الانتفاضة المصرية الثانية تهدد بقلب الطاولة الإقليمية ايضامن البدهي أن ثوراتنا الداخلية ليست معزولة عما يجري من حولنا من صراع تنافسي كبير يدور بين الايرانيين والأتراك كقطبين إقليميين كبيرين يتنازعان النفوذ على الإقليم وبخاصة على القسم العربي الأضعف في هذه المعادلة. وأن هذا الصراع الإقليمي ليس معزولا عن الصراع الدولي الذي اشتد مؤخرا بعد ظهور علامات التعب على الامبراطورية الامريكية وحلفائها نتيجة أزمات إقتصادية بنيوية على الأغلب وبعد بروز الصين والدول الصاعدة الى الواجهة الدولية. وليس من شك في أن الاصطفاف الحقيقي لجميع القوى يتحدد على قاعدة هاذين الصراعين الأساسيين أكثر مما يتحدد بناء على أسس داخلية بحتة على أهميتها طبعا. ولعل تصاعد الكباش على النفوذ بين قوتين اإسلاميتين'، سنية وشيعية، تركية وإيرانية، هو ما يفسر تفاقم الاستقطاب الطائفي الذي تعيشه المنطقة على الصعيد الداخلي منذ فترة غير قصيرة. ومن مفارقات هذا الصراع وغرائبه قيام عدد من القوى السياسية العربية السنية بالتخلي عن مواقفها التاريخية والتحول الى تبني مواقف اعدائها التاريخيين لأسباب محض طائفية. ونظرا لغياب قطب عربي مستقل كبير إنجذبت القوى السياسية العربية إجمالا الى هذا الطرف الإقليمي ام ذاك طائفيا وتمحورت بالتالي آليا حول اصطفافاته الدولية. وصار للحرية طعم لا يشبه طعمه في بلد ذي لون طائفي مغاير. غياب مصر التي تلعب عادة دورا محوريا وقطبا جاذبا في العالم العربي عزز ولا شك هذا الصراع ولم يلبث أن غذاه بعد وصول الإخوان الى السلطة وانحيازهم الى المحور الامريكي-التركي وقبولهم بلعب دور ثانوي وتابع في هذه المعادلة الأقليمية. غير أن دور هذا الانحياز المصري في إذكاء الصراع الداخلي لم يكن بسيطا ولو لم تكن عوامله مباشرة وواضحة. فالقبول بالدخول في هذا المحور كان مشروطا بالإستمرار في التبعية لشروط صندوق النقد الدولي والحفاظ على السياسة السابقة في جميع المجالات. الأمر الذي قاد الإخوان إلى الإبقاء على كل عوامل الإنفجار الداخلية جاهزة للإشتعال. صحيح أن الإنتفاضة عادت فاشتعلت شكلا بناء على مشاكل دستورية لكن لا شيء يقول بأنها لا تستند الى مجمل المشاكل الداخلية الإقتصادية والإجتماعية والوطنية التي من المستحيل إيجاد حلول لها بدون تغيير السياسات السابقة التي تبناها الإخوان مرغمين مع رزمة الانحياز التركي-الامريكي. وما مجموعة الضرائب والرسوم الجديدة التي أعلنتها الحكومة المصرية في عز الازمة الدستورية الا مؤشر على المأزق الذي يجسده هذا الخيار. عودة الشباب المصري الى الساحات اليوم قد لا تعني فقط إعتراضا على مواد في الدستور ولا تعني إعتراضا على محاولة الإخوان الإستفراد بالسلطة وحسب، بل تعني ربما أن الإخوان العاجزين عن تغيير السياسات بسبب من تموضعهم الإقليمي والدولي لا يستطيعون إحترام تعهداتهم السابقة وبالتالي لا يمكنهم الحكم وفق قواعد الديمقراطية. الإنحياز الإخواني للمحور الغربي خدم الغرب من جهة بدون شك لكنه وضع مصر على فوهة بركان يهدد بالإطاحة بجميع التفاهمات والمحاور الإقليمية الراهنة. ناهيك عن أن هذه الخدمة قد تكون ملغومة ومداها قصير جدا. فإنتفاضة الغضب الجديدة في مصر، وأيا تكن التسوية التي قد تلقاها مرحليا، تطرح بالواقع تحديات جدية على جميع الأطراف دون استثناء. انها تهدد، وبأسرع مما نتصور ربما، بقلب طاولة التوازنات كلها، فهي تتجاوز بالأسئلة التي تثيرها رغما عنها الوضع الداخلي المصري. فهي إذا ما استمرت وتجذرت في طروحاتها وشعاراتها، وهو المتوقع قياسا الى حجم التحديات، فسوف تضطر الجميع الى إعادة النظر بالتموضع السياسي والإقتصادي لمصرفتحرج الامريكي لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهه، كما ستحرج حلفاء الإخوان في المنطقة الذين سيفقدون حليفا قويا في البلد العربي الأقوى، كما ستحرج التركي الذي يفقد موقعا استراتيجيا مهما في المنطقة، وستحرج الدول الخليجية التي سيصير من الصعب عليها تأليب العرب طائفيا على دولة سنية بقياس مصر مما سيحرمها من توحيد القوى وراء الامريكي بشعارات طائفية بحتة. ولن تقف حدود تأثير الإنقلاب المصري،على ما أظن، على المحور الامريكي بل سوف تتعداه الى القطب الإقليمي الإيراني لجهة بروز منافس عربي كبير قادر على بلورة مشروع عربي شامل من ضمن محور الدول الصاعدة ذاتها حلفاء إيران الدوليين.ناهيك طبعا عن تأثير ذلك الانقلاب على الكيان الصهيوني. من هنا ارتباك الجميع إزاء عودة اشتعال البركان المصري. فتراكم المشكلات وترابطها وعمقها لم يعد يسمح لأي طرف مهما بلغت درجة قوته وتمثيليته الشعبية بالإكتفاء بالمعالجات الشكلية والسطحية أو بإلهاء الناس بأمور الدستور ونوع النخب وهوية الحاكم الدينية. إن ما بدأت تشي به ثورة الغضب الثانية في مصر يتعدى حتما مسائل الدستور والنزعات الاحتكارية للسلطة من قبل الإخوان. انها على الأغلب ابعد من ذلك بكثير وأعمق. ثورة الغضب الآن تعبير عن إستياء الناس من توجه عام يتهرب من التغيير الذي وعد الناس به أنفسهم. فلا الوعود بالجنة ولا الوعود بالديمقراطية تفي بحاجة الناس الى رؤية قطار التغيير ينطلق بوجهة أخرى. وأما الإصرار على البقاء في التموضع القديم ذاته والذي بان فشله للعيان والإكتفاء بتغيير الوجوه فلن يؤدي إلا إلى المزيد من عزلة الإخوان وتوسع قاعدة الانتفاضة الشعبية. التغيير في مصر لم يعد مطلبا نخبويا بل مطلبا شعبيا حياتيا ضاغطا. والتغيير لكي ينجح يحتاج إلى إنهاء التموضع الإقليمي والدولي القديم لمصر مما سيعيد قلب الأوراق الإقليمية والدولية بأسرها. ثورة مصر المستمرة، بإصرارها على استكمال مهمات التغيير في مصر، سوف تقود آليا القوى السياسية العربية جمعاء الى إعادة فرز كبيرة على قاعدة تلبية التحديات الحياتية الفعلية للناس بدل الالتهاء بصراعات الهوية.