GMT 0:00 2014 الجمعة 4 أبريل GMT 22:49 2014 الخميس 3 أبريل :آخر تحديث بيروت - فيكي حبيب تبدو الحكاية أقرب الى لعنة. خمسة أجيال متعاقبة لعائلة لبنانية تتقاذفها رياح الهجرة وترمي بها بعيداً من أرض الوطن. البداية عام 1860 مع لجوء جد العائلة الأكبر الى تركيا هرباً من المجازر المستعرة بين المسيحيين والدروز في جبل لبنان. وعلى الخطى ذاتها، وإن في شكل عكسي، ستسير ابنته «وديعة» عام 1913، بعد ان تُجبر على الهروب من تركيا الى بلاد الشام على متن سفينة حربية فرنسية ستقلها من مرفأ مرسين التركي خوفاً من حكم جائر في حقها لوقوفها الى جانب الفرنسيين ضد العثمانيين. المرفأ ذاته سيشهد، ويا للمصادفة بعد 93 عاماً، إبحار حفيدها، على متن سفينة حربية فرنسية أيضاً، ولكن هذه المرة هرباً من «حرب تموز» عام 2006... وقبله غادر الوالد المسيحي الفرنكوفوني «إرنست» دمشق الى بيروت إبان الوحدة المصرية - السورية، ظناً منه أنه يؤمّن لأولاده حياة أفضل في تلك المدينة المنفتحة على الآخر، والتي لُقبت يوماً ب «سويسرا الشرق» قبل ان تنهشها الحرب وتقذف بأبنائها الى الخارج. فهل هي مصادفة حقاً؟ سؤال يؤرّق الحفيد الخمسيني الذي اعتاد أن يحمل كاميرته أينما كان لتوثيق اللحظة خوفاً من أن تضيع منه في بحر الذكريات المبعثرة، فكان أن أبصر النور فيلم «ميراث» الذي شقّ طريقه الأسبوع الماضي الى الصالات اللبنانية وكأن فيه محاولة لكسر تلك «اللعنة» التي جعلت جميع افراد العائلة محكومين بالهجرة، الى درجة لا ينفك معها المخرج من ترداد ان ما من واحد منهم ولد في بلد ومات فيه. مسكون بالحرب إنه فيليب عرقتنجي صاحب فيلمي «بوسطة» و«تحت القصف» الذي يبدو مسكوناً بالحرب في كل أعماله، ولهذا لا يتردد في القول انه يريد من فيلم «ميراث» ان يكون العلاج الشافي له، هو الذي يدرك أهمية التحدث عن جراح الماضي للتخلص منها. من هنا أتى «ميراث» فيلم مرايا، يتزاوج فيه العام والخاص، الشخصي والتاريخي... أو بصورة أوضح، ييدو الشخصي فيه وكأنه مرآة للعام، ويبدو العام انعكاساً للشخصي، الى درجة يمكن القول انه بمقدار ما يبدو الفيلم سيرة ذاتية خاصة، بمقدار ما ينطبق عليه انه يروي سيرة وطن او على الأقل سيرة شريحة من هذا الوطن ذاقت ويلات الغربة على مدى عقود طويلة وحروب لا تتوقف. ومع هذا لا يدّعي فيليب عرقتنجي انه يروي جزءاً من تاريخ لبنان، أو أنه يختزل حكايا الغربة والتهجير بقصة عائلته، وإن كانت بامتدادها من عام 1860 حتى اليوم، تمكّنت من الإطلالة على محطات مفصلية من تاريخ المنطقة، ما يجعل القصة أقرب الى التوليفة السينمائية منها الى الحقيقة. إذ كيف يمكن لعائلة واحدة أن تختزل كل هذه المحطات المؤثرة في عمر المنطقة؟ لكنّ عرقتنجي لا يخترع شيئاً من عنده، بل يفتح ألبوم الصور لربط الماضي بالحاضر من دون أن يقدم درساً في التاريخ، بل يضع نفسه وعائلته المؤلفة من والدته (والدته الحقيقية في الحياة) وزوجته ديان وأولاده الثلاثة (ماتيو، لوك، وإيف) في واجهة الأحداث. ولعل هذه الذاتية جعلته يخشى الانتقادات، فكان أن سارع للتأكيد في فيلمه ان لبنان زاخر بالقصص والروايات وأن الفيلم يصوّر إحداها. لكنّ قصة عرقتنجي لا تكتفي بأن تكون قصة عائلة، بل تكاد تكون قصة عائلات كثيرة لم تذق طعم الاستقرار في هذا الشرق المضطرب. ولهذا تبدو الأسئلة الوجودية التي يطرحها المخرج على نفسه في هذا الفيلم، أسئلة عامة تلامس كل إنسان يعيش تمزقاً في هويته. وهي وإن بدت أسئلة الأقليات في الشرق وما تستتبعه من قلق على الوجود واستجابة لإغراءات الغرب، غير ان خروجها في هذا التوقيت، يجعلها أسئلة شعوب عربية كثيرة، لفظها «الربيع العربي» خارج أوطانها بعد اتساع رقعة حفلات الرقص على القبور. لعبة الحرب يُقسّم المخرج فيلمه الى فصول، ويتكئ على أرشيف الصور مع استخدام التقنيات الحديثة للربط بين زمنين، فيُجسد وأفراد عائلته في بعض المشاهد أدوار أسلافه الذين توارث عنهم «لعنة» الهجرة. ثم يعود الى الحاضر، فيأخذ أولاده، مثلاً، في رحلة الى أماكن مراهقته حيث «لعبة الحرب» كانت الأكثر رواجاً. يفتح درجاً خبأ فيه ألعابه. لكنّها ألعاب لا تشبه تلك التي تجذب الصغار. فهذه مجموعة من الرصاص، وتلك مجموعة من الشظايا، وأخرى فراشات قذائف... يشرح عنها لأولاده. يرتبك أمام اشمئزاز ابنه الكبير. يقول له: «لا تأخذ موقفاً ضدي، لم أكن جزءاً من الحرب، هاجرت قبل أن تمسك بي إلى غير رجعة». لكنّ الحرب تأبى ان تتركه بسلام. هذا ما تقوله له والدته في فصل آخر، وهي تحضّه على أن يقطع مع ماضيه كما فعل والده إرنست، ناصحة إياه بأن يستقرّ في فرنسا التي منحته جنسيتها بعدما لجأ إليها هرباً من جنون الحرب التي لم تظل «لعبة جميلة» بالنسبة إليه حين خطفت منه صديق الطفولة «سامي» الذي قرر ان يحمل البندقية الى جانب «القوات اللبنانية». «مقتل سامي هو الذي قادني للهجرة» يقول عرقتنجي لأولاده الثلاثة، قبل أن يتوجه الى منزل الفتى الذي قُتل في مقتبل العمر، فتنطق الكاميرا في مشهد شبه صامت بما قد تعجز عنه الكلمات حين تقترب من وجه الأم الثكلى. «كنت أنظر الى من هو في الجانب الآخر (نسبة لانقسام بيروت بين شرقية وغربية) على أنه العدو، ولم أكن أدرك أنه ينظر إليّ النظرة ذاتها. فرنسا وحدها هي من جعلني أفهم الآخر»، يقول عرقتنجي لأولاده وكأنه يريد منهم أن يفهموا أهمية الجنسية الفرنسية التي منحهم إياها، هم الذين توافرت لهم ظروف حياة مختلفة رغم تنازعهم بين هويتين: العربية والفرنسية. ولعله هنا يريد أن يتجنب شعوراً بالذنب قد يلاحقه بعد اقتلاع عائلته من حياتها الفرنسية المستقرة وإلحاحه على العودة الى بيروت للاستقرار فيها رغم حالة اللاستقرار التي تعيشها. عرقتنجي الذي يستهل «ميراث» بمشهد للعائلة خلال رحلة إنقاذ الجالية الفرنسية من لبنان خلال «حرب تموز»، يختتم الفيلم بمشهد عائلي أيضاً فوق الأجواء اللبنانية... ولكن هذه المرة، لا هرباً من حرب أو دمار، بل في ظروف سياحية من خلال رحلة عبر منطاد يكشف جمال لبنان من فوق، ليقول من خلالها: هذا هو لبنان الذي نريده... بلد السياحة والجمال. ايلاف