اشتهر أحد أعضاء البرلمان في صنعاء قبل الوحدة بصوته المجلجل الذي كان تركيزه غالبا على أداء ما كانت تسمى وزارة التموين، وفي مسائل كالرقابة على الأسعار أو رفعها وارتفاعها. وحين عين وزيراً للتموين لم يكن نجاحه في الأفعال والتفعيل كما نجاحه في النقد والانتقاد. إن هذا لا يعني وجه المقارنة المباشر والنمطي كالقول ما أسهل نقد العمل وما أصعب قيادة وإدارة عمل بمستوى يرضي الناس أو يرضى عنه غالبية الناس، ولكنه كما الناقد في الأدب والشعر محترف نقداً ويبدع في النقد؛ وهو لا يستطيع الإبداع في الشعر، فتفاعلات الحياة تبلور خصائص أو تفرز تخصصات حسب واقع وطبيعة كل مجتمع، وليس بالضرورة لناقد الأخطاء أن يكون هو المالك لميولات وقدرات معالجتها وإصلاحها؛ بما يتطلبه ذلك من استيعاب لخصوصيات كل واقع ومن قدرات إدارة وفكر إداري وآليات.. الخ. في حالة أخرى فالمرحوم محمد خميس إثر تعيينه وزيراً للداخلية كان في حالات -كنت شاهداً على إحداها - يتحرك على سيارته، ويقوم في شوارع ازدحام بتنفيذ كدمات للسيارات الواقفة بشكل مخالف، والتي تعيق السير أو تمثل الأهم بين أسباب إعاقة السير، وكان تحديداً يكسر زجاجات الإضاءة خلف السيارة المخالفة، فالحالة الأولى مثلت اجتهاداً لتحسين أداء وزارة في خدمة عامة الناس، والثانية اجتهاداً لمواجهة مخالفات عينية عشوائية من عامة الناس. إذا كان ذلك النائب البرلماني يمارس انتقاد الفساد من خلال نقد أداء وزارة التموين، فوزير كان يتعامل مع مشكلة لا تعيق فقط سير الناس بل تستفزهم وبمستوى عالٍ من الأذى، وبالتالي فإذا فساد نظام بالتأميم ومصادرة الملكية الفردية في البلدان الشيوعية فإنه عندما يمارس عاملون وعمال في مزرعة إنتاج زراعي أو حيواني من هذه المنتجات سراً وبأسعار زهيدة، فذلك فساد في ظل النظام ومنه ويتقاطع مع النظام. إذا ميزانية النظام الإمامي هي ما يجيبه ويجتبيه من عامة المواطنين، فاستراتيجية الإغلاق والانغلاق فاسدها نتائجها، تمثل أشنع وأسوأ فساد.. والطبيعي أن هذا الخيار يكون سقفه للفساد محدوداً أو معدوداً، فإذا النظام الإمامي ظلت معظم قصوره من مخلفات الأتراك، ولم ينفذ أي بنى خدمية، فالفساد يتمحور حول الجباية والجباة بمحدودية من يحسن رزقهم، أو يقدمون على الفساد إلى أي مدى من العامة. بالرغم من كل هذا فإنه لا وجه ولا مجال للمقارنة بين ما أنجزته الثورة وجمود وعفونة النظام الإمامي، ولكن حين التشخيص الأوسع والأدق فاليمن بعد ثورة سبتمبر وأكتوبر واقعها بتموضعات الصراعات الخارجية، وكانت تقفز في خيارات الفكر بما لا أساس له في الوعي والتفكير، وبما لا واقعية له في الواقع كقومي وأممي أو أصولية وأسلمة. لا أعني اعتراضاً أو تعارضاً بين أثقال أو اتجاهات، ولكن ما هو تعارض مع واقعية الواقع وواقعية التفكير والوعي. فخلال هذه الفترة وبعد قيام الثورة المصرية التي جاءت ثورة اليمن بعدها بعقد، قفز محيط اليمن في التطور العمراني والبنية الخدمية، بل والثروة والثراء بشكل مذهل، بما جعل طرح التحرر من الرجعية أو التحرير بالأممية سياقاً يضحك أو يثير السخرية. العاصمة العراقية بغداد توسعت أكثر من خمسة أضعاف خلال السنوات الأولى للحرب العراقية- الإيرانية، وعدن دخلت الوحدة كما تركها الاستعمار باستثناء تدمير الميناء في بنيته ومردوده، والفرق هو بين فساد يتبنى وبين انعكاساته توسع عمران وبناء وبين فساد تجميد وجمود إضافته أكثر في الدمار والدماء. لم يعد بالإمكان ربط مثل هذا الطرح بصراعات واستهدافات داخلية أو خارجية، لكن ما هي حقائق في الصراعات أو الواقع للوعي، فستظل استحقاقات للوعي لاستعمالها الواعي وليس الصراعي. ماذا يمكن أن يكون عداء أميركا لصدام حسين والنظام العراقي بعد تحالف صميمي في الحرب ضد إيران بجانب عدائها مع السوفيت؟!.. وكيف تصبح أولويتها تبعية ملفقة للنظام العراقي لا شيء فيها من ثبوتيات التبعية للسوفيت؟!. هكذا ففساد الوعي جلي بمستواه أو تفاوت نسبة في التحجر والانغلاق الإمامي، وفي الجمود والإغلاق الأممي والانتقال من سذاجة الارتماء إلى أحضان الأقوى بعد الثورة أو الاستقلال إلى سذاجة الارتماء بالتماهي مع الطرف المنتصر وفي أحضان أو بحاضنات. لا يمكن وفي ظل غلبة أو غلو لفساد الوعي في الفوقية كنظام وفكر سياسي أو كديمقراطية في إطار نظام؛ أن يواجه فساد الواقع بنجاح، فالعلاقة أيا كانت تكاملية أو توازنية ومتوازية أو تقاطعية وتعارضية بين فساد الوعي الفوقي والفساد في الواقع، تصب في صالح حياة الفساد والمزيد من حيويته. صحيح أن وحدة اليمن استفادت وارتبط تحققها إلى حد ما باندثار ثقل الشيوعية، وصحيح أنها استفادت بأي قدر من التموضع المؤقت للأثقال الأقليمية بما فرضية الحرب مع إيران في حالة النظام العراقي، ولكن انتصار الرأسمالية بنمطها وإيقاعها المتسارع ومن ثم طرد العمالة اليمنية لم يكن لصالح واقع الوحدة في اليمن. من الأحداث المرتبطة بتطورات ما بعد اندثار الشيوعية جاء الحكم الذاتي والسلطة الوطنية الفلسطينية وبين محاور الحملة عليها "الفساد"، ثم جاء غزو أفغانستان وبعد ذلك العراق وبين محاور الحملة ضد النظام في أفغانستان أو العراق "الفساد". الطبيعي في متراكم الواقع في اليمن والصراعات وانعكاسات مثل تلك المتغيرات حدوث ووجود فساد، وأن يكون الفساد بين محاور الحملة ضد النظام، ولكن هل محاربة الفساد والحملات ضده هي قضية لحالها أم قضيتها إقصاء أو إسقاط نظام؟!.. فأي طرف أو أطراف سياسية حين تقرر استخدام أية قضية أو قضايا في الواقع لإسقاط نظام أكان الفساد أو الحراك أو تمرد الحوثي أو غيره، فهي تتحمل المسؤولية في واقعية تفكيرها ووعيها ومدى واقعيته مع الواقع. فإذا حملاتها لخمس سنوات باتت تؤكد انهيار النظام وانتهاء صلاحيته، فمثلي كأنما انتظر كل هذه السنوات يتابع عقلية وآلية نفاذ، وتنفيذ ذلك بثورية ديمقراطية أو انقلابية أو غيرها، ولا قيمة أو تأثير لطرح مثلي إن كان يعترض على هذا المسلك المعارضي. إذا كنا بعد هذه السنوات نصل من خلال المشترك إلى اتفاقين لعامي 2009م و2010م مع النظام، فإنه كان الأولى والأفضل للمشترك كمعارضة في حملاته بأن يكون الفساد ومواجهته قضيته، وليس إسقاط النظام خاصة وأن أولوية أي نظام هي استقرار النظام ثم استقرار واقع النظام. الفساد في اليمن لم يصل إلى وضع أن يصبح قضية لإسقاط نظام، ولكن فساد وعي المعارضة يقفز إلى هذا المساق والسياق من مآزق خياراته الصراعية، التي باتت استراتيجية لتفكيره كما استراتيجيات فكر أممي أو أصولي أو نحوه. من حوادث وأحاديث في الذاكرة للوعي أن تجد وزيراً يشكو من فساد أو عدم تمكينه من العمل وخفقه في إمكانات الحد الأدنى، وحين تسأله لماذا لا تمتلك الشجاعة وتقدم الاستقالة؟ يصمت أو يلتجم، وقد تجد مدير عام أو أكثر يشكو من أن المسؤول الأعلى يطلب منه ويلزمه بإتاوة شهرية دون إفصاح أو إيضاح أنها نصيبه من الفساد، فالمسؤول يستحيل أن يطلب شيئا من هذا إلا من فاسد، وإذا حضرة المدير غير ذلك فسيكون بطلاً إذا أقدم وقدم الاستقالة، وبالتالي حتى مدير عام ينكشف فساده فسعيه للتبرئة أو للتبرير بفساد النظام أو نقد فساد النظام. الديمقراطية في وعي المعارضة الصراعي في اليمن تتقاطع استراتيجيتها مع مشروعية النظام وفي وعيها المصالحي تتوافق مع النظام، وبين الاستراتيجي الصراعي وعيا والتصالحي المصالحي واقعاً تتناوب مواقف وتتذبذب المواقف. إذا النظام يتبنى هيئة وطنية واستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، فذلك تسليم بواقع ووجود فساد، وكأنما النظام يتبنى أو يقبل بشراكة مواجهة ومحاربة الفساد، ولكن الفساد لا يحارب بوعي فساد أو أوعية إفساد، وبالتالي فزمام المبادرة في يد المعارضة والكرة في ملعبها. المسألة لم تعد أن اتفاق 2009م كان لتأجيل الانتخابات وحوار 2010م لإعادة تنظيم انتخابات، فتلقائية التطورات الداخلية والخارجية المتداخلة باتت تفرض على كل الأطراف ومن أجل وضع ومصالح كل طرف، بما في ذلك النظام جديداً أو تجديداً في الحياة السياسية ذات انعكاسات إيجابية تلمس في الواقع بما يتجاوز تفكير الإقصاء الصراعي المتبادل، وهذه التطورات بإجمالها لم تعد مع شراكة صراعية ومن توافق أو توفيق صراعات، وإنما إذا أريد شراكة واعية ذات ثقة ومصداقية غير الشراكات السابقة سيئة السمعة أو ذات المساوئ أكثر في الواقع!. الواقع الداخلي أو الخارجي المعني أو المؤثر لم يعد يحتاج شراكة النظام والمشترك في أبوة أو تبني الديمقراطية، وإنما شراكة بناء الديمقراطية بقدر توفر مصداقية ذلك!.