الحياة ككتاب مُعار، كمنزل إيجار، سرعان ما سيُسترد ولا يُترك لنا منه إلا الذكرى. الحياة ليست ثمينة بذاتها، بل قد تكون رخيصة ما لم يمنحها الإنسان القيمة. كيف لها أن تكون ثمينة إن كانت لا تملك حيال الموت دفعاً ولا تقديماً ولا تأخيراً، كل لحظة هي من الممكن أن تكون النهاية، سواء كانت لحظة جميلة أم رديئة، خاتمة حسنة أم سيئة، يقول الله تعالى في كتابه الكريم «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه»، خاطب الله الإنسان وتعالى كتاب الله من أن ترد فيه لفظة عبثاً كان بالإمكان أن يخاطبنا بابن آدم أو الناس أو الذين آمنوا أو أولي الألباب، ولكن لأن الكدح إن لم يتسم بالإنسانية خسر قيمته، فالإنسانية هي عصب القيمة. بالأمس القريب نقصت كفة الإنسانية في ميزان الكدح، ورجحت كفة الفقد، حين ترجّل من على صهوة الحياة أحد عمالقة الأدب، وأحد أساطير الإنسانية «غابرييل غارسيا ماركيز» الروائي الكولومبي الذي توفي بعد صراع طويل مع المرض، ففي العام 1999 تم تشخيص حالة ماركيز بأنه مصاب بسرطان الغدد الليمفاوية، وقد خضع لعلاج مكثف مدة ثلاثة أشهر، والذي كان بمثابة حجر عثرة في حياته كما عبّر عن مرضه في مقابلة صحافية يقول ماركيز «بعد ذلك، خفضت علاقاتي مع أصدقائي في ذلك الوقت إلى أدنى حد ممكن، وقطعت الاتصالات الهاتفية وقمت بإلغاء رحلاتي وجميع التزاماتي وخططي المستقبلية، حتى لا يدركني الوقت قبل أن أنتهي من كتابة المجلدات الثلاثة من مذكراتي «عشت لأروي»، وكتابين من القصص القصيرة اللذين قاربا على المنتصف، وبالفعل انغلقت على نفسي وعكفت على الكتابة كل يوم دون انقطاع من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر». الأرواح المناضلة إذا ما شعرت بالتهديد زاد عطاؤها وازدهر عملها، فالتهديد مدعاة للعمل والعطاء لا للارتكاء والبكاء، كل لحظة تمر على الإنسان هي مُهددة بطعنات الرحيل، فالحضارات نشأت من أناس يعتقدون بأنهم سيموتون غداً، ثق بأن الجميع قد يبيعونك أملاً مغشوشاً، ولا أحد يبيعك الأمل الحقيقي كالخوف. حين تُوفي ماركيز أعلن الرئيس الكولومبي «خوان سانتوس» الحداد لمدة ثلاثة أيام، ونُكست الأعلام حزناً، وما كان هذا الحداد وتنكيس الأعلام إلا نتيجة كدحه الإنساني العميق والعظيم الأثر الذي تركه يتجلّى خلفه ويخلّد اسمه، أعماله المجنونة التي بسببها تم إطلاق مصطلح جديد في عالم الأدب «الواقعية العجائبية»، العُزلة التي ألقى بظلالها علينا ونحن نقرأ «مئة عام من العزلة»، والحمد الذي نلهج به أن عاش ليروي لنا ويقول «الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يذكره، وكيف يتذكره ليرويه». خُدعة الكوليرا التي جعلتنا نحنق على أشياء كثيرة، على بوصلة الحب الضائعة، على عقارب الساعة العابثة، ونستعذب كل التفاصيل المدهشة، ولأجلها وأجل غيرها من العمق الحساس الذي كان يطرقه بقلمه الباذخ، والثورة التي أحدثها في عالم السرديات أقول: أحسن الله عزاء الأدب في وفاة والد الواقعية العجائبية «ماركيز». [email protected] The post أحسن الله عزاء الأدب appeared first on صحيفة الرؤية. الرؤية الاقتصادية