قبل أكثر من عقدين ظهر كتاب (عنوان الشرف الوافي) في الفقه والعروض والنحو والتاريخ والقوافي لإسماعيل بن المقري في القرن التاسع الهجري، هذا الكتاب اشتمل على خمسة علوم وحوى من الإعجاز ما يبهر الناظر فيه، فقد كتب على نسق لم يعرف الناس مثله في سائر الأعصار ومختلف اللغات.. الكتاب هو كتاب فقه عندما تقرأه أفقيا.. ولكنه يحتوي وبنفس السطور والكلمات على أربعة أعمدة بألوان مختلفة، يشمل كل عمود منها علماً مختلفاً عن الآخر، فأحد الأعمدة خصص لعلم التاريخ ثم الآخر للعروض ثم النحو ثم التاريخ ثم القوافي. * * * ثم جاء في القرن الثاني عشر الهجري علامة من بلاد وصاب في اليمن هو صفي الدين أحمد بن عبدالله السلمي الوصابي الشهير بالسانة أي بعده بقرون، فكتب على نفس النظم والنسق كتابا فاق فيه ابن المقري وفاق عنوان "الشرف الوافي" وهو كتاب في الفقه، لكنه جعل في أعمدته تسعة علوم بدلاً عن الأربعة التي فعلها ابن المقري سماها "ترجيعات"، وبلغة قوية ومتينة وابداع يحير الناظر فيه.. حتى بهتت عبقرية ابن المقري في عنوانه أمام هذا الإعلان. ولنستمع ما يقوله أحد الذين عرض عليهم المؤلف هذا الكتاب ليرى رأيه فيه، وهو العلامة القاضي الوزير أحمد بن ناصر بن محمد الحيمي المخلافي نسبة إلى مخلاف الحيمة، وكان أول أمره قاضيا في الحيمة حيث مسكنه ولاه المؤيد بالله محمد بن المتوكل، ثم استعفى من القضاء وبقي وزيراً له ثم حبسه المهدي محمد بن الحسن في سجن صيرة بعدن لخروجه مع يوسف بن المتوكل ضده، ثم أطلقه وولاه القضاء بصنعاء، ثم حبسه مرة أخرى بعدن، ثم أفرج عنه وولاه قاضيا ببندر عدن وتوفي هنالك. أردنا أن نبين بهذا المختصر من (نشر العرف) عن مقام الرجل حتى نعرف قيمة مقالته فقد قال عن "الإعلان".. ومؤلفه الكثير نقتبس منه ما يلي: ".. وتأليف يدل على إمكانية مؤلفه في تقييد غرائب الشوارد وثبوت قدم له في المصادر والموارد وألمعية وذكاء وذهن قد صفا وأحسن إشادة لمباني العلوم وترصيفاً لدرها المنظوم والمنضود" ثم يعرض على ما كتبه ابن المقري من قبله فيقول: "ولو أنه رآه العلامة المقري صاحب (عنوان الشرف الوافي) لقال لم أفز من الشرف إلا بالعنوان، وهذا قد استولى على الوسط منه والعنوان وأصبح هو القارئ لا المقري لما نظمه ونضد وقال لا شك أن المعجز الحقيقي لأحمد .. " وهو طبعا يقصد أحمد السانة مؤلف "الإعلان" وهو يذكرنا بهذا التعبير بكتاب أبي العلاء المعري في شرح ديوان أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي حين سماه (معجز أحمد). * * * الكتاب سماه مؤلفه (الإعلان في الفقه عماد الدين بترجيعات في العروض والنحو والتصريف والمنطق وتجويد القرآن وتتمات تروق الطالب والذاكر والكاتب والشاعر والمثابر على نصح الرعية والسلطان). هذا هو عنوان الكتاب وهو رغم طوله لكن لا يستغنى عنه حتى يعبر صاحبه عما حواه فيه، وحين تقرأه أفقيا كتاب في الفقه ثم ترى تسعة أعمدة من نفس التصنيف الفقهي وبنفس كلماته تتناول أصناف العلوم التي ذكرت في العنوان بلغة بليغة متناسقة مع ما جمع فيها من المواعظ والحكم والأخبار والأشعار والنصائح.. هذا الكتاب أبصر النور بجهد وتحقيق ثلاثة من مثقفي عصرنا وهم الأساتذة الأعلام: أ. محمد بن محمد العرشي أ. علي بن صالح الجمرة أ. عبد الخالق حسن المغربي فقد بذل الثلاثة جهوداً تستحق الإعجاب والتقدير ليس في الضبط والتحقيق فحسب بل في عمل مقدمة ضافية تناولت تحقيقاً واستقصاءً لمسار العلوم في اليمن وتناثر المخطوطات في بلاد الدنيا.. مع استقصاء لمسار العلماء منذ صدر الإسلام ومن نبغ منهم وقصده العلماء من أقطار الأرض، وكيف تراكمت المعارف وكيف تفجرت العلوم في هذه الارض اليمنية، وكيف حدث التنافس بين العلماء والمصنفين بمن فيهم الأمراء والملوك والأئمة، وكل ذلك قد أو صل أمثال ابن المقري والسانة إلى هذه القمم.. ثم يصل المحققون الى بغيتهم في التعريف بالكتاب والكاتب ومن عاصره بشكل يثري الكتاب وما فيه.. نجد في الكتاب إطلالة للأخ الأستاذ خالد الرويشان، رأيت الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح قد أثني عليها وأعطاها حقها بما أشار إليه من تقديم للكتاب.. بقي أن نقول إن هذا الكنز العظيم من المعرفة قد وجد له من ينبش التاريخ لاستخراجه، ووجه له من يتبنى تقديمه للناس بحلة رائعة ويقدمه هدية لجيلنا والأجيال القادمة كمثال لمعاني الحكمة اليمانية والتحدي العبقري المعرفي لأهل اليمن، وهو الأخ الشيخ توفيق صالح.. وكنت أتوقع أن تأتي المبادرة من وزارة الثقافة أو من الهيئة العامة للكتاب، ولكنها جاءت من شركة التبغ والكبريت ورئيسها، فيا للعجب العجاب، وعموما فقد ورد في الأثر "لا يشكر الله من لم يشكر الناس". والرجل له يد طولى في كثير من الأنشطة العلمية والفكرية والرياضية فيما أعلم وفي تشجيع العلماء والباحثين.. فله الشكر الجزيل منا والمثوبة من الله.