فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بؤس الوعي التلفيقي (2-2)
نشر في الجنوب ميديا يوم 30 - 03 - 2014

في مقاله "مقاربة لذهنية الأُحجيات اللابسة مسوح الوطنية"، المنشور الأربعاء الماضي في "الشارع"، ينفي صلاح الدين الدكاك وجود أي "تغول حوثي مسلح" في مناطق شمال الشمال، ويعتبره "تغولاً متوهماً". التوسع الحوثي واضح للجميع، لا تنفيه حتى جماعة الحوثي نفسها؛ إلا أن "صلاح" لا يهتم بالواقع، ولديه الجرأة لنفي ما لا يُمكن نفيه، وقول ما تخجل الجماعة عن قوله.
المضحك أنه قال إن هذه "الخشية" من "التغول" المسلح للحوثي "تآزرت (...) مع ولولات النائحين على أنقاض "إمبراطورية بني الأحمر"..."! قطاع عريض من اليمنيين عبروا عن تلك "الخشية" على شكل "مخاوف" من توسع السيطرة المليشوية للحوثي، ولا يفعل "صلاح" هنا غير إرهابهم، إذ يضعهم في خانة واحدة مع الجناح القبلي، الذي عانت اليمن منه لعقود. بهذا المعنى، يصبح أصحاب هذه "المخاوف" مجرد أشخاص ملوثين بنهب البلاد، ينطلقون في موقفهم هذا من مبررات شخصية بحتة يخشون فيها على مصالحهم "الطبقية" والاقتصادية، وليس على الوحدة الوطنية التي تتعرض لعملية تجريف واسعة لصالح تحشيد طائفي يجري بالتوازي مع ضرب ما تبقى من "الدولة الهشة". بهذا يتم نفي الدوافع الوطنية لتلك "المخاوف" التي أقعدها "صلاح" على مقعد واحد مع "ولولات النائحين على أنقاض "إمبراطورية بني الأحمر"..."! كالعادة، لا يشير الرجل إلى المنطلقات والحيثيات التي جعلته يتوصل إلى هذا "الحكم البات"، وهذه المزاوجة التلفيقية؛ لأنه غير معني بوضع سياق منطقي لما يكتب، بل بمنح غطاء لمليشيات الحوثي، حتى وإن كان ذلك يعتمد على تسطيح ركيك للقضايا والنقاشات.
ضمن الهذيان غير الواعي، قال "صلاح" إن "الخشية [من تغول سلاح الحوثي] كما الولولات كانت تفصح في الخلاصة عن مخاوف طبقية قوامها جملة الوشائج الاقتصادية والسياسية المؤلفة ل "ترويكا سلطة الظل" المهيمنة على السوق وكراسي الحكم بعقيدتها (المضمرة)...". ما علاقة "المخاوف الطبقية" ب "الخشية" القائمة إزاء تغول سلاح الحوثي؟! وما علاقة أصحاب هذه "المخاوف" ب "ترويكا سلطة الظل"؟! هنا يفصح الرجل عن جهالة فجة في فهم معنى ودلالات الصراع الطبقي كما ورد في الأدبيات الماركسية حول المادية التاريخية، أو التناولات التي ناقشته على هامش تلك الأدبيات.
"المخاوف" من تعاظم سيطرة ونفوذ مليشيات الحوثي هي عامة قائمة لدى قطاع واسع من اليمنيين لا يُمكن التعامل معهم ككتلة طبقية، أو حتى ككتلة سياسية. لهذا، فتأطير أصحاب هذه "المخاوف" ضمن طبقة معينة هو تلفيق غير واعٍ للأحداث ولشروط التوصيفات المفترضة لها
في توضيح مباشر ومجتزأ، يُمكنني القول بأن المادية التاريخية تقوم على فكرة أن "التاريخ عبارة عن صراع بين الطبقات". مع التطور أخذ المجتمع، في عصر الرأسمالية، "بالانقسام، أكثر فأكثر، إلى طبقتين كبيرتين، العداء بينهما مباشر: البرجوازية، والبروليتاريا". في الحالة اليمنية، لا يُمكن تقسيم المجتمع بشكل طبقي واضح على هذا النحو، أو بخلافه. لا يوجد لدينا طبقات اجتماعية محددة كي يُمكن الحديث عن صراع طبقي. نحن مجتمع ريفي، التمايزات الطبقية فيه غير واضحة، ولا تعمل كحالات استقطاب. التمايزات الاجتماعية لدينا بسيطة، والناس لم يصلوا إلى تنظيم أنفسهم داخل أُطر طبقية محددة يُمكن أن تلعب دوراً في الصراع. حتى البرجوازية لدينا هي برجوازية طفيلية تتجلى، شأن ديكتاتوريات الاستبداد، كحالات مسوخ بالغة التشوه. لا يوجد لدينا أساس للحديث عن صراع طبقي بالمعنى الذي يريده "صلاح"؛ إلا إذا اعتبرنا أن عبدالملك الحوثي هو ماوتسي تونج وهو يقود جماهير فلاحي الصين، أو فيديل كاسترو هابطا من "سيرا مايسترا" صوب هافانا مهددا احتكارات الرأسمالية للأمريكان في عاصمة كوبا. لهذا فما أورده "صلاح" لا يعدو كونه حالة ذهانية متذاكية تكشف حالة صرع في الوعي.
الصراع الحاصل اليوم بين الحوثي ومراكز القوى التقليدية لا يأخذ معنىً طبقياً مباشراً؛ لأنه يستمد قوته من النزعات الطائفية، ودوافع سياسية غير معلن عنها.
لا يُمكن، بأي حال من الأحوال، تصنيف أصحاب "المخاوف" من توسع سيطرة سلاح مليشيا الحوثي ضمن تصنيف طبقي بحت. ولئن كان من غير المنطقي التعامل مع تلك "المخاوف" ك "مخاوف طبقية"؛ فمن العبط القول بأنها "تُفصح عن جملة الوشائج الاقتصادية والسياسية المؤلفة ل "ترويكا سلطة الظل" المهيمنة على السوق وكراسي الحكم". وكما أشرت في السابق، ف "صلاح" يريد هنا إرهاب أصحاب تلك "المخاوف"، ومصادرة حقهم في التعبير عن آرائهم ومواقفهم تجاه قضية بهذا الحجم. هو يُصادر حقهم في التعبير عن مخاوفهم مستخدماً لغة أصولية نفى، عبرها، وطنيتهم؛ إذ اختلق لهم دوافع أخرى دمجهم فيها ضمن مراكز القوى التي نهبت البلاد طوال العقود الخمسة الماضية! إنها ذهنية تتغذى من شيطنة الآخر عبر لهاث الصراخ الغث.
في ذروة هذا الهذر، استحضر الرجل "ترويكا سلطة الظل المهيمنة على السوق وكراسي الحكم" ليقول إن منتقدي سلاح الحوثي، والقلقين من توسعه، يفصحون عن "سلطة الظل هذه"! وإلى هذا التلفيق، يبدو الرجل غير مدرك لمعنى كلمة "ترويكا" لهذا استخدمها هنا، وفي موقع آخر في مقاله هذا، في غير موضعها.
نعرف جميعاً أن "الترويكا" تسمية قديمة ل "عربة روسية خفيفة تجرها ثلاثة جياد". وعند استخدام هذا المصطلح في الجانب السياسي يجب أن يشير إلى ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة مراكز قوى، تتحكم بسلطة، أو حكومة، أو خلاف ذلك. بيد أن "صلاح" يستحضر "الترويكا" دونما معنى أو مدلول. لقد أعطاها دلالة مطاطية واسعة عندما استحضرها ك "سلطة ظل مهيمنة على السوق وكراسي الحكم"، مع أنه كان يُمكنه الإفلات إذا ما قصرها على جانب الحكم فقط.
يصعب تحديد ثلاثة مراكز قوى تُسيطر، بشكل مشترك، على السوق والحكم، في اليمن. في الوضع اليمني الراهن، لم يعد بالإمكان الإشارة إلى مراكز القوى القبلية والدينية والعسكرية التقليدية باعتبارها مازالت أدوات احتكارية للنفوذ والحكم. أما السيطرة على السوق فهذا أمر آخر لا أريد التوسع في الحديث عنه هنا.
...
تتصاعد قوة جماعة الحوثي اليوم على حساب مركز القوى القبلية التقليدية، ومجال نفوذها الجغرافي في شمال الشمال. يتم هذا بالتوازي مع ضعضعة مركزي النفوذ العسكري والديني التقليديين، لصالح صعود تعبيرات قبلية ودينية وعسكرية أخرى. يُمكن ملامسة حالة الإضعاف الواضحة التي تعرضت وتتعرض لها قوى النفوذ التقليدية، ما جعلها تفقد سلطتها المباشرة كما كانت أيام الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي مثل، مع علي عبد الله صالح وعلي محسن الأحمر، "ترويكا" واضحة للسلطة والنفوذ. الآن هناك أطراف ولاعبون جُدد، بينهم جماعة الحوثي، والرئيس عبد ربه منصور هادي.
في بداية الحرب بين الحوثيين و"أولاد الشيخ الأحمر"، في قبيلة حاشد، كتبت مقالاً اعتبرت فيه توغل جماعة الحوثي في المعقل القبلي للحكم بمثابة استكمال مشوه لثورة فبراير 2011، بعد تعرضها للاختطاف من قبل مراكز القوى.
مراكز القوى التقليدية كانت تظن أنها، بسيطرتها على الثورة، تخلصت من علي عبد الله صالح وتركته يغرق بمفرده مع أسرته. تضمن ذلك التقدير جانباً من الصحة؛ إلا أنه جرى إغفال التبعات المترتبة عليه. عندما أعلنت مراكز القوى هذه تأييدها لثورة الشباب لم تكن تُشارك في القضاء على "صالح" فحسب، بل كانت تُشارك في القضاء على نفسها أيضاً. مثلما كان "صالح" يستمد قوته من مراكز القوى هذه، كانت هي تستمد قوتها منه؛ لهذا كان من الضروري أن يؤدي انهياره إلى انهيارها. يُلخص الزميل علوي السقاف الفكرة بالقول إن "العلاقة كانت تكاملية بين الجانبين". والحاصل أن "أولاد الأحمر" وجدوا أنفسهم يواجهون جماعة الحوثي دون حالة الحماية والغطاء الرسمية التي اعتادوا العيش في ظلها. رفض الرئيس هادي الزج بالجيش لمواجهة الحوثيين في "حاشد"، فيما كان "صالح" لن يُكلف "أولاد الأحمر" مشقة طلب ذلك، لأنه كان يربط حضوره في الحكم ببقاء "حاشد" ضمن سلطته. ويبدو اليوم أن استفراد الحوثيين ب "أولاد الأحمر" سيُكرر نفسه مع اللواء علي محسن الأحمر، الذي يمضي نحو معركة مصيرية مع خصومه الأشد وهو معزولاً من "الدولة" التي كانت تُشكل مظلة حماية كاملة له.
لم يتردد "صلاح" في محاولة النيل من ثورة 26 سبتمبر 1962؛ إذ قال إنها "بائدة"، والنيل من العلم جمهوري، الذي حاول تحميله أخطاء وجرائم نظام الحكم! وسبق أن قلت إن العلم الوطني هو جزء من الهوية الوطنية، وتعبير عنها، إلا أنه لم يحدث أن جرى تحميله مسؤوليات تجاوزات وجرائم أنظمة الاستبداد والقمع. والمثير للعجب قيام "صلاح" بهجاء العلم الوطني عبر القول إنه "زنا ويزني باسمه كل المرابين والمسوخ والنخاسين، وخفق مرفرفاً على أبشع الحروب وأكثرها عهراً وقذارة...".
العلم قطعة قماش ذات دلالة رمزية تُشكل جزءاً من الهوية الوطنية؛ لهذا لا تصدر إدانته إلا من قبل جاهل، أو من قبل ناكر له وللدولة التي يُمثلها. من حق الحوثي أن يكون له موقف عدائي من العلم الوطني، ومن النظام الجمهوري، وثورة سبتمبر؛ لكن عليه أن يعلن موقفه هذا للناس؛ لأن عدم إعلان هذا الموقف لا يعني إلا أنه يسعى لتحقيق مطامح غير وطنية عبر استغفال اليمنيين واستنهاض طائفية مريضة.
ضمن سياق قائم على الإنشاء ورص الكلمات، قال إن من يبدي "مخاوف" من توسع سيطرة سلاح الحوثي هو "مكبل بوشائج طبقية إقطاعية ينزلق معها -بالقصور الذاتي- في متاهة التأويلات الغيبية والأحجيات، متخبطاً بين "سقيفة بني ساعدة" و"العلم الجمهوري"، في محاولة لمواربة رجعية الخطاب الذي يتكئ عليه في مقارباته للمشهد، عبر مناورة تاريخية تفلتر النسيج المعقد للتاريخ بما يخدم موقعها في اللحظة الراهنة من الصراع".
في كل مقالاتي، حاولت مقاربة جماعة الحوثي اعتماداً على منطق سياسي تحليلي. تحدثت عن مخاطر إحياء هذه الجماعة للنزعة الطائفية، ومحاولتها إعادة تعريف الجغرافيا الزيدية ضمن هويتها المذهبية بعيداً عن الهوية الوطنية العامة. مع ذلك، قال "صلاح" إن منتقدي جماعة الحوثي "ينزلقون" في "متاهة التأويلات الغيبية والأحجيات". هو لا يقول ما هي "التأويلات الغيبية والأحجيات" التي انزلقنا فيها، ويبدو لي أنه أورد هذه الكلمات دون سياق أو معنى؛ بسبب تورطه في ذهان الإنشاء ورص الكلمات.
"صلاح" يُدافع عن جماعة دينية تقول بحق "الولاية"، وتُمجد الماضي وتستمد قوتها منه. مع ذلك يتهم منتقديها ب "الانزلاق" في "التأويلات الغيبية والأحجيات"، وبالغرق في "سديم الميتافيزيقيا"! هذا أمر مضحك يُكشف ذهنية التلفيق والزيف لدى الرجل.
تعتمد جماعة الحوثي على "ملء الفراغ الاجتماعي"، والسيطرة عليه، جراء غياب "الدولة" وحالة الاحتقان والغبن من مراكز النفوذ السابقة. وهي إذ تفعل ذلك، تذهب أبعد من استنهاض الطائفية، فتستنهض الصراع القديم بين "علي" و"معاوية". لا غرابة، والأمر كذلك، أن يقول أحد قيادات الحوثي، في خطبة له، الأيام الماضية، داخل أحد مخيمات اعتصام جماعته، على مداخل مدينة عمران، إن خصومهم المتمترسين في المدينة (العميد حميد القشيبي وجنوده وحلفاءه السياسيين والقبليين) هم من قتلوا علي بن أبي طالب، وابنه الحسين! بهذا يجري تحويل الصراع السياسي الحالي إلى صراع ديني ذي بعد تاريخي قائم على كربلائيات عدة تعرض لها "علي" وأولاده وأحفاده. خطاب كهذا يُظهر الحوثي في مقام "علي" و"الحسين"، فيما يظهر خصومه في مقام "معاوية" و"يزيد". هكذا، يتم استدعاء التاريخ الميت، وتحويله إلى أداة حاسمة لحشد الناس وإعادة فرزهم.
كرس حسين الحوثي نفسه على حديث "غدير خم" النبوي عن "الولاية"، لهذا كان يُبدي، في ملازمه، غضباً من تخلي جمهوره الطائفي عن كتاب الله و"آل البيت". أخوه عبد الملك، واصل بناء جماعته اعتماداً على حقه في "الولاية". يتعامى "صلاح" عن كل هذه الغيبيات النصية، ويزيد عليها تعامياً باتهامي ب "إهدار الواقع لحساب النص"! لعل هذا الخلل الإدراكي قائم لدى الرجل جراء عجزه عن التفريق بين مفهومي "النص" و"الواقع". وإن لم يكن كذلك لما كان تجرأ على اتهام كاتب يرى أنه حداثي وليبرالي ب "إهدار الواقع لحساب النص"، في معرض دفاعه عن جماعة ليس لديها غير النص الديني، الذي اعتمدته كأداة لبناء نفسها ومليشياتها المسلحة.
بلغ الخلل في الوعي لدى "صلاح" حداً جعله لا يُفرق بين "الخروج" كمبدأ ديني لدى الزيدية، وبين العمل السياسي والانقلابات العسكرية. ضمن حالة التسطيح، قال الرجل إن "مبدأ الخروج"، الذي تعتمده جماعة الحوثي، يستوي مع النضال السياسي للحركة الوطنية.
كان أغلب نضال الحركة الوطنية سياسياً وثقافياً، بينما "مبدأ الخروج" ديني يقوم على القوة والعنف. لهذا فالمساواة بين الأمرين مجرد تلفيق مفضوح يُثير الشفقة والضحك. لا يُمكن حتى المساواة بين "مبدأ الخروج" والانقلابات العسكرية. صحيح أن استخدام القوة أمر حاضر في الجانبين؛ إلا أن ذلك لا يعني اعتبارهما شيئاً واحداً. في الأول، يتم السعي إلى الحكم تحت دعاوى دينية قائمة على "النسب"، فيما يتم، في الثاني، السعي إلى الحكم اعتماداً على القوة العسكرية. ثم إن "مبدأ الخروج" نشأ في ظروف تاريخية واجتماعية قديمة مختلفة. ومعروف أن استحضار مصطلح نشأ في ظروف تاريخية واجتماعية وسياسية قديمة، لا يمكن أن يفهم إلا كمحاولة لاستحضار تلك الظروف التي نشأ فيها، وهذا يشير إلى ماضوية هذه الجماعة.
...
يتجنى "صلاح" على نضال الحركة الوطنية؛ إذ يُساوي بينها وبين جماعة الحوثي. صحيح أن الحركة الوطنية كانت تعمل ضد السلطة ذاتها التي واجهتها جماعة الحوثي؛ بيد أن ذلك لا يكفي لإجلاس جماعة الحوثي والحركة الوطنية على مقعد واحد.
عملت الحركة الوطنية ضمن نضال وطني هدفه اليمن، فيما لا تفعل جماعة الحوثي غير استنهاض النزعات الطائفية، والتغذي منها.
كانت الحركة الوطنية تعمل ضمن سقف وطني، فيما يتعمد الحوثي تجاهل العلم الوطني، ويبدو كما لو أنه في حالة ثأرية مع الهوية الوطنية اليمنية التي شكلتها ثورة سبتمبر.
ليست لدينا مشكلة مع الحوثيين، بل مع مشروعهم، وخطابهم، وممارساتهم. وإذا ما غيروا ذلك، فلا يُمكن الحديث عن مشروعهم كخطر على اليمن كهوية وكوطن.
الموقف من المشروع الحوثي لا يعني النظر إلى الحوثيين "كنسق اعتراضي نشاز". من حقهم أن يكونوا ما يريدون؛ لكن من حقي أن أُبدي مخاوفي من مشروعهم، لاسيما عندما لا يُقْدم هذا المشروع على أي خطوة لإيضاح موقفه من قضايا وطنية رئيسية، كالموقف من ثورة سبتمبر، والنظام الجمهوري.
بفذلكة رثة، حاول "صلاح" أيضاً إجلاس حسين الحوثي على مقعد واحد مع شخصيات وطنية كعلي عبد المغني، وعبد الرقيب عبد الوهاب، وعيسى محمد سيف، والحريبي، وجار الله عمر. لا نقول شيئاً في حق حسين الحوثي، وهناك إجماع ممن عرفه على سمو أخلاقه. خلافنا ليس مع الرجل، بل مع مشروعه. من ذكرهم "صلاح" كانوا سياسيين واجهوا سلطة القمع والاستبداد منطلقين من خطاب وطني، وعمل سياسي، وبعضهم عسكري. بينما الحوثي أقام مشروعه على خطاب ديني طائفي. وإن حاولت غض الطرف عن هذا التزييف، يأبى المنطق ذلك.
هذا ليس موقفاً من حسين الحوثي كشخص، بل موقف من الخطاب الديني والطائفي ككل. ومن البديهي أن أي خطاب ديني سياسي في بلد تتعدد فيه المذاهب لا يمكن إلا أن يكون خطابا طائفيا.
وانطلاقا من هذا الموقف، لا يمكنني أيضا أن أقبل إيراد اسم عبد المجيد الزنداني ضمن قائمة النضال الوطني. وهو الموقف ذاته الذي يجعلني أنحني أمام زيد الموشكي وأقبله كتعبير عن نضالي الوطني وهويتي الوطنية؛ ذلك أن الموشكي كان يحمل مشروعاً وطنياً حقيقياً تجاوز فيه ثقافته الدينية وهويته الطائفية إلى ما هو أوسع: اليمن.
حاول "صلاح" التدليس بإلصاق تهمة "الطائفي" بي. ولأنه لم يفهم السياق الذي استخدمته أثناء حديثي عن الجغرافيا الزيدية؛ اعتبر ذلك استدعاء "للمسكوت والمضمر في المنطق: جغرافيا شافعية". كان حديثي عن الجغرافيا الزيدية ضمن سياق غير تحشيدي أو تحريضي. ويعرف جميع أصدقائي أني أنحاز للمذهب الزيدي، ولا أعرف نفسي كشافعي، بل كيمني. لا يُمكن ليمني يحب وطنه مواجهة المشروع الحوثي عبر استنهاض مشروع طائفي آخر، أو هوية سلالية ميتة كالهوية القحطانية. لا يُمكننا إلا أن نحتمي بهويتنا اليمنية، إن أردنا تجاوز هذه المحن.
هنا أجدني مجبراً على إدانة كل الخطاب العنصري المقيت الموجه ضد الحوثي بسبب نسبه. ذلك أن هذا الخطاب العنصري لا يعمل إلا ضمن المشاريع التي تسعى إلى ضرب الهوية الوطنية لليمن لصالح عصبويات مريضة. أظن موقفي هذا واضحاً، ولم يحدث أن تورطت في مواقف عنصرية على هذا النحو، أو طائفية على نحو آخر.
- نُشر في "الشارع" اليوم الأحد 30 مارس 2014
حضرموت برس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.