إن أية محاولة لاستقراء الواقع السياسي الراهن وتحديد بعض مؤشراته المستقبلية مرهون بارتباطه العضوي بما سبقه من أحداث تاريخية في مسيرة النضال الوطني والسياسي لجماهير الشعب. فقد كان الجنوب اليمني المحتل في بداية الستينات من القرن الماضي يعيش أدق مراحله الثورية، والثورة تغلي في كل نفس متعطشة للحرية.. الانتفاضات القبلية المسلحة تعم معظم المحميات والمشيخات والسلطنات والإمارات.. والإضرابات العمالية والطلابية والمظاهرات والاعتصامات السياسية والوطنية وإرهاصات العمل المسلح، تشل حركة الحياة في عدن المستعمرة.. في هذه الأثناء مثل الزحف الشعبي على المجلس التشريعي في عدن في 24 سبتمبر 1962م لمنعه من اتخاذ قرار بضم ولاية عدن إلى ما سمي باتحاد الجنوب العربي، مثل ذروة العمل السياسي الوطني الذي فتح الباب على مصراعيه أمام العمل المسلح وثورة التحرير. ومثل قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م في الشمال بعد يومين من الزحف الشعبي في عدن بشارة الخير المنتظرة بتوفر أبرز شروط انطلاق الثورة، وهي توفر الخلفية التي تؤمن دعم وإسناد الثورة تجسيداً وتعميقاً لواحدية التاريخ. وكانت البداية نزول الشيخ راجح بن غالب لبوزة إلى ردفان عائداً من صنعاء للتمهيد لتنظيم عمليات فدائية ضد الوجود البريطاني، وعندما علم المندوب السامي البريطاني في عدن بنبأ عودة الشيخ راجح وأتباعه، أصدر أمراً بمعاقبة كل من يتطوع أو يجند أو يدرب في دولة أجنبية "يقصد الشمال" بالسجن خمس سنوات ومصادرة سلاحه وتغريمه خمسة آلاف شلن، ولكن الشيخ لبوزة لم يكترث بهذا الأمر ومضى يمهد لقيام الثورة فيما اعتبرت سلطة الاحتلال تحركات لبوزة بأنها ليست أكثر من تحركات استفزازية، واتجهت قوة عسكرية بغية نزع سلاح لبوزة وأتباعه بعذر أن هذا السلاح منح لهم من حكومة الثورة في الشمال، وعندما رفض الشيخ تسليم سلاحه باغتته قوات الاحتلال بهجوم مسلح مساء 13 أكتوبر 1963م استخدمت خلاله الطائرات والدبابات ومختلف الآليات والأسلحة للقبض عليه وأتباعه، وجرت مواجهة عنيفة غير متكافئة بين الجانبين استشهد على إثرها الشيخ راجح بن غالب لبوزة، رحمه الله، ليكون يوم دفنه في 14 أكتوبر 1963م بداية انطلاق الثورة الشعبية المسلحة التي عمت كل أرجاء الجنوب اليمني المحتل بقيادة الجبهة القومية وجبهة التحرير، حتى تكللت بالنصر والتحرير في 30 نوفمبر 1967م الذي سيظل يوما محفوراً في ذاكرة شعبنا اليمني لما له من ذكريات وطنية ومواقف عبرت عن تلاحم وترابط وواحدية الثورة اليمنية. وإذا كانت طموحات وأهداف الثلاثين من نوفمبر في الحرية والديمقراطية والوحدة قد انتكست آنذاك لأسباب محلية وقومية ودولية، فإن الإرادة الشعبية ظلت معيناً لا ينضب في مواصلة النضال والعمل من أجل إعادة تحقيق الطموح، الذي تحقق واقعاً ملموساً ومعاشاً في 22 مايو 1990م بقيام الجمهورية اليمنية.