مواضيع ذات صلة شمس الدين الكيلاني دخل العرب التاريخ الديموقراطي متأخرين، سبقتهم أكثرية شعوب الأرض، لا لأن الإسلام عمل على إعاقة الانخراط بالديموقراطية، فالتجربة السياسية في المجال الإسلامي، شهدت استقلال السلطة السياسية عن السلطة الدينية، ولا لنقص في وعيهم بضرورة الحرية والديمقراطية والدستور، فقد طرحت النخب العربية هذه المسائل على نفسها منذ عهد التنظيمات والإصلاحات العثماني 1838، ونصَّت عليها دساتيرهم منذ بداية القرن العشرين مثال دستور المؤتمر الوطني السوري الفيصلي 1921، وأعادوا تأكيدها في العهد الليبرالي، ثم أقبلت (النظم التقدمية) الاستبدادية، كنظام البعث في سورياوالعراق ونظام القذافي (الجماهيرية العظمى)، فأطاحت الديموقراطية وقيمها لصالح أنظمة الاستبداد، تحت لافتة (الديموقراطية الاجتماعية)، أو الديموقراطية الشعبية التي لا هي شعبية ولا ديموقراطية! تأخر هبوب رياح التغيير الديموقراطي على بلادنا، التي هبَّت موجتها الأولى، نهاية القرن 18، على شكل ثورات كبرى في فرنسا وأميركا وقبلهما بريطانيا، وعصفت موجتها الثانية بالفاشية والنازية لتعيد تأسيس الحياة الديموقراطية على أسس أكثر صلابة في ألمانيا والنمسا وإيطاليا وبقية القارة الأوروبية باستثناء أسبانيا والبرتغال واليونان. ومرَّت على اليابان وتضع الإشارات الأولى في بعض الدول المنتدبة في آسيا.ثم عبرت موجتها الثالثة، في السبعينات، على أسبانيا والبرتغال(ثورة القرنفل) واليونان، ومن ثم انتقلت بعدها، في التسعينات، إلى شرق أوروبا فقوضت النظام الاستبدادي الشمولي في الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة بفلكه، غير أنها توقفت عند حافة المتوسط. فبدلاً من ان تتلقف بلداننا هذا التيار الديموقراطي الجارف،استقبلته بحروب على أبواب الخليج/ العراق، بفعل حماقة النظام العراقي الاستبدادي، وغطرسة القوة الاميركية. وعلى الرغم من التشويش على الديموقراطية، الذي أحدثه الاحتلال الأميركي للعراق، وتواطؤه مع إيران على إضعاف هذا البلد وعلى تقاسم النفوذ فيه، فإن الوعي العربي استيقظ على ضرورة الديموقراطية، تماشياً مع تلك التحولات الديموقراطية العالمية، ولاسيما مع وصول (الأنظمة التقدمية) الاستبدادية إلى طريق مسدود، وانهيار تجربة الاتحاد السوفياتي، فانتقل المثقفون العرب من فكرة (الانتقال إلى الاشتراكية) إلى فكرة (الانتقال إلى الديموقراطية).افتتح لبنان في14آذار 2005،حقبة الثورات الديموقراطية العربية،تُحفِّزه إرادة التحرر من نير هيمنة النظام المخابراتي السوري، بيد أن أصداء ثورة 14 آذار جرى استيعابها بفعل قوة السلاح الطائفي أولاً، وبالشبهة التي أصابت الديموقراطية بتأثير الاحتلال الأميركي للعراق ثانياً . فكان علينا أن ننتظر ثورة الياسمين في تونس ثم مصر،ثم في ليبيا وسوريا لنرى العودة الحارة لاستدعاء فكرة الديموقراطية، التي تحولت من هدف للنخبة إلى فكرة مهيمنة على عموم الكتلة الشعبية التي انخرطت في الميدان دون توسطات النخبة/وازعامة ودورها القيادي، كما هيمنت على الفكر السياسي العربي، على حساب تصورات الإسلاميين الطوباوية عن الدولة، تلك التصورات التي أضحت في حالة دفاع عن النفس على الرغم من المظاهر المغايرة. استخدم الشباب الثائر في بلدان الربيع العربي وسائل الإتصال الحديثة، مثل الفايس بوك واليوتيوب لتوصيل صوته وصورته إلى الفضاء العالمي المفتوح، واتخذ هذه الوسائل قناة اتصال وتنسيق وتوجيه بين فاعلياته الجماهيرية على المستوى الوطني،مما خفَّف من ضرورة وجود أحزاب سياسية كبرى لنجاح عملية التغيير أوزعامات كرازمية على المستوى الوطني لتقوم بدور اللاحم للحركات الاحتجاجية، فأثبتت هذه الثورات أن بإمكان الشعب غير المنظم أن يتحول إلى مستوى الزعامة، قبل يختار زعاماته في الميدان، في سياق التحرك الديموقراطي نفسه، ويخلق رأياً مشتركاً وقيادة جماعية للعمل السياسي، وللتوصل إلى تصور مشترك للمستقبل. ولعل أهم السمات التي طبعت ثورات الربيع العربي، هو الحضور العارم لكافة تلوينات الطيف الاجتماعي، فالشعب كله تحرك وأمسك مصيره بيديه، ولاسيما قاعدته العريضة، أو ما يسمى القاع الاجتماعي الذي يشكل الفيصل في كل ثورة وطنية عارمة، وفي كل تحول تاريخي للمجتمع، وهذا ما يؤكد الطبيعة الوطنية للثورات العربية، بالتلاحم مع طبيعتها الديموقراطية .تجلى ذلك الطابع الوطني الشعبي العميق بوضوح أشد في الثورتين الليبية والسورية، وذلك لأن النظامين الليبي والسوري أسسا أجهزة وتشكيلات سلطوية غدت بفعل تكويناتها وتلوناتها مفصولة عن المجتمع، وغدت تنظر إلى مجتمعها نظرة ازدراء وعدائية، في كل مرة يظهر فيها التباين جلياً بين المجتمع والسلطة،حتى انكشف العداء سافراً أثناء الثورة بين الجهتين إلى حد الاستباحة، فأصبح القتل والحرق والتدمير والقتل، من المجريات العادية لأفعال أجهزة السلطة .هذا هو مغزى الفعل التدميري والتفتيتي المنظمين الذي قامت وتقوم به السلطة تجاه أبناء (وطنها) بطريقة لم يشهدها العالم بهذه الطريقة المنظمة من قبل. وهذا ماعبر عنه القذافي بوضوح :(زنجة زنجة، دار دار)، وابنه سيف في وعيدة لشعبه ، وهذا ما تجلى في شعار أجهزة النظام السوري :الأسد أو نحرق البلد! ولعل هذا الطابع الوطني الشعبي العارم ستكون له مفاعيل أخرى على مستقبل الديموقراطية في بلدان ثورات الربيع.أولها :أن الشعب الذي خرج من القمقم، ومن سجنه الكبير لن يستطيع أحد إعادته إليه، لا باسم الدين ولا باسم الزعامة المُلهمة.لقد خرج الشعب إلى الضوء الباهر، بفعل قوته الذاتية وتضحياته الجسام، فيبدو من المستحيل سلبه مساحة الحرية والديموقراطية اللتين صنعهما بنضاله، يساعده في ذلك أن هذه الثورات لم تركز على قيادة حزب تؤهل هذا الحزب للسيطرة على الثورة ومن ثم على السلطة، ولا على زعامة ملهمة كزعامة الخميني للثورة الإيرانية تلك الزعامة التي أهلته لمصادرة نتائج الثورة في طريقه لاحتكار السلطة تدريجياً، ليحولها إلى سلطة ثيوقراطية .إن الشعب الذي ذاق طعم الحرية والديموقراطية لن يسلمها لأي كان، إلا لممثليه الحقيقيين في سياق الحفاظ على مناخ الديموقراطية ومؤسساتها، وعلى الآلية التي تكفل تداول السلطة. وإن ما يحدث في مصر وتونس وليبيا وسيحدث في سوريا خير برهان على أن العرب دخلوا عصر الديموقراطية، ولن يرتدوا عنه، وأن ما يحدث وسيحدث ماهو إلا مشكلات لصيقة بمرحلة الانتقال إلى الديمقراطية المديدة على الرغم من المظاهر الأخرى.