وفي ساحته الخارجية, يصطفون يتقدمهم رئيس الجمهورية, وبعد الصلاة علي أرواح شهداء الحق والواجب ضباط وجنود القوات المسلحة, تعزف الموسبقي المارش الجنائزي, وفي مشهد مهيب يتحرك الركب يتصدره حملة النياشين وصور الذين ضحوا بحياتهم, كي تظل تركيا أرضا واحدة, ولسانا واحدا, وقومية لا تعرف التجزئة. ثم تنطلق الحناجر تلعن الإرهاب والارهابيين مؤكدة في الوقت ذاته أن النصر قريب, ووسط تصفيق حاد تواري الجثامين الثري, ويسدل الستار مؤقتا ليرتفع من جديد مع شهداء آخرين. في مدن جنوب الشرق حيث غالبية المواطنين من الأكراد تتكرر مشاهد الموت وعذابات الأمهات الثكلي لفقدان أبنائهم ومعهم يصرخ الآلاف الذين يحملون جثامين قتلاهم( وهم أيضا شهداء) إلي مثواهم متوعدين الدولة التركية بالانتقام في صور تهتز لها الأفئدة, وهي بطبيعة الحال لا تظهر إجمالا في وسائل الإعلام مرئية ومقروءة اللهم في شبكات خاصة تبث من بلدان أوروبية, ولا ينسي الغاضبون ترديد شعاراتهم المطالبة باللغة المسلوبة والهوية المطموسة, زاد عليها في الفترة الأخيرة شعار الحرية ل أبو أي عبد الله أوجلان زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني الموصوفة وهي كذلك بالانفصالية, الذي يقضي عقوبة السجن مدي الحياة بجزيرة إمرالي غرب إسطنبول. سنوات طويلة تقترب من ثلاثة عقود مرت علي بداية حرب ضروس, أما النهاية فلا وجود لها, علي الاقل في الأفق المنظور, وهو ما طرح ومازال علامة استفهام عريضة حول هذا الصراع, وهل سيستمر إلي مالا نهاية؟, سؤال عجزت حكومات متعاقبة علي الإجابة عنه أو بمعني أدق, حاولت معتمدة فقط علي الحل الأمني ولكنها فشلت, وحتي لا تلتصق النتيجة نفسها بحزب العدالة والتنمية, لجأ زعيمه إلي انتهاج وسائل مغايرة مقارنة بأسلافه, بيد أنها جمعت بين العمليات العسكرية التي لا مفر منها لمواجهة حرب عصابات ممنهجة, والحلول السياسية, لعلها تبدي نفعا في حلحلة المعضلة الكردية التي تشكل الكابوس الأعظم في مسيرة الجمهورية التي دخلت منذ تسعة أسابيع عامها التسعين. ورغم مساوئ اردوغان العديدة, فإن تصديه للقضية كان هو الأكثر واقعية وبرجماتية في آن, ولا غلو في أنه يعول الكثير علي وضع خاتمة, ليس مطلوبا فيها أن تكون نهائية وسعيدة, بقدر ألا تصبح مأساوية, يضيع معها, ويكون ثمنها مستقبله السياسي, وهو ما يتنافي مع طبيعته الجامحة والطامحة معا, التي لن تقبل بأي حال من الأحوال الأفول أو الإبتعاد عن بؤرة الأحداث قبل عشر سنوات بالتزامن مع العيد المئوي للجمهورية. فهو في الاساس أبدي تحفظه إن لم يكن رفضه لنقل مشاهد الجنازات من خلال وسائل الإعلام, التي تؤجج مشاعر الكراهية وتجعل الاقتراب من لب الأزمة مستحيلا, ولاحقا سيحاول تدريجيا إقناع الراي العام ببلاده أنه لا يمكن للإشكال الكردي المزمن أن ينتهي بدون عبد الله أوجلان, وإنطلاقا من ذلك جاء قرار التفاوض مع الأخير وبعض من رموزه في القارة الاوروبية, صحيح بدت الخطوات محسوبة, إلا إنها اتسعت خلال الشهور الخمسة الماضية, علي خلفية الأزمة السورية, وتشجيع الأسد لمواطنيه الكرد ومدهم بالسلاح الأمر الذي اسفر في النهاية عن بنية سياسية مختلفة للقامشلي بالشمال السوري, ولم يقتصر الأمر علي ذلك فحسب بل امتد بجلب أبناء العم في الضفة الاخري من الأناضول المتاخم واللصيق أثنيا وجغرافيا, للقتال أولا ضد الجيش الحر وثانيا الاطاحة بنظام البعث نفسه ليكتمل المشهد الانفصالي بإزالة صور بشار الاسد ليحل محلها أوجلان وهو آخر شئ يمكن للاتراك تخيله, ولم يبعد شمال العراق الكردستاني عن التشكيلة الجديدة التي تبدو متناغمة مع حاكمه مسعود البرازني, بل أن بغداد دخلت علي الخط ونكاية في اردوغان ومحاصرته التقي نوري المالكي الشيعي بقيادات كردية نافذة. وفي الداخل اضرب العشرات من النشطاء الأكراد في السجون عن الطعام احتجاجا علي إقصائهم من أي انتخابات قادمة وتضامنا معهم اعلنت النائبة الشهيرة ليلي زانا التي كادت أن تحصل علي جائزة نوبل للسلام في تسعينيات القرن الماضي إضرابها, وبإلحاح من وسطاء, تدخل سجين إمرالي, مطالبا إنهاء الاضراب فورا, وهو ما حدث في التو واللحظة ليبرهن الوضعية الاسطورية لأوجلان لدي أبناء جلدته, وهو ما أوحي بقرب إطلاق سراحه, وقد يكون هذا في تفكير من بيده القرار, ولكن التوقيت سيكون المشكلة, فالأمر ليس هينا, ولكن مع رياح الغضب الشديدة في الشرق الأوسط, قد يصبح لا مفر منه!