مارس 19, 2014 عدد المشاهدات 11 عدد التعليقات 0 د.ريم عبدالغني منذ أعوام .. بتُّ أتمنى أن يسقط يوم 21 اذار سهواً من أجندة الزمن... كي لا يحرك المواجع... فعيد الأم في سورية اليوم.. طوفان حزن آلاف الأمهات الثكالى، أنين المفجوعين بامهاتهم .. شلال دموع الأسر المبتورة... وحسرة ملايين المشردين على فقدان الوطن الأم... ****** طالما أحببت أمي... لكن بعد أن منحتُ والحمدلله نعمة الأمومة صرت أقدسها... قدرت تعبها وأدركت أي معجزة حب وحنان وتسامح لامتناهي تبثها الأمومة في القلوب.. الأمهات لا ينتظرن-ولا يوجد- مقابل لما يقدمن أو عيد... لذا أعترض على تخصيص يوم للاحتفال بمن وجودهن عيد نحتفل به مع كل نفس نستنشقه... أدام الله لكم ولي أمهاتنا... وأعترض على هذا العيد أيضاً... لأني أخشى أن ينكأ جروح اللواتي لم يقدر لهن الله أن يرزقن بأطفال... وخاصة من كن منهن أمهات فعليات.. ربين وتعبن وسهرن وأنشأن... كالخالة إيلين رحمها الله.. والخالة إيلين هو اسم السيدة الأرمنية التي اعتادت أن تساعد أمي الطيبة في العناية بأطفالها الخمسة وكنت رابعهم.. كانت تسكن قبالتنا في بيت عربي صغير، فسحة سماوية ومطبخ وحمام عربي قديم، غرفتان متواضعتان تحشرنا في إحداهما في أيام البرد حول منقل عامر بالفحم المشتعل.. ما زال لهبه البرتقالي المسود يتراقص أمام عيني.. وفي وسطه الإبريق الفضي القديم يئن بغليان الماء... غريب كيف يختار العقل تفاصيل دون غيرها من ملفات ملايين صوره... كأني أرى الآن أمامي الجدار الكبير في صدر الغرفة، ربما أذكره كبيراً لاني رأيته طويلاً بعيني طفل، وربما كان السقف العالي للبيت القديم هو ما خلف لدي الإحساس بالاتساع الهائل للغرفة المتواضعة. الجدار كان عالماً مغرياً من الأشكال والطلاسم بالنسبة لنا، نتحين الفرصة لنتسلق الاريكة الطويلة قربه، نتلمس الأشياء الغامضة الصغيرة التي علقتها الخالة ايلين فوقه... جمعت فيها فتات وطنها وأسرتها... شجرتها التي اجتثت من جذورها.. إذ لم يكن لها أحد ... مات أخوتها وأخواتها وأقرباؤها خلال رحلة العذاب فراراً من أرمينيا الى سورية، خلال المذبحة الأرمنية التي اقترفها العثمانيون إبان الحرب العالمية الأولى، مجازر وعمليات اغتصاب وترحيل قسري في ظل ظروف قاسية، إبادة شاملة تجاوز عدد ضحاياها المليون -كما يُقال- وتشرد من نجى منهم في أنحاء الأرض... على شرفة بيتنا كنا نتحلق حول كرسيها.. تروي لنا كيف تماسكت أيادي مئات الشباب والشابات من الأرمن ليرموا بأنفسهم في نهر الفرات... مفضلين الموت على العذاب والذل الذي سامهم إياه العثمانيون... بعدها.. وصلت إيلين مع والديها الى اللاذقية... وتوفيا إثر بعضهما من الحزن... لتبقى وحيدة تماماً.... وإن كانت في أحيان قليلة تشرق بذكر ابنة أخت لها في مكان ما من العالم... انتظرتها دائماً... لكن ابنة سونيا لم تأت أبداً.. ****** بطبيعة أهالي اللاذقية الطيبين... وما فطروا عليه من تسامح ومحبة .. صار الحي كله أهل الأرمنية اليتيمة... لا سيما وشخصيتها القوية... تتجسد أمامي الآن ببنيتها القصيرة أو ربما التي حنتها رياح الأيام... تقف على عتبة دارها حيث كانت تجلسنا على درجاتها... تنادي كل من في الحي باسمه بأعلى صوتها... كأنها ملكة تطل من فوق عرشها.. "حنا.. لماذا تأخرت بالحليب... ألا يكفي أنك تغشه؟"... كانت تمازحهم وربما تقسو أحياناً... لكن من يغضب من ايلين الطيبة؟... فهي نقية ومحبة... غيورة على كل من في الحي... قالوا إنها ضربت، ذات مرة، بمكنستها رجلاُ كان يحوم تحت نافذة جارتها المتزوجة في غياب زوجها... كانت مجموعة رجال ونساء من الزمن النظيف.. وكنا نشد قاماتنا بقوة حين تقف وراءنا.. حتى العم جورج سائق باص المدرسة العصبي.. يتحول الى قط صبور.. ينتظر بصمت وهي تجبرنا أمام باب الباص على شرب الحليب... مدركاً أنه لو تذمر... ستوقظ الخالة المدينة كلها.. *** الحق أنه كان لها الكثير من الفضل علينا وعلى مئات الاطفال بعدنا... فبعد انتقالنا الى حي آخر... اتخذت من رعاية الأطفال مهنة تعتاش منها، تقضي معظم وقتها جالسة أمام باب بيتها... تمد أمامها ساقين أتعبهما الزمن والوزن المتزايد... وتهز بيدها أسرة الأطفال ليناموا ريثما يعود ذويهم... لكن تواصلنا لم ينقطع... كانت معنا في كل حزن أو فرح.... كبرياؤها منعها أن تقبل بترك بيتها والحي الذي احتضنها... كان يحلو لها كلما رأت أحدنا أن تعاتبه على الغياب.. وكلما مررت في السيارة أمام بابها.. كانت تصرخ بصوت عال مداعبة ومؤنبة... أرفع لها يدي بالتحية لكنها تأمرني بالتوقف.. فأترجل لأنال عقابي... سلسلة من الشتائم.. والقبل.. يحز في نفسي أن أعترف أننا ربما قصرنا فعلاً... الدراسة والمشاغل أخذتنا للأسف... كلنا أحببناها بلا شك.. لكن من كان يستطيع زيارتها يومياً؟.. أنا مثلا انتقلت للعيش في دمشق.. أخي سافر خارج البلاد للدراسة.. من بقي منا كان غارقاً في انشغالات الحياة ... فقط أختي رنا واظبت على تفقدها... فخالتي ايلين كانت تحبها بشكل خاص... بل تقسم بعينيها الخضراوين.. حتى أنها تشاجرت مع أبي ذات يوم وبخ فيه رنا على شيء ما اقترفته... أجل... كانت "ملكية اكثر من الملكيين" ... تتولى الهجوم عليه حينما تتردد أمي في معاتبته... الغريب أنه كان يجيبها دائماً إلى ما تريد وهو يبتسم... كان يحترمها كثيراً ويناديها "بارونة".. نسبة الى ما توحي به شخصيتها الشامخة وتصرفاتها من مقام ارستقراطي نبيل... حتى عرفها الكثيرون بهذا الاسم... رحم الله كليهما ... ********* حينما غزا الجشع والعمران التجاري اللاذقية.. التهم الكثير من البيوت القديمة... وردم بحاراً من الذكريات.. لم يبق في ذلك الشارع إلا بيت البارونة ضئيلاً يختنق بين العمارات الحديثة... وكان العمر قد أضعف نشاطها ومقاومتها... لذا رضخت أخيراً أن تبيع بيتها لمقاول.. هدّه وغرس مكانه عمارة بلهاء.. ورغم أنها اشترت بثمنه شقة صغيرة في الدور الأول من بناء مقبول ... بل وبقي معها ما تعيش به من المال، لكنها عملياً ماتت من يومها... من يوم لم يعد لها باب تجلس امامه... لتسامر عبر الشارع الجيران في نوافذهم واحداً تلو الآخر... تستوقف هذا وذاك.. تتابع أخبار الأولاد والأحفاد.. وتدعو المارة لشرب القهوة معها.. يبدو أنها كانت تستمد من محبتهم نسغ الحياة... ************ طالما تساءلت اذا كان الحزن قد سمح لقلبها يوماً أن تحب أي رجل.. الأكيد.. أنها لم تتزوج ولم تنجب.. لكنها كانت أماً بامتياز، لنا ولكثيرين ممن هم الآن أرباب أسر وأعمال وحملة شهادات عالية.. تخرجوا جميعاً من حضن الخالة إيلين ... تمددوا فوق الحجارة الرمادية المصقولة في أرض دارها...... واكتشفوا من خلال فضاء فسحتها.. لون السماء... وبعد.... هل أكثر من ذلك أمومة؟... إذا كان لا بد من 21 آذار... أقول: كل عام وعشتار... كل أنثى معطاء... بخير.. عدن اوبزيرفر