما زال يهذي ، الجنود للنهوض من اجل متابعة القتال "ص294و295
شراسة المواجهة والاستبسال ومن ثم الإبداع والابتكار والتجديد في نصب الكمائن وأخيرا الاستماتة في الدفاع حتى آخر رصاصة جعلت من الجندي العربي يمتلك ( إشعاعا ) من وجهة نظر موفد الحرب النفسية الكابتن جدعوني في جيش الغزاة، فجعله يذهب بعيدا في تفكيره، فأصبح المقاتل العربي بما يمتلك من قدرات وإبداعات قتالية، يمثل حالة فريدة نادرة تستحق الدراسة.
فهذا الكلام الذي جاء على لسان العدو يمثل شهادة للجندي العربي وعلى قدراته وابتكاراته في المعركة. يلاحظ من الفقرة السابقة أن تقيم المعركة كان من ضمن أولويات قيادة الاحتلال، حتى إنها تريد أن تجري تحليل للجنود الذين قاموا بتلك البطولات، لكي تتمكن من مدرات الوضع في الحروب السابقة.
الخوف
هناك حالتين للخوف تم التطرق لهما في الرواية، الجندي عبد اللطيف مسكين، والنقيب ضو القمر، فالأول عبد اللطيف ينادى " بالخويف" حيث الذي كان لا يجرؤ على الخروج لمناوبته الليلية وحيدا، لأسباب وظروف عاشها في طفولته، لكنه أبدع و تألق في المعركة، وأعطى صورة مثالية في للجندي المنتمي لوطنه والحافظ للجميل، هو الشيخوني يشهد لهذا " الخويف" بالبطولة التي أقدم عليها
" كان قد سمع مسكين يظل يخاف قبل الحرب حتى من الخروج وحده في ألليالي الشتاء للحراسة، لكنه في الحرب يلقي بنفسه فوق عريفه الذيب، متلقيا عنه وعن صندوق من الرومانات، موتا صاعقا في خندق الاتصال المؤدي إلى مستودع الذخيرة... فالعريف الذيب يلقي بنفسه فوق صندوق الرمانات لئلا تصيب الصندوق طلقات رشاشات العدو فينفجر ويتلف الرمان قبل إن يكون قد حان موسمه في خندق القتال" ص86
مثل هذا الموقف يشير إلى عدة مسائل، أولا الجندي العربي عبد اللطيف مسكين استطاع إن يتخلص من خوفه، ثانيا أراد إن يحمي رفيقه وصديقه الذي تعامل معه بكل احترام ومسؤولية واستطاع إن يخلصه من هواجس الخوف، ثالثا إن المقاتل العربي على استعداد إن يقدم حياته للدفاع عن رفاقه الآخرين، رابعا إن السلاح عند العربي كالنفس يجب المحافظة عليه حتى لو أدى ذلك إلى الموت، إننا نقف أمام صورة نادرة للتضحية التي يمتلكها الجنود العرب اتجاه رفاقهم وسلاحهم.
الإنحاء على السلاح صندوق الذخيرة يشبه إنحاء الأم أو الأب على ابنه المريض أو المصاب، فهو يمثل الحماية لهذا "الابن" وكذلك الحب الذي يكنه الأب والأم للابن، كما انه يعد هذا الحدث حماية الرمانات مكملا لما تحدث به الشيخوني عندما تمثل المدفع كابن له جاء بعد سبع بنات، فالصور والأحداث في الرواية تكمل بعضها البعض، وكأن الجنود الستة يتجسدون في شخص واحد، يحمل ذات الصفات وأيضا مقدرة على تحقيق وانجاز الإبداعات.
ويذكر لنا أديب حموي هذا الخوف على لسان الكابتن جدعوني الذي يتحدث فيه عن النقيب ضو القمر
" كان علي إن لا أنسى أن الشجاعة إذا نفذت إلى روح الجبان مرة، كما ينفذ المطر الغزير إلى أعماق الأرض العطشى، فإنها لن تخرج من هناك، إلا نبعا متدفقا حتى نهاية العمر، ذلك إني اعلم سيدي الجنرال، إن الشجاع قد يجبن مرة في العمر أو مرتين، لكني اعلم كذلك، إن الجبان الذي استطاع إن يقتل غول الخوف والأنانية في أعماق نفسه، يصبح بعد خروجه من الكابوس، من أشرس الشجعان. ذلك انه يعرف أكثر من سواه، ماذا يعني الجبن بالنسبة للإنسان من ضعة وذل وحقارة"ص350
هذا تأكيد آخر إن الجندي العربي هو في النهاية إنسان، ويمكن إن يخطئ، لكنه سرعان ما يعود إلى جادة الصواب ويتراجع عن خطئه، ويعود إلى مواقعه وموقفه السليم، لكن لا يكتفي بذلك بل وحاملا معه اندفاع وحماس وإصرار وإرادة جديدة لكي يعوض ما فاته من وقت في مجابهة الأعداء وأيضا لتحقيق وانجاز إبداعات كان من المفترض انجازها في فترة تراجعه.
الجندي والسلاح
العلاقة بين الجندي ورفيقه الجندي، والجندي وسلاحه من أهم العلاقات قبل المعركة، وهي تتطور أكثر أثناء القتال ، فهي إن كانت ناجحة وسليمة تكون عامل قوة أساسي في المعركة، والعكس صحيح، وقد أعطانا أديب نحوي صورة لهذه العلاقة
" فقال البلبل:
اسمع يا سواس. إذا كان رفيقاك في خطر، فمن تنقذ منهما؟ تنقذ الرفيق الأنفع وهو صندوق الرمانات. فهيا امسك بحلقه واسحبه وأنت تزحف، فهو انفع لرفاقنا من بلبل مكسورا لجناح يا سواس.
لكن السواس لم يقبل. وقال للبلبل:
آخذك يا بلبل، فإذا سمح لي الملازم، أعود مع احد رفاقنا لسحب الصندوق"264و265
العلاقة الجدلية بين الجندي العربي ورفيقه وبين الجندي وسلاحه علاقة بحاجة إلى وقفة وتحليل، الجندي المصاب يقول عن السلاح " رفيق انفع منه " والجندي الثاني رغم إدراكه ومعرفته بأنه لا يستطيع إن يستمر في المعركة بدون سلاح، مع هذا تم قلب المعادلة في المعركة، وتم اختيار الرفيق العبء وليس لأنفع، فقد تم تدفق الإحساس الأخوي والإنساني داخل الجندي السواس لكي يترك السلاح الأهم وينقذ رفيقه رغم خطورة الموقف، وهنا يضعنا الكاتب في مسالة البحث عن أي المسألتين أهم، البلبل أم الرمانات؟، وهل فعل السواس بسحب رفيقه البلبل وترك الصندوق الرمانات كان أهم؟ وهل الطلب الذي تقدم به البلبل للسواس بتركه وسحب الرمانات كان صائبا؟، اعتقد إن التوحد بين هؤلاء الجنود مع بعضهم البعض ومع سلاحهم جعل منهم جميعا جنود وسلاح شيئا واحدا منسجما متلاحما، لا يمكن إن نفصل بينهم أبدا، خاصة بعد إن أعطا الجنود الصفات الإنسانية للسلاح وجعلوا منه كائنا حيا " تحن وتغادر وتعفو، ويلمسها بلطف كابن له" كل هذا جعل من عملية الفصل بين الجنود والسلاح امرأ مستحيلا فهم مجتمعين يشكلون وحدة واحدة متكاملة ومتجانسة.
هيئة الجندي
كما تحدث الكاتب عن جوهر وإمكانيات الجندي العربي تحدث عن شكل وهيئة الجندي، فالشكل له أهمية كما هو حال الجوهر
" اسمر طويل القامة، نحيل الجسم، لكنه منتصب كالرمح، ومشدود كأنه وتر القوس، وعلى رأس انفه، دقة الحس الزرقاء ... انه بدوي قادم من قلب الصحراء. حلو القسمات وممتلئ العينين بشمس وهاجة وعزم شديد يشيع في وجهه، الجد، فيبدو كأنه ليس داخلا ليؤدي شهادة، بل ليعبس في وجه القاضي"ص77
الشكل يوحي إلى المقدرة الفذة التي يمتلكها هذا الجسد، فهو رياضي ذو بنية جسدية قوية، كما أن الهيئة ليست شكلا وحسب بل أيضا جوهر نقي صافي ليس فيه شيء من الشوائب، فيدب الهيبة في من يقابله أو يقف في وجهه.
لكن ننوه إلى إن أديب نحوي لم يعر كثيرا مسألة الشكل والهيئة للجنود، فلم يتطرق لها إلى في هذا الموقف فقط، ودون ذلك كان الحديث عن الجوهر والمضمون لهؤلاء الجنود، ونعتقد إن ذلك يعود إلى البعد الزمني بين الحدث الروائي وكتابة الرواية، فبعد إن وجد أديب نحوي بعد حرب 67 و74 ما حل بالجنود العرب من الذهاب إلى الشكليات والابتعاد إن الروح الحية للمقاتلين، تجنب الحديث عن الشكل والمظاهر وركز على الجوهر والمضمون، من هنا نعتبر هذا التطرق للشكل لا يعدو أكثر من تحسينات لهؤلاء الجنود.
الإبداع في استخدام وسائل بديلة في الحرب
في حالة تعطل إحدى الوسائل المستخدمة في القتال لا بد من إيجاد بديل وبسرعة، لكي يتمكن الجنود من تحقيق هدفهم بنجاح وبنفس الكفاءة، وها هو العريف الزعلان يتحدث عن اختراع جديد في الاتصالات العسكرية
" ... وبذلك أستطيع أن انقل أوامر جماعتين بالهاتف البشري، سيدي العقيد.
قال العقيد متسائلا: بالهاتف البشري
فقال له الزعلان:
طبعا، سيدي العقيد. من فم مقاتل إلى جاره، ولا يستغرق أمر الملازم سوى دقيقة واحدة، يكون قد وصل فيها، إلى آخر واحد من الجماعة، ودقيقتين شماليتين واثنتين جنوبيتين، يكون الأمر قد وصل إلى آخر جنوبي من الناحية، والى آخر شمالي من الناحية الأخرى"ص65
عملية نقل المعلومات والتعليمات من والى ومركز القيادة لا يتجاوز دقيقة بواسطة الهاتف البشري، وهذا الاستخدام لم يكن بدون وجود البداهة والفطنة عند الجنود، ففي حالة الشدة يفقد الإنسان توازنه ولا يعود يفكر بطريقة سليمة كما هو الحال في الهدوء والراحة، لكن هنا نجد الذهن صافي تماما ويبدع في التفكير لكي لا يعيق العمل ويبقي القتال في أفضل حالاته، ذكر هذا الأمر ينم على الطبيعة الخلاقة التي يتحلى بها الجندي العربي فهو قادر على إيجاد البديل وبسرعة فائقة وبكفاءة عالة، ويستدل من الفقرة السابقة وجود قائد الجنود الملازم يتوسط الجنود إشارة إلى موضع القلب لهؤلاء المقاتلين، كما إنهم يشكلون الحمالة له، من هنا الشكل الذي رسم لنا يمثل القلب الذي يتوسط الجسم ويزوده بالدم، فهو المحرك للجنود، وهم الذين يحمونه ويحافظون عليه ليستمر تدفق الدم.
الحرب النفسية
جاءت كافة الأحاديث عن الحرب النفسية على لسان الكابتن جدعوني، حيث انه متخصص في هذه الحرب، وهو صحاب خبرة ودراسة لهذه الحرب وأساليبها، فهو يعطينا معلومات مهمة عنها، والطرق التي يجب أن تتبع لإنجاحها واختراق دفاعات العدو وتحطيم معنويات جنوده
"فكر الكابتن جدعوني:
يا له من كولونيل حرب أحمق . كأني عنده قائد سرية تهاجم هذا التل لاحتلاله , ويصدر إلي الأمر : مكانك يا جدعوني وافتح من هنا النار
ثم أنه قال لنفسه :
إنهما حربان مختلفتان . في حربه, انك وأنت تهاجم الأعداء لابد من إن تمهد للهجوم بقصف المدفعية من مسافة ما و لا بد من إن تكون بعيدة عن موقع عدوك . لكنه لا يعلم إني أمارس حربا أخرى, يجب على ضابط الحرب النفسية وهو يخوضها, إن يقترب من موقع الأعداء بأكثر ما تسمح به الظروف, من اجل أن يوحي إليهم إيحاء نفسي مباشر, بأنه لا ينتظر منهم أي تصرف عدائي على الإطلاق .
هكذا فكر الكابتن الجدعوني وهو ينظر إلى ورقة تل الفخار فيشاهد فيها أربعة أسماء : الأول هو اسم قائد السرية النقيب خالد ضو القمر . والتالية هي أسماء قادة الفصائل وهم ثلاثة ملازمين . لا يلزمني الملازمون في البداية لان من قواعد الحرب النفسية أيضا و أنك وأنت قاعد داخل عربتها, وأعدائك أمامك . يشاهدون مكبر الصوت فوق سقفها ومستعدون للاستماع إليك طالما إنهم لم يدمروها حتى الآن, بقذيفة واحدة تجعلها هباء منثورا, من قواعد حرب النفس أنه لا يجوز لك عند ذلك إن تخاطب الضابط الأقل رتبة لان قائده يغضب . وكيف لا يغضب وأنت تتجاهله ! بل يجب عليك أن تخاطب الضابط الأعلى رتبة ولو كان بعيدا عنك ولا يسمعك, فلا بد لمن يسمعونك من إن يخبروه بأنك تخاطبهم جميعا لكن من خلاله . ولا تتجاهله كأنه غير موجود, محاولا اللعب بعقول ضباطه الصغار, من وراء ظهره, لذلك والآن في هذا التل, قائد سرية برتبة نقيب, فلا نكلم الملازمين من قادة الفصائل , بل نبدأ به أولا , وبعد ذلك نتسلل .
_ يا نقيب خالد ضو القمر . أبداك بالتحية : السلام عليكم ورحمة الله .
وأعرفك بنفسي . فانا من أفراد الجيش المقاتلين . وليس لي أي مهمة عسكرية تدعوني لتكتم . أنا سليم الجدعوني, مجرد إنسان تعلم قيادة جيشنا إني أحبكم انتم معشر السوريين الأكارم . فقالوا لي : أصلك من سوريا يا سليم وأبوك فؤاد الجدعوني هو الذي أتى بك من هناك إلى فلسطين . فأنت لذلك تحب أهل سوريا, أليس كذلك يا سليم ؟ قلت لك كيف لا أحب أهلها وأنا ولدت وعشت عندهم حتى بلغ عمري اثنتي عشرة سنة قلت لهم : إني أحب سوريا وعظم أكتافي هو من خيراتها ولولا أن أبي فؤاد الجدعوني هو الذي هاجر وأخذني معه وأنا ولد لا استطيع معرضته, لما تركت أهل سوريا الطيبين فيما بيننا وبين إخوانك السوريين واشرح لهم كيف إننا لا نريد إن نلحق بهم أي أذى, معاذ الله . قالوا : إلا تأتي معنا يا سليم بن فؤاد جدعوني ؟ قلت كيف لا أتي معكم ما دمت استطيع بذلك حقن دماء أحبائي بل أتى معكم وأنا مسرور وأقوم بواجبي تجاه إخواني السوريين بكل طيبة خاطر . أيها السيد النقيب خالد ضو القمر, أيها السادة ضباط وضباط صف وأفراد حامية تل الفخار الأعزاء . هذا هو سبب وجودي هنا وأنا راغب في التفاهم مع حامية تل الفخار فانظروا, ما أنبلها من رغبة ! أليست مناسبة تبعث السرور في نفوسنا جميعا إن نلتقي هكذا بعضنا مع البعض الأخر, لنعيش جيرانا متحابين ونبني معا في هذه الأرض صرح السلام . أيها الإخوة الأكارم, نحن كلنا بشر, لكل منا بيت يتمنى إن يعود أليه بسلام لكل منا أهل أعزاء : أب و أم وزوجة وأطفال, ينتظر بفارغ الصبر ومنتهى الشوق إن يرجع أليهم ليضمهم إلى صدره, وينعم إلى جانبهم بالحنان والسعادة ويتمتع بمباهج الحياة . لماذا نقتل ؟ ماذا وراء الإقتال سوي الموت لنا والفجيعة لأهلنا وأطفالنا الأحباء ؟ انبذوا السلاح إذن ,أيها الإخوة الأكارم, وها انتم تشاهدون بعيونكم إن قيادة جيش إسرائيل قد رفعت فوق هذه العربة التي وضعتها تحت تصرفي من اجل الوصول إلى هذا المكان, علما ابيضا تعبيرا عن رغبتها المخلصة في حقن الدماء, أيها السيد النقيب ضو القمر, تكرم إذن وأوعز لضباطك وجنودك إن يفعلوا مثلما نحن نفعل . هيا , أذا سمحت . وأوعز إليهم بان يلقوا أسلحتهم فورا إلى الأرض وبان يرفعوا فوق احد المرتفعات موقعكم علما ابيض ثم تفضلوا جميعا بالنزول إلينا واحدا خلف الآخر وأيديكم مرفوعة فوق رؤوسكم, تجدونا بانتظاركم وأيدينا ممدودة إليكم, لنتصافح مثلما يفعل الناس المتمدنون ."ص124-127
لغة الدهاء والمكر تفوح من فم جدعوني ( الذي يتمسكن حتى يتمكن ) فهذه اللغة السلمية والعقلانية شكليا لا تنطلي على الجنود العرب، الذين يتشوقون لمواجهة الغزاة.
في بداية الرواية أعطانا الجنود العرب فكرتهم عن جنود الاحتلال وأعمالهم المشينة، فمجازرهم في دير ياسين كانت حاضرة في عقول الجنود العرب وتشكل لديهم فكرة واضحة عن سلوك الغزاة، من هنا تشكل لديهم ثقافة وطنية لا يمكن التأثير عليها من خلال كلمات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، فمعنوياتهم كإرادتهم فولاذية صلبة لا يمكن اختراقها أبدا، وهم يمتلكون من خلال البناء الذي شكله الملازم تحصينا ضد أي أفكار خارجية، فالتعامل الأخوي ولرفاقي والسلوك السوي بينهم، ومن ثم الثقافة الوطنية التي يحملونها جعلتهم ( يا جبل ما يهز ريح )
وكنا التركيز على القائد الأكبر في المعركة من قبل موفد الحرب النفسية، وهذا طبعا له تفسير منطقي، فهو صاحب الأمر والنهي في الموقع، ويخضع الجميع لقراراته، من هنا أي قرار يتخذه القائد سلبا أو ايجابيا يكون تأثيره مباشرة على الجنود، وكما يقال ( اضرب الرأس تسقط البقية )
كما يتضح من كلام جدعوني المعسول، فهو لا يبحث عن سلام أو يريد السلامة للجنود، بل يريد تحقيق انتصار له أولا ثم لجيش الاحتلال ثانيا، ولا يعبأ لأي شيء آخر.
الإيمان
ما يلفت الانتباه في هذا العمل الروائي اقتراب الإيمان بكافة شخصيات الرواية، إن كانوا جنود أم أهالي، فالكاتب يتحدث عن الإيمان الذي يحمله كل شخص في "سلام على الغائبين" فهو يشكل مكون أساسي من مكونات المجتمع ولا يمكن إلا أن يتم التطرق إليه بكل ما يحمل من راحة وسكينة وأمل ورجاء، والإيمان الذي يتناوله الكاتب ليس فقط في القلب بل يتعداه إلى القيام بالعبادات، فهي واجبة على كل مؤمن وعليه أن قوم بها، كما إنها صورة وانعكاس لذلك الإيمان، وها هو الحاج صبحي ضو القمر يتحدث عنه
" قال لنفسه : أنا وعدتها، أني قبل شروق الشمس أنهض وأتوضأ وألبس ثيابي وأذهب فاصلي الصبح في الجامع الأموي، وأتلو دعاء إلى الله من اجل أن يكون اسم خالد مكتوبا في القائمة الدولية أنه بين الأسرى"
هذا الوصف لإيمان الإباء والأمهات الجنود، يعد من التشكيلة الأساسية للشخصية العربية، إذا عدنا إلى الاقتباس نجد "المسجد الأموي" جاء يحمل البعد التاريخي ببعديه الجغرافي والإنساني، وأيضا يضاف على ذلك مكان للعبادة سابقا وحاضرا.
العقيدة داخل النفس الإنسانية، ولا بد من مكان تقام به العبادات، كما إن ذكر المسجد الأموي الذي يصلي فيه آباء الجنود جاء به الكاتب ليربطه بالجنود الذي استشهدوا في تل الفخار، فهنا يكون المسجد وتل فخار قد أخذا من الأهمية مكانة واحدة لا يمكن أن يقلان عن بعضهما، الأول بيت الله والثاني مكان استشهاد الأبناء المقاتلين.
أما حديث عن الجنود الذي قاتلوا في تل الفخار فيحدثنا عنهم أديب نحوي قائلا " أدعو الله أولا ثم ارمي الحشوة، يا رب اعم عيون أعدائك عن مدفعي كلما رميت منه حشوة، يا رب باسمك ارميهم وليس من يدي بل من جلال قدرتك، أطلق الحشوة، يا رب انظر إلى خندقك الشرقي في تل الفخار بعين الرضا، فلم يبقى فيه سوى مدفع واحد مضاد للدروع ب عشرة. يا رب من يرد جنازير الغزاة الطامعين عن شباب فصيلتك الشرقية الصامدة في وجههم سوى الميم دال ب عشرة"ص74، في القتال وعن اشتداد الأمر يلجأ الإنسان إلى ربه لكي يخلصه من كربته، هذا وضع طبيعي جدا، لكن ما يميز هذا الدعاء وهذا الوضع، ربط الذات مع الله بشكل كامل، فنجد كلمة أعدائك، خندقك، شباب فصيلتك، فكأن الشيخوني هنا يمثل جندي من جنود الله، وانه يقاتل أعداء الله وليس أعداءه وحده، كما إن الخندق لم يعد يخص الشيخوني فقط بل هو خندق الله "خندقك" الكلمات التي قيلت آنفا تمثل ذروة الإيمان وهي تعكس الحالة الإيمانية التي يعيشها الجنود في الحرب، فلم يطلب الشيخوني أن يخلص نفسه من هذا المأزق أبدا لكن كان دعاءه أن يثبتهم في وجه الأعداء لكي لا يدنسوا الأرض ويقتلوا الشباب، فهذا الأمر تقديم العام وتجاهل الخاص يعد ذروة العطاء ونكران الذات، وليس كل شخص يستطيع أن يقوم به،
هذا الوضع كان أثناء القتال واشتداد الوطيس في المعركة، لكن هل استمر الإيمان بعد ذلك "فكرر الشيخوني أقواله بشأن ما لا يعرفه عن مصير النقيب ضو القمر، ثم بشأن ما يعرفه عن الملازم العدناني ضارعا إلى الله إن يتغمده برحمته، مضيفا إن أباه يتلو كل يوم بعد صلاة الفجر، حرزا من القرآن الكريم على روحه"ص72، إذن الجنود الأبناء أيضا هم مؤمنون ويحملون الإيمان كزاد في كل مكان وفي أي ظرف، فهو يلازم الإنسان أينما كان أيما حل، ولا يمكنه أن لا يكون بدون الإيمان،
إلام والأب
الرواية تتطرق إلى الهم والمحبة التي يكنها الإباء والأمهات لأولادهم
" قال الحاج: لأني انتهيت من استجوابهم منذ عشرة أيام، قضيت أسبوعا بكاملة وأنا أسافر إليهم عند أهلهم، حيث كانوا يقضون الإجازات"ص 94" قتيل، فلكن، وأعود به إلى بيتي قتيلا يا حضرة العقيد لان أم القتيل مهما طال بها البكاء والسهر،فإنها في النهايات الليالي، تتعب وتنام"ص95 المقطع السابق يتحدث فيه أبو النقيب ضو القمر الذي لم يستطيع الانتظار لحضور الجنود الذين تم عودتهم إلى الوطن بعد الأسر، فقرر الذهاب إلى كل واحدا منهم إلى مدينته وسؤاله عن ابنه النقيب ضو القمر، والمقطع الثاني يتحدث فيه أيضا عن التعب الذي يسببه عدم وضوح مصير النقيب خالد ضو القمر، له ولامه، فهو في النهاية إنسان يتعب وتضعف معنوياته، كما أن عامل السن له التأثير على كل ما يصيب الإنسان من ضعف وعدم القدرة على الاستمرار في العطاء، فالأم التي كانت توقظ زوجها ليبحث عن ابنها في ساعات الفجر الأولى، بعد أن تقضي طيلة الليل في قلق وحيرة، لا بد أن تستريح حتى لو كانت الاستراحة صعبة وقاسية عليها وعلى زوجها، هكذا تم التحدث عن إلام والأب من قبلهما ومن الكاتب، وها هو النقيب خالد ضو القمر يقول عن أمه بطريقة غير عقلانية، اقرب إلى الحلم والخيال من المنطق.
"إني سقطت آخر مرة عند مشارف تل الفخار مع آخر ضوء الشمس وأخذت انظر إليه بعد أن ذهب عين فيت، عائدة إلى مكانها، فشاهدته في الأفق، كأنه غيمة من البنفسج، ما لبثت أن أطلت منها أمي، قالت: أنا علمت أن أباك هو الذي يصنع مكاتيبك لي يا خالد، فلماذا لا تكتب لي وأنا أمك، طول السنة، مكتوبين؟ قلت لها : سامحيني يا أمي. ففرحت وقالت: إياك أن تكون قد زعلت مني لأني أعاتبك يا خالد؟ قلت لها : أبدا. وسأكتب لك مكتوبا يا أمي، كل يوم. قالت أراك قد تعبت من عناء هذا اليوم يا خالد. فهل انك تريد أن تجلس لتسند راسك إلى ركبتي وتنام.فإذا الحاج صبحي يحضر. قال وهو مقطب الحاجبين: ماذا تفعل يا خالد؟ قلت له : هاأنذا وصلت لكني لا استطيع الصعود. قال لي : لكن الحج لا يكون يا خالد يوم الوقفة إلا إذا صعدت ووقفت في عرفة، قلت له : إني تعبت يا أبي فدعني أنام. قال : وماذا افعل أنا بالشباك وقد أمسكت به والصق خدي عليه. فسألته وأنا أتعجب: أي شباك هذا الذي تمسك به يا أبي وتلصق خدك عليه. قال شباك قبر الرسول. فانا منذ أن شاهتك عائدا إلى تل الفخار، امسك به والصق خدي عليه. وأتضرع : شفاعتك لابني خالد يا نبي الله، يا محمد. فها هو بعد أن كاد يضيع في شبعا على حدود لبنان، قد عاد في طريق تل الفخار. فقلت له دعك ممسكا بالشباك إذن يا أبي، وهات يدك الأخرى وساعدني على النهوض لأتابع طريقي إلى هناك"ص341
إننا أمام حالة فريدة من لعلاقة ما بين الابن وإلام والأب، فالأم تظهر لابنها وهو في اشد حالات الصراع مع الذات وتنقذه من الهموم والجرائر التي ترهق روحه وتأرقه، والأب يأتي للابن ليعطه الدافع والهمة لكي يستمر في طريق السليم، إلام تريد أن يجس ابنها ويضع رأسه على ركبتها، نعتقد أن التذكير فيه من العاطفة والمحبة ما يعجز الإنسان عن وصفه، وذلك لأني ونحن صغار كنا ننام على ركب أمهاتنا فهنا يعيدنا الكاتب إلى علاقة إلام بطفلها، وهنا تكون المحبة المتبادلة في أوجها، كما أن استحضار الموقف السابق ينم على أن هذا الشاب رغم البعد الزمني ما زال يرتبط بأمه بطريقة الأطفال، نعتقد أن هذا الاستحضار للام يتماثل مع الاستحضار الذي قام به الروائي الفلسطيني غسان كنفاني في رواية أم سعد، فالأم في المجتمعات العربية لها من المكانة والمحبة والاحترام ما لا يستطيع المنطق أن يستوعبه، فنحن هنا نقول أن ما أصاب النقيب ضو القمر حقيقة واقعية وليس وهما أو تخيلات.
أما حضور الأب وإعطاء الابن الدوافع لرفع معنوياته وجعله يستمر في التقدم في الاتجاه الصحيح، يصب أيضا في التأثير الذي يكنه الأبناء للآباء الذين لا يتوانون ولو للحظة على تقديم كل ما يستطيعون، ونعتقد بان ذروة العلاقة بين العائلة تتمثل في هذا الموقف تحديدا، كما يؤكد هذا الاستحضار على الوقع الإيماني عند الأب وعند الابن معاً وهذا يجعل الرواية تسير في خط تراكمي لشخوصها، فتبني على مواقف وأحداث وأعمال وأقوال قامت بها الشخصيات، ومن ثم نجد البناء الروائي يتصاعد ويتراكم ليصل إلى الذروة.
الحكم
الرواية فيها الكثير من المقولات والعبارات التي ترتقي إلى الحكم والأمثال، فها هو البدوي ذيب صائد الأفاعي يقول
" لا يهرب من الذئب، سوى الغنمة. لكن الذئب لا يفترس ذئبا مثل" ص0 8
مثل عادي يتم تداوله في المناطق العربية لكن مثل هذا المثل جاء بمثابة عقيدة تترسخ في قلب الجندي ذيب فيكون حصنا له في المعركة وحافزا لكي يعطي أكثر.
" المسالة ليست عيني الحارس ولا مسدسه بل قلبه" ص156، هذه العبارة تشير إلى أن الإرادة والمعنويات أهم من السلاح، فرغم أن الكلام يتعلق بحادثة سرقة مخزن، إلا أن سياقها جاء ليعطي السواس مفهوم عن المعنويات وأهميتها في لمعركة.
" إذا نحن لم نقلب عنها ترابها اليابس مرة في السنة، فإنها تختنق وتموت" ص160، هذا الحديث تكلم به أب الهلالي حيث يحمل الحث للاهتمام بالأرض وعدم تركها بور حتى لو لم يكن مردودها الاقتصادي مجدي، فهي مقولة لكي لا يترك الفلاح أرضه وان يبقيها حية،
" احسبوا للعدو حسابا وللجهل ألف حساب. إملاوا مخازن نفوسكم بالعلم فهو أفضل ذخيرة حية"ص178 " المدرسة مربض والعلم مدفع عديم الارتداد" ص179،دعوة من الجنود لكي يهتموا بالعلم والتعليم فهو الترياق الذي يشفي من المرض، كما انه الحامي والمنقذ عند الشدة والخطر.
"لم أكن أريد منك يا ضو القمر سوى أن ترفع يديك فوق راسك وتستسلم. إننا لم نكن راغبين في سفك الدماء، قال لي : لكنكم كنتم وما زلتم راغبين في اغتصاب الأرض ياجدعوني، أليس كذلك؟ .... هي ليست أرضكم إلا بمقدار ما تحشدون فيها من المدافع والجنازير يا جدعوني" ص243و 244، هذه الكلمات قالها النقيب ضو القمر للجدعوني، فهي تمثل حقيقة الصراع العربي الصهيوني.
الترميز والتلاعب بالكلمات والمعاني
لقد استطاع أديب نحوي أن يستخدم الكلمات بغير معانيها وان يطرح أفكاره من خلال الرمز بحيث جعل من الرواية في بعض أجزاءها اقرب إلى الأدب الساخر منها إلى الأدب الواقعي، كما إن استخدام الترميز فيها والحديث عن الأحداث غير منطقية عندما تحدث عن النقيب ضو القمر وكيف حضرت أمه وأباه والحديث معهما جعل الرواية تتجاوز الحدث التاريخي الواقعي وتتخطاه، هذا التمازج والتنوع في الأسلوب جعل من الرواية ذات طابع خاص وأسلوب مميز لا يمكننا أن نضعها ضمن المدارس الأدبية المعروفة، فهي رغم أنها تتكلم عن حادثة واقعية إلا إن أسلوبها وطريقة طرحها للأفكار والأحداث جعلها تتجاوز الواقعية.
" علمنا الجبال والسهول والبحار، فشاهدنا من أين تنبع وأين تصب كل الأنهار، إلا نهر النفط، فهو غير مرسوم على الخريطة رغم انه أطول نهر عربي، فهو ينبع من جزيرة العرب ويظل يجري ويجري، إلا انه لا يصب في أي مكان من الخريطة" ص83
مثل هذا الترميز لم يكن ليوجد في الرواية بدون أن يكون الكاتب قد توصل إلى ذهنية واعية ومنفتحة على كافة الأساليب الأدبية لكي يأتينا بمثل هذا التصوير العقلاني، فالهم السياسي عند العربي يعيش معه ويشكل جزء مهم من مكونه الفكري، فيريد أن يعرف أين يذهب هذا النهر الجاري من الثروة العربية وأين مردوه على الأمة؟.
وبما إن واقع التجزئة له تأثيره السيئ على المواطن العربي فها هو يتناوله بصورة هزلية
"قال الجبلي: أبي. أقول له كفاك عملا في التهريب من لبنان، فيقول لي: هل التهريب من لبنان تهريب العمى. كلها بلاد الشام، ونحن أهل مضايا، لا نقبل بما أقامه الفرنسيون في بلادنا من الحدود"ص196
إذا كان الهم الأول هم اقتصادي سياسي فالطرح هنا طرح سياسي اقتصادي، بمعنى أن التجزئة تلعب على خنق المواطن العربي ولا تعطيه الفسحة والأفق للحركة والترزق من خيرات الله في هذا الوطن، فكل مواطن عربي يعلم ويشعر بان الحدود ما هي إلا أصفاد تكبله وتجعل منه أسير المخطط الامبريالي الذي سمية ب (سايكس بيكو)
من المفارقات المذهلة عندما تحدث الكاتب عن وضع جدعوني بعد سقوط ألعربة في المعركة " قال زوهار : انك إذن ربطت عنقي بعلمك الأبيض يا جدعوني؟ قال الجدعوني: نعم. فهو لم يعد يلزمني بعد أن تلقيت إنذارا بأنه لا يصلح لمساعي السلام" ص232، التخلي عن راية السلام والحديث عنها بهذه الكيفية يبين لنا أن هؤلاء الغزاة لا يعرفون من السلام سوى الخداع والتضليل ليس أكثر من هذا، وهنا يجعلنا الكاتب مجبرين على تناول السلام الذي حدث بين دولة الاحتلال والأنظمة العربية وكيف تتعامل معها، فهي ليست أكثر من شكل لا يمت إلى جوهر السلام الذي يتردد كثيرا هنا وهناك، فالكاتب سبق الكثير من القادة العرب في فهم هؤلاء الذين يتحدثون عن السلام وفهم طبيعة السلام الذي يريده هؤلاء المحتلون.
وهناك مواضع تم التمازج فيها بين الحكم والخيال والترميز معا مما احدث فوضى في حديثنا عن الرواية، فلم نقدر أن نفرز كل المواضيع حسب صنفها أو شكلها، وهذا طبعا يشير إلى المقدرة التي يتمتع بها الكاتب وعلى وصوله إلى نوع من الكاتبة خاص به، فيستخدم كافة معرفته الأدبية ليخرج لنا هذا العمل،
" ... رجالا يدفعون صخورا من فوق صخور وإذا بالنبع يتدفق من قلب صخور" ص324
" إني شاهدت أن الجبل لا يخون نبعه. لكن على الظامئين أن يبحثوا أين اختفت صخور الخضراء"ص326
هذه العبارات قالها النقيب ضو القمر فهي تقع بين الرمز والحكم والخيال، ولا يمكننا أن نضعها ضمن صنف معين، وهذا التنوع جعلنا في حيرة من أمرنا، وأيضا إذا تمعنا في الاقتباس السابق لا بد لنا أن نفكر ونفكر فيه كثير، حيث أن الكلمات تقع بين الاتجاهات الثلاث.
السخرية
ومن العلامات الفارقة في الرواية استخدام أديب نحوي السخرية في الرواية مما منح القارئ حيز من التمتع والحصول على شيء من الفكاهة رغم أحداثها الدامية، فلمقدرة على إعطاء فاكهة أدبية في موضوع الحرب والقتل ليس بالأمر اليسير أبدا، ومع هذا جعلنا أديب نحوي نبتسم ونشعر بالراحة والفرح من خلال النص
" أقبلت وهي لا تتبختر، بل تمشي مكسورة الخاطر ومعها من مدافع تل الفخار عفو خاص" ص137،
"لقد هربوا ولم يتركوا أمامي سوى الغبار، والحفر سيدي الكابتن، كثيرة وعميقة. فإذا أسرعت سقطنا في واحدة منها قبل إن أراها. وإذا لم أسرع، أخشى إن تسقط فوقنا واحدة تخرق درع الدبابة، فماذا لو أصابتنا ونحن
عربة مسكينة لا تلبس درعا، سيدي الكابتن"ص138
هذه اللغة التي تقع ضمن الأدب الساخر هي ضمن مجموعة كبيرة من القدرات التي استخدمها الكاتب في روايته، ولا نستطيع إلا أن نقول بأنه فعلا جعلنا نأخذ هذا العمل كحالة فريدة في الرواية العربية لم يسبقه احد في هذا التنوع والتزاوج في استخدام اللغة والأسلوب.
" ثم أتى دور الشيخوني
قالوا : نقيبك
فقال : اشوني
فجردوه من قميصه واخذوا يشونه حسب الطلب، فسقط إلى جانب الزعلان. لكن ضابط الصف العملاق لم يعجبه المكان الذي سقط فيه الشيخوني. لأنه كان قد اضطجع إلى جانب الزعلان، تماما. وجهاهما متقاربان. باللسان لا يتكلمان بالعيون لا ينظران ... وقد لقموه لذلك، على فمه ضربة بأخمص البندقية، فسقط. لكنه اتخذ وضع الرامي منبطحا، واخذ يطلق من فمه أسنانه المحطمة إدراكا، سنا بعد سن، فبكل سن يرمي طلقة" "ص104
التحدث عن عملية التعذيب للجنود العرب بهذه الشكل يعد عمل خارق للكاتب، فرغم الوجع الذي يسببه هذا الحديث للقارئ جعلنا نتقبله ونتجاوز وجعه، من خلال طرافة الأسلوب الذي استخدم، فليس المهم أن نتحدث عن الفكرة رغم أهميها لكن الأهم اللغة والأسلوب الذي نوصل به فكرتنا، بحيث نجعل القارئ يحصل على المتعة والمعرفة معا وبدون أن يتشنج أو يمتعض من الحدث إذا كان قاسيا كما هو الحال في الموقف السابق.
لعبة الكلمات
ومن ميزات الرواية تلاعب الكاتب بالكلمات حتى بدت لنا بأنها بحد ذاتها ممتعة وتستحق أن يرجع إليها للمعرفة والمتعة، " وزعلان يزعل لأنه لا يشتبك. ومصباح يضيء لأنه بالنور اشتبك. وسدنة يتبددون في الجنوب، أشعة لا تلبث أن تتجمع في الشمال، وإذا بها في فم رئيس السدنة الأخر، نار. وحسن يسابق حسنا إلى خطر الموت، فأي الحسنين يا زعلان أحسن؟" ص75، مثل هذا المقطع يبن لنا مقدرة الكاتب على التلاعب بالكلمات، فهي عجينة طيعة يستطيع أن يشكل منها كل ما يجول في خلده من أفكار، ويقدمها لنا في أبهى صورة، حيث نتمتع ونحصل على فكرة الخير لترسخ فينا وتبقى ضمن المخزون الثقافي.
" أن المساعد الغضبان كان غضبان جدا أول الأمر" ص 146
" لا تظنوا إني أنا الرقيب المصباح أعمي، ابد أني أشاهد من مربضي كل حجر في مجال الرمي المجدي، أما مجال المحكم، فان عيني تقيسانه بالأشبار. ومدفعي كذلك عينه مفتوحة، فانظروا إليه كيف انه بوضع الاستعداد للرمي الفوري"ص171،
استخدام الألقاب التي يتداولها الناس بطرقة معكوسة، أو يجمع اللقب مع الاسم، الأعمى وهو مصباح الذي يصيب الهدف بدقة، والغضبان غضبان، لعبة فنية تضاف إلى الجمالية التي أمتعنا بها أديب نحوي في رواية سلام على الغائبين، ونحن نقول بدورنا للكاتب المتألق سلام لك وسلمت يداك وسلمت لغتك
رائد الحواري
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.