قطعة وتر صغيرة التقطها السيد (هاوش كورن) من أرض السوق ألحقت به عاراً سيلازمه ما بقي له من سنين ستفوت سريعة. إنها الإشاعة حين تلتصق بالرجل في سنوات شيخوخته، وقت يدبّ العجز في الأطراف. فلم يعد بإمكانه الذود عن كرامته المهدورة، ولم يكن أمامه سوى انتظار الخلاص، بحرقة المظلوم وأسى المغلوب على أمره، وها هو يهذي على فراش الموت: قطعة وتر صغير؟ انظروا .. انظر يا سيدي ليست إلا قطعة وتر مطاطي صغيرة .. انظروا ها هي! يحكي موباسان في قصته (قطعة وتر صغيرة) حكاية السيد (هاوش كورن) الذي خرج في يوم التسوق الأسبوعي إلى سوق البلدة، حيث يجتمع الكل فلاحين ومزارعين ونسوة وأطفالاً، الكل بلا استثناء كان هناك في الساحة صغاراً وكباراً، يوم حافل لعرض البضائع وتبادل الأخبار، والبيع والشراء. وكعادته وكما تعوّد النورمانديون المثاليون لمح العجوز (هاوش كورن) قطعة وتر مطاطية ملقاة في الطريق، تلفت حوله قبل أن ينحني بصعوبة بسبب كبر سنه وتحت أنين العظام العليلة بالروماتزم والتقطها. قد تبدو القطعة المطاطية تافهة ولا قيمة لها عند غيره، لكنه قال لنفسه: ربما تلزم في يوم ما. إلا أن سوء طالعه جعل تلك الانحناءة تحدث أمام عدوه اللدود السيد (مالندين)، الذي ابتسم ساخراً من وضاعة عدوه العجوز. إنها وجبة دسمة قُدمت إليه على طبق من ذهب: عدوه النورماندي البخيل الحريص، ينحني أرضاً رغم مرضه وألمه، ليلتقط وتراً مطاطياً تافهاً! أي عار سيلحق بك أيها السيد المحترم! ولأن المصائب لا تأتي فرادى؛ فقد ضاعت محفظة ذلك الصباح في السوق نفسه، وأي وقت أنسب لنشر الشائعات وتلفيق الأخبار من يوم كذلك الذي واجهه العجوز المسكين؟ وسرعان ما تناقل الناس في البلدة أن العجوز (هاوش كورن) هو من سرقها. لقد شوهد وهو ينحني أرضاً ليلتقطها. وباءت كل محاولات العجوز المسكين في الدفاع عن نفسه بالفشل، وأين دليل البراءة؟ أيعقل أن ينحني لأجل وتر مطاطي؟ لم يكن أحد ليصدق تلك الكذبة. ومهما حكى وروى قصته وأخرج الوتر المطاطي مستدلاً به؛ زاد الناس إمعاناً في تصديق أنه محتال وكاذب وعجوز شرير. لقد فات العمر، ولم يعد به بقية ليدافع عن نفسه، (تذكر أنه في الماضي كان بفضل مكره النورماندي يتمكن من إقناع الآخرين بالأشياء التي يفعلها وقد اشتهر بذلك، أما الآن فإنه يشعر بعجزه التام عن إثبات براءته، وهذا الشك الظالم من قبلهم بحقه أحدث جرحاً غائراً في روحه). إنها لعبة الزمن والعمر، يلحق العار بإنسان ما في شبابه، فتتكفل السنوات التالية بمسح تلك الأخطاء إما نسياناً أو تجاهلاً؛ لكن ماذا يفعل عجوز عَدِمَ الصحة والحيلة، وزادت مأساته مرارة أن عدواً مكر له وأثار شائعة بغيضة تلحق به العار والخزي. لا شيء يؤلم أكثر من ملامة تقع للإنسان بسبب مكر وخديعة تربصت به في سنوات ضعفه وعجزه. حدث العجوز نفسه بذلك! يقولون إن الكذب بغيض وشروره تتضاعف وتتوالد، وتستشري كالنار، ما إن تبدأ حتى تأكل كل ما تجد حولها إلى أن تأكل نفسها. لكن أليس للنورماندي العجوز يد فيما حصل له ذلك اليوم؟ أليس لطمعه وحرصه دور في العار الذي لحق به؟ ربما يفعل المرء شيئاً يحتقره ولا يبالي به كالتقاط وتر مطاطي من الأرض وإخفائه بالجيب بسرعة، خشية أن يراه أحد. لكن مغبة ذلك الفعل قد تظهر يوماً ما، لأنه ومهما بلغت به القوة والحيلة، هناك من يفوقه حيلة ومكراً! ألم يتمنَّ العجوز لو أن ما التقطه من الأرض كان شيئاً قيّماً مفيداً، ربما صدقه الناس حينها. ومع ذلك، أصدّقه الناس أم لم يصدقوا .. فإن العار قد لحقه، فلو أنه سرق المحفظة فعلاً فهو لص محتال وكاذب، وإن لم يكن فهو دنيء ووضيع. [email protected] The post وتر النورماندي العجوز appeared first on صحيفة الرؤية. الرؤية الاقتصادية