ابين .. قبليون يحتجزون مقطورات وصهاريج وقود ومخاوف من ازمة غاز في عدن    من الظلام إلى النور.. #الإمارات تقود #شبوة نحو فجر تنموي جديد*    اسرائيل تقرر ارسال وفد تفاوضي إلى الدوحة بشأن وقف النار في غزة    اليمن و الموساد "تقارير و مصادر"    كأس العالم للأندية.. فلومينينسي يحقق فوزاً صعباً على الهلال ويتأهل لنصف النهائي    انتقالي غيل باوزير يبحث سبل تحسين القطاع الصحي بالمديرية خلال لقاء موسّع بالجهات المختصة    عزاء مهيب للشهيد الشيخ صالح حنتوس في مارب    وفاة شابين في حادثتي غرق واختناق بعدن    "وثيقة" .. تعميم أمني جديد بشأن قاعات المناسبات    صنعاء .. البنك المركزي يعيد التعامل مع خمس منشآت صرافة    الشرطة العسكرية الجنوبية تدشّن المرحلة الثانية من العام التدريبي 2025م بعرض عسكري مهيب    تعيين صالح على رأس الجهاز الفني لمنتخب الناشئين.. الأسماء    مؤسسة أفق تدشن مشروع بناء مدرسة المستقبل النموذجية في تعز    انطلاق أعمال لجنة تحكيم مسابقة "أمير الشعراء" في عدن برعاية إماراتية    "أمجد خالد.. الإرهابي الذي فضح راعيه"    التلغراف: تكتم اسرائيلي حول 5 قواعد عسكرية ضربتها ايران    فعاليات نسائية في الجوف إحياء لذكرى استشهاد الإمام الحسين    شاهد / قطعة اثرية ثمنية جدا يسلمها مواطن للدولة    غزة تجدد دروس ثورة الامام الحسين    فعاليتان نسائيتان بذكرى عاشوراء في الضحي والمغلاف بالحديدة    عرض سعودي صادم.. هل يتخلى آرسنال عن جناحه الذهبي؟    المجلس الانتقالي الجنوبي يرفض لجان البرلمان اليمني: تحركات باطلة ومرفوضة قانونيًا وشعبيًا    وفاة مواطن غرقا وآخر اختناقا بعادم مولد كهربائي في عدن    الهلال السعودي يودّع مونديال الأندية من الدور ربع النهائي    تدشين مشروع الحقيبة المدرسية لأبناء الشهداء والمفقودين بمحافظة الحديدة    اجتماع بالحديدة يناقش الأعمال المنجزة والخطة الخدمية والتنموية للعام 1447ه    وفاة قائد قوات الأمن المركزي في الجوف    الرهوي يلتقي قيادة الغرفة التجارية الصناعية بأمانة العاصمة    "الأحرار الفلسطينية" تبارك رد "حماس" على مقترح وقف العدوان على غزة    كشف ملامح وجه كاهنة مصرية قبل 2800 عام    "القسام" تكشف عن تفاصيل استهدافها دبابتين وناقلة جند صهيونية وسط خان يونس    خلال الايام القادمة.... تعز تشهد افتتاح بطولة بيسان الكروية    ممرات السلاح والتهريب.. من يحكم مضيق باب المندب؟    حكومة التغيير والبناء .. توطيد الاستقرار الخدمي وترسيخ الأمن الداخلي    - رصيف الهموم يُشعل مواقع التواصل: فواز التعكري يجسد معاناة اليمنيين برؤية فنية موجعة    السقاف يزور الدكتور عبدالرحيم اليافعي ويشيد بتفوقه العلمي    في مشهد منافي للقيم.. مليشيا الحوثي تعتدي على مواطن وزوجته في إب    المنازل في عدن تتحول الى افران نتيجة انعدام الكهرباء    مصر تمتلك واحدة من أقوى الدفاعات الجوية في الشرق الأوسط (صور)    عدن تستحق أن تُعرف... وأن يُعرّف بها!    تصدير النفط مقابل تشغيل مطار صنعاء    كيز الخامسة.. المصنفات الأوليات يتساقطن في    أمم أوروبا.. سيدات ألمانيا يكسبن الجولة الأولى    ساير الوضع    ساير الوضع    الكشف عن مسودة اتفاق لوقف اطلاق النار في غزة    مراسلون بلا حدود: تراجع اليمن في مؤشر حرية الصحافة وسط حملة اعتقالات وخطف للصحفيين    فان غوخ همدان: حين تخذل البلاد عبقريًا    انهيار شبه كلي لخدمة الكهرباء في عدن وسط موجة حر غير مسبوقة    الوكالة البريطانية للأمن الصحي: انتشار متحور كوفيد الجديد "ستراتوس"    الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك "أحيا الصلاة" بعد إماتتها وقمع الطاغية الحجاج بن يوسف    وفاة أسترالي نتيجة الإصابة بفيروس خفافيش نادر وغير قابل للعلاج    تغاريد حرة .. حقبة ملعونة بالغباء والجهل    صرخة في الفضاء الفارغ    حكيم العرب "أكثم بن صيفي" يصف رسول الله وهو الرابعة عشر من عمره الشريف    "النمر" يكشف خطأ شائعًا: خفض الكوليسترول لا يقي من الجلطات والوفيات إلا باتباع طرق مثبتة طبيًا    الجوبة وماهلية ورحبة في مأرب تحيي ذكرى الهجرة النبوية    الكثيري يشيد بجهود وزارة الاوقاف والإرشاد في تنظيم موسم الحج ويؤكد أهمية ترشيد الخطاب الدعوي الديني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشباح الماضي
نشر في يمن لايف يوم 07 - 01 - 2014

أفضت الثورة الفرنسية، عام 1848، إلى صعود نابليون الثالث (لويس بونابرت)، نجل شقيق نابليون الأول، إلى رئاسة الجمهورية عبر الانتخاب، في 10 كانون الأول من ذات العام. تم ذلك وسط ترحيب قطاعات فرنسية رأت في لويس بونابرت تجسيداً لجده نابليون الأول؛ غير أن هذا الترحيب انتهى بانقلاب كامل قام به الرجل، عام 1851، حلَّ فيه "الجمعية التشريعية ومجلس الدولة، واعتقل عددا كبيرا من النواب، وأعلن الأحكام العرفية في 32 مقاطعة، ونفى الزعماء الاشتراكيين والجمهوريين من فرنسا. وفي 14 كانون الثاني (يناير) 1852، أُقِر دستور جديد يحصر السلطة كلها في يدي الرئيس. وفي 2 كانون الأول 1852، نودي بلويس بونابرت إمبراطور فرنسا باسم نابليون الثالث".
في كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، قال كارل ماركس، في نقده لحالة الترحيب التي أبدتها قطاعات واسعة من الفرنسيين، حينها، حيال صعود نابليون الثالث إلى الحكم: "لم يعد لديهم صورة كاريكاتورية عن نابليون القديم فحسب، بل صار لديهم أيضًا نابليون القديم نفسه بصورة كاريكاتورية". يُمكن إسقاط هذا التحليل العميق على الحالة اليمنية القائمة اليوم حول ما يُمكن أن يُطلق عليها ظاهرة الحوثي: لم يعد لدينا صورة كاريكاتورية عن الإمام القديم فحسب؛ بل صار لدينا أيضاً الإمام القديم نفسه بصورة كاريكاتورية.
تستعيد جماعة الحوثي إرثاً سياسياً ودينياً مازالت أصداؤه قائمة على الأرض، وفي الوعي العام. ويتزامن تقدم هذه الجماعة وانتصاراتها العسكرية السريعة، التي حققتها وتُحققها على خصومها، مع حالة ابتهاج يقوم جانب منه على التشفي بخصوم هذه الجماعة، فيما يقوم الجانب الآخر، وهو الأهم، على التماهي مع شخصية عبد الملك الحوثي باعتبارها استعادت إرث الماضي، وجعلته يعيد فرض نفسه كتجسيد لهوية وروح "الإمام"، بعد أكثر من نصف قرن على التخلص منه وتحويله إلى تاريخ. اعتماداً على ماركس، يُمكن القول بأن الحوثي أعاد بعث "أشباح الماضي"، ويبدو المجتمع اليمني كما لو أنه "ارتد إلى ما وراء نقطة انطلاقه". ومن الواضح أن هناك من يتماهى مع شخصية عبد الملك الحوثي، ويقدم لها الولاء، انطلاقاً من إيمان ديني يرى في عبد الملك إعادة إحياء لروح الأئمة الذين حكموا اليمن لعقود طويلة. وإذاً، لقد صار لهؤلاء "الإمام القديم نفسه بصورة كاريكاتورية".
يتوسع نفوذ الحوثي بشكل يبعث على القلق، لاسيما وتوسعه هذا يتم اعتماداً على الحرب وقوة السلاح، وليس على العمل الديني المذهبي فحسب. يترافق ذلك، مع إجراءات تُظهر الحوثي كبديل للدولة الوطنية؛ فأموال الزكاة في المناطق التي يُسيطر عليها تذهب إلى خزينته هو وليس إلى الخزينة العامة، فضلاً عن أنه يقول بتغيير نظام التعليم في المدارس، وأنشأ نظاماً أمنياً وقضائياً خاصاً به. وإذا ما عدنا إلى ماركس، يُمكن القول بأن أشباحاً من الماضي مازالت تسهر على مهد اليمن، متجلية "ككابوس على أدمغة الأحياء".
تعيد جماعة الحوثي استحضار أرواح الماضي لتوظيفها في خدمتها؛ فهي تُقدم نفسها كحامية للمذهب الزيدي، ومدافعة عنه في وجه الاستباحة التي قام بها التيار الوهابي، طوال العقود الماضية، لمناطقه وهويته الدينية. ويبدو أتباع ومقاتلو جماعة الحوثي حريصين على إبقاء "حماستهم في المستوى العالي للمأساة التاريخية العظيمة"، التي يستمدون قوتهم منها.
يقول ماركس، في كتابه هذا، إن الناس "يلجؤون، في وجل وسحر، إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكي يُمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى جلال القدم، وفي هذه اللغة المستعارة". واعتماداً على ماركس، يُمكن القول بأن عملية "بعث الموتى" في الحالة اليمنية القائمة تتم بهدف "تمجيد الصراعات الجديدة". شبح الثورة يحوم على اليمن؛ إلا أن اليمنيين لا يكلفون أنفسهم عناء "مهمة اكتشاف روح الثورة مرة أخرى". إنهم غارقون في إعادة استحضار الماضي، وأشباحه، التي تتجلى اليوم في حروب طائفية قذرة.
تتضاعف أزمة الهوية اليمنية، وتسير نحو مرحلة خطرة عنوانها الأبرز العنف، كمقدمة للانهيار الكبير.
بعثت ثورة 2011 الآمال لدى غالبية اليمنيين، وبدت كما لو أنها أعادت استنهاض الهوية اليمنية؛ إلا أن هذه الآمال تبددت مع حالة الإجهاض التي تعرضت لها هذه الثورة، جراء سيطرة القوى التقليدية عليها. تضاعف الإحباط في المجال العام. وما ظهر أنه حالة استنهاض، تحول إلى عمليات تجديف لما تبقى من مشاعر الوطنية النائمة، فتصاعدت الهويات الطائفية كتعبيرات بديلة عنها.
إلى سيطرة القوى التقليدية على الثورة، وتمكنها من تدجينها؛ عمل الفساد، وغياب الأمن، والتدهور الاقتصادي، على دفع الشأن العام نحو حالة مفتوحة من الفوضى؛ فعزز ذلك من مشاعر الحنين الجماعية إلى الماضي، بأشباحه وعصبوياته العفنة.
طوال العقود الماضية، ظل اليمنيون يحلمون بدولة حديثة قائمة على النظام والقانون، بدون علي عبد الله صالح، ومراكز القوى التي شاركته في نهب وتدمير اليمن. وفي ساحات الثورة، انعكس هذا الأمل طويل المدى على شكل مطالب بقيام "دولة مدنية حديثة". بيد أن الأمور آلت إلى مراكز النفوذ العسكرية والقبلية؛ فكان البديل هو الفساد والفوضى. خيّم الإحباط على الفضاء العام، فتحول هذا الإحباط إلى وقود لاستنهاض الماضي، الذي أصبح اليوم ناظماً لمشاعر الناس وحياتهم اليومية. وقد عبر هذا الإحباط عن نفسه، في الشمال، كحالة قسر للمجتمع وإخضاعه لعملية فرز، واصطفاف ما قبل وطني. تراجعت الحالة الوطنية من زخمها العالي ذي الطابع الإنساني والوطني إلى اصطفافات طائفية، وحروب مذهبية. والشاهد أنه حتى المنتمون إلى قوى اليسار أخذوا يُعيدون تعريف أنفسهم، ليس وفقاً للآمال الوطنية التي ظلوا يتشدقون بها، بل وفقاً للاقتراب أو الابتعاد من جماعة الحوثي، أو تجمع الإصلاح وحلفائه القبليين والعسكريين!
الجماعات السلفية تستدعي الماضي أيضاً في معركتها الحالية مع الحوثيين. استعاد السلفيون من الماضي الأسماء؛ إذ يصرون على تعريف الحوثيين ب "الروافض". كذلك جعلوا لأنفسهم مهمة أخلاقية مقدسة، فاستحضروا الموقف الشيعي من زوجة النبي عائشة، ومن أبي بكر وعمر وعثمان. وحتى ما قبل الحرب الحاصلة في "دماج"، كان السلفيون يكرسون وجودهم المعادي للحوثيين باعتبار هؤلاء "يسبون أم المؤمنين والصحابة". غير أن الحرب جعلت السلفيين يتخلون مؤقتاً عن مهمتهم "الأخلاقية" المتمثلة في الدفاع عن أم المؤمنين والصحابة، وأخذوا يتحدثون عن حصار دماج، والقتلى والجرحى.
وإذ استمر المشروع الوطني في حالة موته التاريخية؛ ظهر المشروع الطائفي أكثر حيوية وفاعلية. وبلغت الملهاة ذروتها عندما اتجه طرفا الصراع القبلي والطائفي نحو استقطاب "القوى الوطنية"، التي وقع كثير من أفرادها في فخ إعادة تعريف أنفسهم وفقاً للانحياز مع أحد طرفي هذا الصراع. وقد أغرى ضعف الدولة المركزية طرفي الصراع بالاندفاع نحو حرب سيطرة على الجغرافيا الوطنية في شمال الشمال، التي تبدو كما لو أنها متاحة لقوة الحرب والغلبة. هناك فراغ وطني كبير في اليمن؛ لهذا تحولت البلاد إلى ماراثون مفتوح أمام المليشيات المسلحة.
في الجنوب، لم يجد الإحباط ممراً للتفريغ عن نفسه؛ فكانت العودة إلى المبالغة في استنهاض الهوية الجنوبية، واستدعائها في مواجهة الآخر: الشمال. أغرى ضعف السلطة المركزية بعض جماعات الحراك الجنوبي، ودفعها نحو التعبير عن نفسها اعتماداً على اللغة التي تفهمها مراكز القوى في الشمال: العنف.

تعامل كثيرون مع لويس بونابرت كبطل؛ غير أن ماركس قال، في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه هذا (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت)، إنه أثبت "كيف أن الصراع الطبقي في فرنسا قد أوجد الظروف والعلاقات التي مكنت شخصًا سخيفًا متوسط المواهب من أن يؤدي دور بطل".
- نُشر في "الشارع" الاثنين، الموافق 6 يناير 2014


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.