السامعي: تعز ليست بحاجة لشعارات مذهبية    سعد بن حبريش.. النار تخلف رمادا    فضيحة الهبوط    "الوطن غاية لا وسيلة".!    عدن .. البنك المركزي يحدد سقف الحوالات الشخصية    السقلدي: تحسن قيمة الريال اليمني فضيخة مدوية للمجلس الرئاسي والحكومات المتعاقبة    جياع حضرموت يحرقون مستودعات هائل سعيد الاحتكارية    من المستفيد من تحسن سعر العملة الوطنية وكيف يجب التعامل مع ذلك    وادي حضرموت يغرق في الظلام وسط تصاعد الاحتجاجات الشعبية    في السريالية الإخوانية الإسرائيلية    مفاجأة مونتريال.. فيكتوريا تقصي كوكو    سمر تختتم مونديال السباحة بذهبية رابعة    أيندهوفن يتوج بلقب السوبر الهولندي    صومالي وقواذف وقوارير المشروبات لإغتصاب السجناء وتعذيبهم في سجون إخوان مأرب    شبوة .. توجيهات بإغلاق فروع شركات تجارية كبرى ومنع دخول بضائعها    العالم مع قيام دولة فلسطينية    رجل الدكان 10.. فضلًا؛ أعد لي طفولتي!!    جحيم المرحلة الرابعة    توظيف الخطاب الديني.. وفقه الواقع..!!    لمناقشة مستوى تنفيذ توصيات المحلس فيما يخص وزارة الدفاع ووزارة الكهرباء..لجنتا الدفاع والأمن والخدمات بمجلس النواب تعقدان اجتماعين مع ممثلي الجانب الحكومي    في خطابه التعبوي المهم قائد الثورة : استبسال المجاهدين في غزة درس لكل الأمة    مساعد مدير عام شرطة محافظة إب ل"26سبتمبر": نجاحات أمنية كبيرة في منع الجريمة ومكافحتها    العلامة مفتاح يحث على تكامل الجهود لاستقرار خدمة الكهرباء    إعلان قضائي    لجنة أراضي وعقارات القوات المسلحة تسلم الهيئة العامة للأراضي سبع مناطق بأمانة العاصمة    الراحل عبده درويش.. قلم الثقافة يترجل    مرض الفشل الكلوي (15)    الرئيس المشاط يعزّي مدير أمن الأمانة اللواء معمر هراش في وفاة والده    من بائعة لحوح في صنعاء إلى أم لطبيب قلب في لندن    اتحاد إب يظفر بنقطة ثمينة من أمام أهلي تعز في بطولة بيسان    عدن وتريم.. مدينتان بروح واحدة ومعاناة واحدة    بتوجيهات الرئيس الزُبيدي .. انتقالي العاصمة عدن يُڪرِّم أوائل طلبة الثانوية العامة في العاصمة    الشخصية الرياضية والإجتماعية "علوي بامزاحم" .. رئيسا للعروبة    2228 مستوطناً متطرفاً يقتحمون المسجد الأقصى    اجتماع يقر تسعيرة جديدة للخدمات الطبية ويوجه بتخفيض أسعار الأدوية    أبين.. انتشال عشرات الجثث لمهاجرين أفارقة قضوا غرقًا في البحر    من يومياتي في أمريكا .. تعلموا من هذا الإنسان    إصابة ميسي تربك حسابات إنتر ميامي    الاتحاد الرياضي للشركات يناقش خطته وبرنامجه للفترة القادمة    الهيئة العليا للأدوية تصدر تعميماً يلزم الشركات بخفض أسعار الدواء والمستلزمات الطبية    تدشين فعاليات إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف في محافظة الحديدة    مجلس القضاء الأعلى يشيد بدعم الرئيس الزُبيدي والنائب المحرمي للسلطة القضائية    انتشال جثة طفل من خزان مياه في العاصمة صنعاء    قيادة اللجان المجتمعية بالمحافظة ومدير عام دارسعد يعقدون لقاء موسع موسع لرؤساء المراكز والأحياء بالمديرية    هناك معلومات غريبيه لاجل صحتناء لابد من التعرف والاطلاع عليها    تشلسي يعرض نصف لاعبيه تقريبا للبيع في الميركاتو الصيفي    الحكومة تبارك إدراج اليونسكو 26 موقعا تراثيا وثقافيا على القائمة التمهيدية للتراث    توقعات باستمرار هطول امطار متفاوة على مناطق واسعة من اليمن    الرئيس الزُبيدي يطّلع على جهود قيادة جامعة المهرة في تطوير التعليم الأكاديمي بالمحافظة    نيرة تقود «تنفيذية» الأهلي المصري    صحيفة امريكية: البنتاغون في حالة اضطراب    مشكلات هامة ندعو للفت الانتباه اليها في القطاع الصحي بعدن!!    تدشين فعاليات المولد النبوي بمديريات المربع الشمالي في الحديدة    من تاريخ "الجنوب العربي" القديم: دلائل على أن "حمير" امتدادا وجزء من التاريخ القتباني    من يومياتي في أمريكا.. استغاثة بصديق    من أين لك هذا المال؟!    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    رسالة نجباء مدرسة حليف القرآن: لن نترك غزة تموت جوعًا وتُباد قتلًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية د. أحمد ابراهيم الفقيه (8): الطريق الى قنطرارة - إيلاف
نشر في الجنوب ميديا يوم 04 - 03 - 2014

GMT 0:00 2014 الأربعاء 5 مارس GMT 22:08 2014 الثلائاء 4 مارس :آخر تحديث
مواضيع ذات صلة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية (10/8)
النفوسيون في تاهرت
على مدى السنوات العشر من حكم الإمام المؤسس، تكونت جالية كبيرة من ابناء جبل نفوسه في تاهرت، بدأت بالاورطة العسكرية التي تاسس بها جيش الدولة، وصار فرسانها فيما بعد عصب الحياة العسكرية في العاصمة واهم قادة الجيش، وصحب هذه الاورطة في بدء نشأة الدولة مائة عالم احتلوا دوائر القضاء وديوان المحتسب، غير من جاءوا تجارا وطالبي رزق، واسهموا في تاسيس جالية كبيرة تحظى بثقة اهل العاصمة لما رأوه متمثلا في سلوكهم من اخلاص ونزاهة وتعفف. اما الإمام ابن رستم، فان تجنيده لهم، وتفضيله للنفوسيين على غيرهم، حصل من كونه قديم الصلة بهم،إذ عاينهم وخبرهم عندما عاش معهم وخالطهم في السنوات السابقة لتاسيس الدولة الاباضية الاولى، فقد عاش في كنفهم، وحارب في صفوفهم عند تاسيس تلك الدولة،وهو تاسيس اقتضى حربا وصراعا، كان اختبارا لمعدن الرجال وجوهرهم الانساني والاخلاقي، لذلك فانه عندما شرع في تأسيس الدولة الثانية، راى ان ضمان نجاحها واستمرارها، والعماد الاساسي لوجودها، لن يكون الا المحاربون النفوسيون، لانه لم يكن واثقا ان قيام الدولة سيمر دون مضايقات وتحرشات، الا ان طالعا حسنا رافق الدولة منذ نشوئها، وظهرت منذ البدء، دولة قوية اذهلت الخصوم، فلم يكن امامهم بد من القبول بالأمر الذي صار واقعا، وظل النفوسيون مع ذلك، هم الدرع الواقي للدولة، وهم سدها المنيع في وجه الاخطار، حتى وان توارت هذه المخاطر خلف الافق، واظهرت دول الجوار، بما فها تلك الدولة التي تستحكم على عداء تاريخي لا تستطيع ان فصح عنه، نوعا من القبول بالدولة الجديدة، والاعتراف بها على مضض
وصار للنفوسيين حي ازداد اتساعا مع الاعوام وتمدد في الاتجاهات الاربعة، واصبح له
حواشي واطراف واحواز ومستويات بين المتوسط والراقي والاقل رقيا، وبسبب اجتهادهم ودعم الدولة لهم وثقة الناس فيهم، اصابوا نجاحا في اعمالهم التجارية والصناعية والزرعاية، استيرادا وتصديرا، وبيعا وشراء، كما كانت العاصمة مقصدا لطلاب العلم من شباب تلك البلاد، خاصة ممن اكملوا تعليما عاليا في قنطرارة، وقصدوا العاصمة لاخذ الاجازات من كبار علمائها، ومن بين هؤلاء الفتيان، جاء فتى ذاع صيته بسرعة في الدوائر العلمية لالمعيته وخارق ذكائه، وصار رغم صغر سنه نجم منتديات العاصمة، اسمه نفات بن نصر القنطراري النفوسي، وكان قد صاحب الإمام عبد الوهاب قبل ان يتولى الإمامه، وتعلم منه ومن ابيه، وصار صنوا له في العلم، رغم فارق السن وصديقا حميما من اعضاء الدائرة الاولى التي تحيط به، والتي يثق بها ويستشيرها، قبل وبعد ان تولى الإمامة.
كان نفات في السابعة عشرة من عمره عندما اقتحم تاهرت، فتي شديد الاناقة والوسامة والذكاء، وكان قد حقق اعتراف المجتمع الادبي به، ومجتمع العلماء في جبل نفوسه، وفي قنطرارة بالذات، قبل مجيئه إلى العاصمة، وقد اوصله طموحه إلى ان ينفذ من الاطار المحلي الضيق المحدود، في بلدته، وان يرافق احد علماء الجبل في رحلته إلى تاهرت، فيقدمه إلى الإمام المؤسس، الذي عرف فيه علامات النجابة والالمعية، واستحسن ان يرافق ابنه عبد الوهاب فتى في ذكاء هذا الشاب النفوسي ونبوغه. وسرعان ما تم تكليفه من قبل الإمام عبد الوهاب، بعد استلامه الإمامه، مهمة الاشراف على ندوات المكتبة المركزية، فاضفى عليها حيوية واغناها بالحوار الخلاق، لانه كان متحررا من الافكار التقليدية، مملوءا بهاجس تحطيم القوالب الجامدة التي لم يتحرر منها المذهب الاباضي، وهي مسالة ستجلب له المتاعب في متأخر حياته، الا ان ما كان يهم الدولة في ذلك الوقت هو النجاح الذي جلبه للمناخ الفكري والعلمي في تاهرت، وفعل ذلك دون ان يخشى حساسية بعض الجوانب الدينية، التي يتهيب الناس من الاقتراب منها، لكنه يقتحمها هي ايضا محاولا ان يكون اقترابه في الاطار الموضوعي الذي لايخرج على السلوك المهذب الراقي، فلا يجد حرجا ان يدير حوارا، وياخذ هو طرف الجانب الغائب، حتى لو فاجا الناس بان يدافع اليوم عن شيء ويهاجمه في جلسة اخرى، لانه يفعل ذلك في اطار تنشيط الحوار، وتقديم الاطروحة المضادة، التي قد لا يكون صاحبها حاضرا، حتى تعود جمهور هذه الندوات والمناظرات على ذلك، وصاروا يستحسنونه بعد ان فاجاهم في البداية وربما استنكره بعضهم، وكان يفعل ذلك من اجل رفع سقوف حرية النقاش، والجدل، في هذه المنتديات الثقافية، التي يجب ان تقدم الريادة والقدوة لبقية فئات المجتمع، وان يجعل مكانا مثل المكتبة المعتصمة مركزا لحرية القول والتعبير، تباهي به تاهرت بقية حواضر الدنيا.
من دفتر الشاعر
استقطبت تاهرت اهل الابداع لما تتيحه لهم من اجواء الحرية، وما يقدرون عليه من تعبير عن افكارهم، وخلجات نفوسهم، ودقائق ما يخامر عقولهم من اراء، دون خوف من مصادرة او حبس او عقاب، كما يحدث لامثالهم في البلاد الاخرى، وبمثل ما هناك شعراء يلتزمون بالحدود الاخلاقية والدينية للمجتمع التاهرتي الاباضي، من علماء وقضاة وفقهاء يقرضون الشعر، فان هناك شعراء غيرهم، يعشقون التمرد، والخروج على المألوف، ينطبق عليهم الوصف القرآني لهم، الذي جاء في الآية الكريمة التي تقول "والشعراء يتبعهم الغاوون، الم تر انهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون مالا يفعلون"، واحد شعراء التمرد هؤلاء، شاعر يتشبت باتباع منهج حامل لواء الشعر العربي امرؤ القيس، في التشبب بالنساء وتسقط اخبارهن، وملاحقة الجميلات منهن، ويسعى وراء حلقات الندامى في حوانيت بيع الخمور، على طريقة سلفه طرفة بن العبد، وهو خير من يقدم الوجه العابث اللاهي، من وجوه تاهرت، اذ انه وجه لايمكن لاية حاضرة ذات مكانة متميزة في العالم ان تخلو منه، هوالشاعر ابو خراز التاهرتي، وهذه بضعة اوراق من دفتر هذا الشاعر:
ورقة اولى
لست تاهرتيا، لانه لا احد من اهلها ولد تاهرتيا، باعتبارها مدينة حديثة الانشاء، الا ان هناك دائما من ينتمي لقبائل تعيش في الاطراف التي حولها، من جبل وبادية، بينما انا ابن مدينة جئت إلى تاهرت من تلمسان، بعد ان ضاقت بي الحياةهناك، اثر خصومة مع الوالي الذي وصل إلى سدة الحكم فيها، كثير التزمت والانغلاق، لا هم له الا حمل سوطه وتطبيق الحدود، على كل محب لابنة الكروم، وقد وشى بي لديه شويعر يحقد على قوة موهبتي لانه لا يملك مثلها، واوصل اليه انني اعاقر الخمر في تلك الليلة في داري، فارسل لي الحاكم عونا من اعوان الشرطة، يخرجني مسحوبا من بيتي إلى مجلسه، ليجلدني بسوطه جلدا مؤلما موجعا، جعلني اقسم في تلك اللحظة انني لن ابيت ليلة ثانية في تلمسان، وكانت تاهرت مدينة حديثة الانشاء، ذاع صيتها في بلاد المغرب الاوسط والاقصى، باعتبارها مدينة تحنو على الغرباء، وتتيح لهم عيشا كريما، فاتجهت اليها، وكنت اخشى الا اجد جمهورا لشعري بين جمهورها الاباضي البربري، فوجدتها مدينة تكبر العربية وتستخدمها باعتبارها لغة القوم، بجوار اللغة الامازيغية، وتنتهج المذهب الاباضي باعتباره الطريق إلى تطبيق صحيح الدين، ورغم انني مالكي فلم اجد كبير فرق بين ممارسة الشعائر لدى الاثنين، حين امارسها، وتؤمن باصالة الجذور الامازيغية لاهلها وعمق انتمائهم للارض والجذور، دون تعصب، ولحاكمها الإمام اصول فارسية، جعلته يستخدم خبراء من اهل الفرس في الادارة وبعض الصناعات مثل السجاد، وله ولاء للايام التي قضاها في جبل نفوسه، مقيما بين اهل الجبل مع اسرته، خلال الاعوام التي سبقت تاسيس دولة الاباضية الاولى، فجلب اعوانا له من اهل ذلك الجبل، اسلمهم القضاء وديوان المحتسب مع مساهمة في تاسيس الجيش والشرطة.
ووجدت عند بلوغي عاصمة الرستميين، رزقا طيبا، وسكنا هانئا، ورفقة تسر الخاطر من اهل الادب والشعر. ومنذ يومي الاول في تاهرت وجدت دكانا من دكاكين الوراقين يطلب مني عملا في نسخ الكتب، وهو عمل اقوم به باتقان، ولا اجد فيه عنتا ولا مللا، واتقاضي عنه اجرا مجزيا، فاستقر بي المقام، وكتبت قصائد عن طيب العيش في تاهرت، وبهاء ربيعها، وجمال الطبيعة فيها، فوجدت من يطلق على لقب التاهرتي، وهو لقب لم يجد اعتراضا مني.
وطيب العيش يبدأ بالسكن والرزق، ولكنه لا يستقيم بعد ذلك الا بالحسان والكأس، فصرت بعد تامين المعاش والاقامة والغذاء، اتطلع لما يجعل الانسان يرقى في سلم المعيشة درجة تتعزز به انسانيته، ويقوى بها انتماؤه لجنس البشر، فهو امر لا يحدث الا بان ينبض القلب بغرام الحسان، وينتشي الراس باشعاعات بنت الحان، وصدق من قال ان انت قدمت لحمار اناء ماء واناء نبيذ، فماذا تراه سيشرب؟ سيشرب بالتاكيد الماء ويعاف النبيذ، لانه حمار.
المهم انه في العام التالي لبناء تاهرت، وكنت حديث الوصول اليها، توفر فيها عدد من اليهود والمسيحيين، رأوا ان يذهبوا إلى الإمام ابن رستم، ليأذن لهم في بناء حانة يتناولون فيها الخمر، كما اباح لهم دينهم الموسوي ودينهم اليسوعي، ويتخذونها مكانا للقاءاتهم، الا ان الإمام رفض فتح الحانة، لانه كما قال لهم سوف يؤمها اناس من غير اهل الديانتين المسيحية واليهودية، فهناك عصاة من اهل الاسلام، لا يريد تسهيل الاثم عليهم، ووضع الاغراء امام اعينهم. ولكن لكل يهودي وكل مسيحي يعيش في تاهرت، الحق في ان يصنع الخمر في بيته لاستهلاكه الخاص، دون بيع ولا تجارة، اومهاداة مع احد من المسلمين، يتوق إلى شربها، لانه عندئد يعرض نفسه للعقاب.
كنت امني نفسي بان تظهر هذه الحانة إلى النور، كما هو الحال في بلدان مشرقية اسلامية، خاصة وان من شروط كل حانة في الدنيا وجود الساقيات، والشعر قرين هذين الاثنين، الساقية ابنة الحان، وما تقدمه من ابنة الراح. لعلهم يسمونها رخصة الشعراء، نعم للشعراء رخصة في الاعراب والنحو، رخصة في تطويع القافية والروي، هذا صحيح، لكن هذه الرخصة لا قيمة لها ان لم تنسحب ايضا على بعض السلوكيات، وبعض العادات، وبعض تقاليد القوم، وبعض القوالب الجامدة التي لا يستقيم معها الشعر، فكيف يطلبون من الشاعر ان يكون مجددا، ويكون مبدعا، ويكون قادرا على اجتراح جميل المعاني وعذب التراكيب والعبارات، وهو مربوط بهذه الجلاميد التي قدت من حديد، يربطون بها قوادم احلامه، واجنحة خياله، فلا يقوى على التحليق، ولا على الانطلاق.
لا ارى ان مثل هذا الخطاب، يمكن ان يقنع شيخا صوفيا، عميق الصلة بالفقه والشريعة، مثل الإمام إبن رستم، فيعطي للشعراء استثناء من الخضوع لقوانين الدولة، لكن ساجد عند اليهودي ناحوم، تاجر الاثاث والتحف، فائضا مما يصنعه في بيته، يروى عطشي إلى رحيق بنت الكروم،حين احتاج اليها، لن احصل عليها منه شخصيا، لكن صداقة جمعتني بابنه سادول، هي التي ضمنت لي هذه الحصة من خمور بيتهم، لان سادول، محب لاقتناء المخطوطات التي تتحدث عن تاريخ اليونان، ربما لجذور اهله القادمين من تلك البلاد، فصارت مقايضة بيني وبينه، اقتني المخطوط الذي يريد، واستلم الثمن عددا محدودا من الكؤوس. ثم اسعدني الحظ بالعثور على خان في حي الصقالبة، الذين يتكون منهم اغلب نصارى تاهرت، في الخان كهف يتخذونه مقرا لحانة سرية، تعمل في تكتم شديد، وتعتمد في تزويدها بالخمور على الزوار الاجانب الذي يترددون على الخان، وقد عقد مع بعضهم اتفاقا بجلب الخمر له في موسم يحضرون فيه إلى عاصمة الرستميين، وصرت اتحين الفرصة لاهتدى لاحد يستطيع ان يقتحم بي الاسوار المنيعة لهذه الحانة.
الاكتشاف الكبير الذي تاكدت معه انه كل ممنوع هناك وسيلة لكسره، لا عن طريق مثل هذه الاماكن السرية داخل الكهوف والاقبية مثل حانة الخان الصقلبي، لكن في براح الطبيعة وفي الخلاء، حيث الهواء الطلق وحيث يمكن للانسان ان يستمتع بكسر هذه المحرمات وليس من فوقه اي سقف الا قبة السماء البهية الشاسعة ذات الصفاء نهارا المرصعة بلآليء النجوم ليلا، حدث ذلك عندما قادني صديق من محبي عزف الموسيقى إلى حي كامل تجري فيه الخمور ومعاشرة النساء، يمتد على مساحة شاسعة تزيد عن بضعة الاف من الامتار.
يحدث ذلك صيفا وعلى شاطيء النهر، فلتاهرت ثلاثة انهار، نهر كبير ياتي من الغرب يسمى فيناس، ونهر اخر يجيء من عيون تتجمع في عين المكان حيث يبدأ مصبه من هذه الجبال المحيطة بتاهرت نفسها ثم ينطلق خارجا يشق المدى فلا ينتهي الا في البحر شمالا، ثم نهر ثالث هو سيرات اقرب هذه الانهر إلى حافة المدينة، له شاطيء صخري، تتحول صخوره إلى اماكن لحجز المياه فتبدو كانها مجمع من البحيرات، واحواض السباحة، وحول هذه الدوائر المائية الكثيرة نشات دوائر من السرادقات والخيام باعتبارها منتجعا سياحيا. وإلى هذا المكان يخرج الناس صيفا يقيمون فيه حفلاتهم وسهراتهم الليلية، ولا تقتصر هذه الحفلات والسهرات على داخل هذه السرادقات إنما خارجها وحولها. وعرفت عن طريق صديقي عازف العود، الذي ساقته مهنته إلى هناك مشاركا في الترفيه على اهل هذا المنتزه، ان هذا المنتزه السياحي، مكان لبيع اللذة للاغنياء، وهذه هي مشكلته الاولى، كونه باهظ التكاليف، فالخمر موجودة بلا حساب ولا رقيب وبمختلف انواعها شرط توفر المال، والدخول إلى خيمة نساء المتعة ايضا موجود بلا حسيب ولا رقيب الا المال ايضا، والامور تتم تحت رقابة صاحب الشرطة نفسه، لانه كما علمت شريك في ريع المنتزه. واستطعت مع الصديق الذي صار يذهب هو ايضا كعميل وليس دائما كصاحب مهنة، ان احرق بعض مدخراتي شرابا واستمتاعا بالنساء، وسماعا للغناء والموسيقى وشطحا ورقصا، وسباحة لمن يريد السباحة، وجلسات تدليك لمن يريد التدليك. وهو منتزه يختفي في غير فصل الصيف، لان شتاء تاهرت بصقيعه المعروف، وثلوجه التي قد تهبط في اية لحظة، لم يكن ممكنا الابقاء عليه، الا انه يتحول إلى حي من الاحياء الراقية هو حي القصور، حيث المسألة تصبح اكثر تضييقا واكثر خصوصية، ولم يكن بمقدور شاعر مثلي ينسخ الكتب، ارتياده، فكان لابد ان اعود إلى استغلال صديقي اليهودي، وإلى النفاذ إلى حانة الخان الصقلبي اذا تيسر لي الامر.
اتعجب حقا لهؤلاء الشعراء الذين لا يشربون الخمر، كيف يواتيهم الشعر، وكيف ترضى قرائحهم بانتاجه، والانكى من ذلك ان تسمع شاعرا يتحدث عن نفوره منها، ويلعن شاربها ثم يقول انه شاعر، واقول صادقا، ليبحث الناس فيما يقوله هؤلاء الناس فلن يجدوا اطلاقا فيما يقولونه شعرا، وإنما حجارة وخشبا وزفتا وطينا، والشعر كما يعرف اهل الذوق، ومحبي الادب، لهب وجمر. قبس من اقباس السماء، لا ينطلق – من خلال معرفتي وتجربتي- الا بوقود واحد هو ابنة الراح.
العين
في منحدر الجبل الذي يحيط ببلدة قنطرارة، ثمة عيون ماء كثيرة، يتقاسم الناس استخدامها، فاكبرها واكثرها قربا من سفح الجبل، متروكة لاصحاب القوافل، ولاهل الاغنام والابل وغيرها من دواب، يردون عليها لضخامتها ولان لها قطرا واسعا اشبه ببحيرة، بحيث يمكن لعدد كبير من قطعان الابل والغنم وغير ذلك من بغال وحمير ان تقف على حافتها وتترك مساحات تفصل بين بعضها البعض، وتقوم بالشراب، او يقوم اصحابها بتعبئة ما يريدون من ماء، دون ان يضايق احدهم الاخر او يزحمه، وهناك عين ماء اقل حجما، لكن لها موقعا يقدم بعض الخصوصية بسبب احاطته بصخور الجبل، وبعض اشجار البطم، ولها اكثر من جدول ينبع منها، منحدرا بين الصخور، وهذه العين هي التي خصصت لنساء قنطراره يردن عليها، لانها تتيح لهن الاختلاء بانفسهن، تحميهن الصخور واشجار البطم، من اعين المتطفلين والمتلصصين والفضوليين، ويجدن في جداول الماء فرصة لان تستقل كل مجموعة منهن، بمكان تغسل فيه الثياب دون ان يختلط بماء الشرب، ومع تقادم الايام، اصبحت العين تلبي احتياجا اجتماعيا لنساء البلدة، فهي مكان للقاء، وهي المنتدى الذي تاتيه المراة ايضا للترفيه عن نفسها، حتى وان لم تكن بحاجة للورود على الماء، إنما للقاء صاحباتها وتبادل الاحاديث ومعرفة اخر ما يدور في البلدة من اخبار وشائعات، ورغم ان هناك ساعات ذروة هي تلك التي تأتي مع ساعة العصاري، فانه لا تكاد تخلو ساعة من ساعة النهار بدءا من اول النهار إلى اخر ضوء، من نساء يردن على هذه العين، المخصصة لهن، ولا حق لرجل يقترب منها، لاي سبب من الاسباب، يعبئن جرارهن ويعدن بها إلى بيوتهن، غير تلك التي جاءت بثياب اسرتها، لغسلها وتجفيفها على اغصان الاشجار وفوق الصخور، ثم تضعها في سلة عائدة بها إلى بيتها. كما كن يقمن اثناء تواجدهن عند العين، بايقاد النار لاعداد الشاي، واحيانا لطهي طعام يتناولنه عند انتظارهن ان تجف الملابس، فتتحول زيارة العين إلى نزهة وفسحة، وقبيل غروب الشمس، يباشرن صعودهن عائدات إلى بيوتهن في ملاحفهن الزرقاء والبيضاء والمزركشة. وحدث ذات مساء ان برزت بين النساء العائدات من العين، إمرأة فرعاء سامقة، نجلاء العينين، صافية البشرة، ناعمة الشعر، يحفل جسمها بالاستدارات الانثوية التي توقظ الفتنة وترسل في الهواء شرارات الاغراء والغواية في اجسام الرجال، ترتدي ملحفة مثل ملاحف نساء البلدة، الا انها تتقن كيف تجعلها تلتصق بدوائر جسمها، فيما يبدو عن سبق اصرار وترصد، وتترك، على عكس نساء البلدة، وجهها سافرا دون ان تسدل طرفا من اللحاف عليه، مع حرصها على ابقاء خصلات من شعرها تتدلى على حافتي الوجه، وتهفهف مع نسمات المساء، وتخلق حالة من اللعب والعبث، تضيف بها لمسة اثارة، إلى المشهد الحافل بعلامات الغواية والإغراء. وكان وجود هذه المراة بين بناتهم ونسائهم، موضع حيرة اهل البلدة وتساؤل بينهم، فهم يعرفون انه ليس ممكنا ان تجرؤ إمرأة من نساء قنطرارة على استعراض مفاتنها وانوثتها بمثل هذ الجرأة، وتسفر عن وجهها، جهارا نهارا، امام الرجال الموجودين في الشارع. مدركين ادراك الوثوق واليقين، انها ليست من نساء النصارى او اليهود، إنما ذات انتماء اسلامي مثلهم. ولم يكن صعبا ان يعرف الناس ان الفتاة جاءت مع عائلات الصناعيين الذين شاركوا في بناء المكتبة والمعهد الديني وما استوجباه من اعمال هندسية، وبين هؤلاء القائمين حتى الان بعملهم الهندسي رجل من طرابلس، مسلم الديانة، الا انه متزوج من إمرأة شركسية، تعود الناس على رؤيتها تمشي سافرة الوجه في البلدة، الا انه سفور لم يكن يثير انتباه احد، فهي تراعي الاحتشام في لباسها، تخرج في حرام يغطي الراس، وينسدل على الصدر والكتفين، فلا تبقى الا دائرة الوجه سافرة، وتمشي متمهلة بسبب ما في جسمها من ترهل وثقل، تجاوزت منتصف العمر، لا تبرج في مظهرها ولا اثارة في طريقة سيرها، بخلاف ابنتها، التي ظهرت بصورة لا تشابه امها، فهي صارخة في اثارتها، متبرجة في مظهرها، تتصنع لفت الانتباه وجلب انظار الرجال، مما كان موضع لغط وسخط العائلات التي تخاف على سمعة بناتها، وعرفوا، وهم يستغربون لعدم ظهورها قبل اليوم، انها كانت مشغولة بدراستها في طرابلس، ولم تلتحق باسرتها الا حديثا، ومضى الاباء يحذرون بناتهم من مخالطة هذه الفتاة المارقة، الا ان احدا لا يستطيع ان يمنعها من الذهاب إلى العين، كما لا يمكن لاحد ان يمنع الفتاة من جلب حاجة الاسرة من الماء إلى البيت، وهكذا عقد الرجال عزمهم اثناء لقاءاتهم في الجامع، على ضرورة مفاتحه والدها، بما اعتبروه سلوكا لا يليق ان يصدرعن ابنته، ويطالبونه بضرورة ارغامها على مراعاة اداب البلدة وتقاليدها، الا ان الاب لم يقبل بهذا التدخل في شئون اسرته، قائلا لهم بانه سيسمع كلامهم لو ان هناك شيئا خارجاعن الادب صدر عن ابنته، كأن تكون شتمت أحدا، او تفوهت بلغة قبيحة، او اساءت قولا او فعلا لاي احد من اهل البلدة، نساء او رجالا، او ارتدت ملابس تفضح شيئا من جسمها، اما عن اسلوبها في الملابس التي ترتديها، فهو اسلوب حياة سارت عليه نساء العائلة جيلا وراء جيل، ولم يقل احد انه لباس يخالف الاسلام، بل ان علماء اجلاء يرون سفور الوجه واجب اسلامي، وهو ما امر به الله، وما يتم تطبيقه في بلاد اكثر رسوخا في الاسلام مثل الشام والعراق، ويعرف كل من ذهب إلى الحج، كما قال لهم، ان السفور فرض على المراة المسلمة اثناء اداء مناسك الحج. واسقط في ايديهم، ولم يجدوا ما يفعلونه غير الانكفاء إلى بيوتهم عاجزين عن اقناعه بمنطقهم. ثم في يوم ثان، سمع الناس غناء وموسيقى وزغاريد ترتفع من بيت الرجل الطرابلسي وامرأته الشركسية، وعرفوا ان شابا من ابناء النازحين إلى البلدة، تقدم لخطبة الفتاة، وراوا اولادا وبناتا صغارا يحملون المشروبات السكرية، يوزعونها على الناس في الشوارع، وينتقلون بها إلى بيوت اهل البلدة ابتهاجا بحفل الخطوبة، فمد اغلب الناس ايديهم يحتسون كؤوس المشروب ويشاركون في الفرح، قائلين بين انفسهم، ان خطبة الفتاة تعني انها ستجد الان بيتا يلمها ورجلا يتحكم بها بدلا من بقائها تحت امرة اب لا يبالي.
وانتيه اهل البلدة بعد يومين او ثلاثة من حفل الخطوبة، إلى الخطيب وخطيبته يتجولان في شوارع البلدة وحدائقها، وهما يمسكان يدا في يد، ويذهبان في جولات إلى اطراف البلدة، حيث عيون الماء والاحراج والصخور لينفرد بها هناك، يستمتعان بخلوتهما، ثم يعودان وهما يتضاحكان، ويتلاهيان، عابثان، يلعبان لعبا خارجا عن اللياقة، غير عابئين بما يمكن ان يقوله الناس، وما تقضى به تقاليدهم، ولا يقيمان اعتبارا إلى ان ما يفعلانه يشكل تحديا لاخلاقيات وقيم قنطرارة، التي تمثل مركزا دينيا لكل حواضر جبل نفوسه، وذهب عدد من رجال البلدة إلى الوالي الشيخ وسيم ابي يونس الويغوي، يطلبون منه استصدار فتوى بطرد الرجل وابنته وخطيبها من البلدة، فهم وافدون عليها، وليسوا من اصلائها، وارتكبوا اثما بخروجهم على التقاليد والعادات التي ارتضاها اهلها، ووجب عليهم مغادرتها، والعودة من حيث اتوا، طالما لا يمتثلون لاخلاقيات اهلها. كان رد الشيخ وسيم، ان الامتثال لا يكون للعادات والتقاليد، وإنما يكون لما امر به الاسلام وتجنب ما نهى عنه، وهو هنا يجد صعوبة في اصدار مثل هذه الفتوى، لانه سبق ان سافر إلى عاصمة الدولة وراى فيها الوانا من البشر، مسلمون وغير مسلمين، يتطبعون بطباع اقوامهم التي تخالف طباع اباضية تاهرت وعاداتهم وتقاليده، ومع ذلك فان الإمام المؤسس نفسه لم يصدر بشأنهم مثل هذه الفتوى، ولو كان الحديث يخص شانا من شئون قنطرارة، وليست حالة تتماثل وتتشابه مع حالات موجودة في العاصمة وفي حواضر اخرى من الدولة، لكان اصدر مثل هذه الفتوى، لكن هذه البلدة جزء من كيان اكبر، ويسرى عليها وعلى اهلها ما يسرى عليه، وكل ما يستطيع فعله في هذه الحالة، ونزولا على ارادة اهل البلدة، هو ان يكتب إلى الإمام عبد الوهاب، يسأله الرأي والمشورة، لعله يرى رايا يوافق ما يطالبون به.
يتبع
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.