بقلم/ عباس الديلمي بداية أقف إجلالاً أمام فقيد الوطن والأمة الشهيد المناضل جارالله عُمر وأتقدم بالشكر لكل من أحيا الذكرى العاشرة لاستشهاده.. وفاءً لإسهاماته وتمسكاً بنهج اختطه، وفكر حمل رايته. فقدنا برحيل جارالله عُمر شخصية قيادية فذة وقائداً مجرباً وصفهُ البعض بمهندس اللقاء المشترك وداعيته، وأصفه برجُل الايلاف، وهذا ما أصفه به منذ عرفته وبعد أن تعززت علاقتنا واقتربنا من بعضنا وهو وزير للثقافة وقرأت صفحته النقية الخالية من الرواسب السلبية والعصبية الهدامة (سياسياً، ودينياً، واجتماعياً). سمعت عن جارالله عُمر (أبو قيس) وأنا طالب في الثانوية العامة بتعز، كما سمعت عن قرينه وزميله العميد يحيى المتوكل ، وكنت حريصاً على التعرف على هاتين الشخصيتين والاقتراب منهما، وتم لي ذلك.. فقد تعرفت على المرحوم يحيى المتوكل الذي شملني برعايته طيلة دراستي في الجامعة بعد حركة 13 يونيو 1974 وتعرفت على الشهيد جارالله عُمر في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي بمدينة عدن عام 1985، وجدت الشخصيتين فوقما كنت أتوقع وأسمع، وبما أن موضوعنا هو الحديث عن الشهيد جارالله في ذكراه العاشرة فهو من عرفته رجل إيلاف ومحبة وتقارب من أول لقاء به وحينها لم أكن عضواً في الحزب الاشتراكي، أو تجمعني به أي صلة تنظيمية ولكن وجدت فيه الرجُل والمفكر القيادي المنفتح على من أمامه بشفافية وثقة وصراحة نابعة من الثقة بالآخر والقبول به مادامت هناك مصلحة عليا تهم الجميع.. وزاد إعجابي به وتقديري له عندما عرفت عن دوره في تهدئة الحرائق والعمل على لملمة الجراح بعد أحداث يناير الدامية في 1986 وكيف كان من أوائل الأصوات الداعية إلى الديمقراطية وحرية التعبير والتغيير المطلوب في جنوب الوطن.. عرفته رجُل إيلاف ووئام خلال الأزمة التي نشبت بين طرفي أو شريكي تحقيق الوحدة (المؤتمر والاشتراكي) وكيف كرس كل وقته وحده لإيلاف طرفي الاختلاف الذي اتسع خُرقه على الراقع وتحول إلى خلاف وقتال في العام 1994. في أواخر العام 1993 اتصل بي طالباً المجيء إلى منزله للمقيل، وذهبت إليه ووجدته بمفرده وأحسست أنه يريد استفساري عن سبب تقديم استقالتي من الحزب الاشتراكي إليه شخصياً، وعن جملة وردت في الاستقالة، وأنه يريد البوح بثلاثة أشياء تثقل صدره.. أولها: ما وصل إليه الأمر من الخطورة بين شريكي الوحدة، وعدم جدوى ما يبذله من مساعٍ لرأب الصدع والحفاظ على منجز كبير، بإمكاننا أن نجعل منه البداية الصحيحة لبناء اليمن الجديد.. وثانيهما: ما لمسه في زيارته لعدن من تململ وتذمر نتاجاً لممارسات خاطئة تفرز ما من شأنه تهديد التلاحم الجماهيري قبل وحدة الشطرين، وأن شيئاً من ذلك وقد استمع إليه ولمسه من كوادر الحزب الاشتراكي في لجنة محافظة عدن وهذا ما ضاعف من حزنه.. أما ثالثهما: فتأسفه عن انشغاله بالأزمة القائمة على حساب تفرغه لوزارة الثقافة والارتقاء بالعمل الثقافي على مختلف الصعد.. وقال: لقد صرت أخجل من الشارع قبل الوسط الثقافي لشعوري بالتقصير، وهذا ما يجعلني أفكر في إيكال المهام الثقافية للوزارة إلى نخبة منكم كأدباء ومثقفين، فقلت له جميعنا نقدر ما أنت فيه ونشكر ما تقوم به لنزع فتيل انفجار مروع والحفاظ على البنية الثقافية لليمن، خاصة وقد تطور الأمر بين الفريقين المختلفين وسالت فيه دماء الاغتيالات، ما تقوم به هو أهم من أي عمل آخر.. لم أعرف جارالله عُمر إلاّ رجُل إيلافٍ وقبولٍ بالآخر، وما النظر إليه كمهندس للقاء المشترك، إلاّ في إطار توجهٍ تبناه للتأسيس لعمل ديمقراطي يقوم على القبول بالآخر وحرية التعبير والتحالفات القائمة على مصلحة وطنية عليا.. وهذا ما لمسته منه قبل سنوات على تأسيس اللقاء المشترك.. التكتل الذي لو حظي برعاية مُهندسهِ وداعيته لكان وضعه ودوره مختلفاً عما هو عليه اليوم.. ولأطفئت حرائق ما كان لها أن تندلع.. لم يكن هناك شيء أبغض إلى قلبه من القمع الثقافي والإرهاب الفكري وكان يردد قوله (ينبغي أن تُواجه الحُجة بالحُجة والفكرة بالفكرة والكتاب بالكتاب).. ولا أنسى حديثه عن حرية التعبير في لقاء جمعنا مع الشاعر الكبير محمود درويش بمفرج فندق دار الحمد عند زيارته لصنعاء بدعوةٍ من جارالله عُمر وزير الثقافة. وهنا نقول ما أحوجنا إلى توجه عام يقوده من يجعلون من التآلف هدفاً وقاعدة لبناء يمن نتطلع إليه، بغض النظر عن التباين في الرؤى يسارية كانت أو يمينية ، إسلامية أو قومية ، مادام هناك قاسم مشترك هو بناء اليمن الجديد الذي نجعل من الاختلاف في المفاهيم مجالاً للتنافس في البناء وتحقيق المكاسب وما فيه مصلحة الوطن وأجياله، لا نقاط خلاف ومماحكات وتصفية حسابات. من قصيدة (ليتهم عَرَفوك) "يا حكيماً، على صَبْر من يركب البحر أنشأتنا يا حليماً، بروحِ السماَحةِ علَّمتْنا كيف نجنح للَسلم نغفرُ نُزْجىْ حمائمنا كيفَ نحرس ارضاً ونحمي عِرْضَاً، ونَحْشوُ بنادقنا كيف نُحْبِرَُ أقلامنا وبِمَاءِ المحبةِ نغسلُ أرواحَنا ونكتب أغنية لا تُمّل"
رحمك الله أيها الرجُل النادر، وحصيلة تجربة أحَسَّت بمرارة ما يعانيه اليمن.