تتسابق الأشجار على جانبي الطريق، وتتغير ألوان الطبيعة تدريجياً من شحوب الصحراء إلى نضارة الساحل.. صباح بارد من صباحات شتاء دمشق، حمدت الله أن الطريق ليس مغلقاً بالثلوج وأن الضباب أقل كثافة من أن يعيق الرؤية، ساعتان ونصف تفصلني عن "طرطوس" المدينة الساحلية الهادئة على شاطئ المتوسط، كنت قد ترددت قليلاً وأنا أتأمل جدول المواعيد وأوراقي وكتبي المبعثرة في كل مكان، ولكني في النهاية حسمت أمري وقررت أن أسافر لأهنئها في يوم عيد ميلادها.. فالحياة أولويات. ما إن قطعت شوطاً من الطريق حتى تسللت إلى نفسي موجة من الرضا.. شعرت أن ما أقوم به هو أضعف الإيمان لأعبر لصديقة طفولتي عن مدى سعادتي بتقاطع طرقاتنا ذات يوم ضمن ستة مليارات إنسان يعيشون معنا في الزمان ذاته على الأرض ذاتها، لأخبرها بما يمنحني وجودها في هذا العالم من شعور بالألفة، رائع أن نجد أصدقاء يبددون وحشة الرحلة التي كتبت علينا بين المهد واللحد، أليس "الأصدقاء وطن"؟.. هي في ذهني بوابة الزمن الجميل، يوم كان كل شيء نقياً وعفوياً.. حلقنا معاً.. تقاسمنا صفحات كتبنا وفرحنا وهمومنا.. وحتى أحلامنا.. أرانا عائدتين من الجامعة إلى البيت نحمل أوراقنا وأدواتنا الهندسية، نركض سعداء تحت المطر غير مبالين بثيابنا وشعورنا المبتلة ولا بالتأنيب الذي ينتظرنا عند العودة، نلجأ إلى مطعم صغير اعتدناه واعتادنا، نتناول الشطائر التي مازالت رائحتها الشهية في أنفي. كنا نضحك حتى تؤلمنا خصورنا.. فالإيماءة كانت كافية لنتفاهم، ولطالما استوعبت فيض أحزاني، عينان كبيرتان تتسعان دهشة أمام أقاصيصي التي لا تنتهي، وتدمعان إذ يتهدج صوتي.. وتلمعان فرحاً بنجاحي.. ولأن "صديقك من صدقك لا من صدّقك"، فقد اعتدت أن أراها أول المنتقدين ومرآة واضحة للحقيقة، كنا نتشاكس ونتخاصم كالأطفال.. أجل.. لكن – كما قال نزار قباني- "حين ترتفع قبضاتنا في الهواء.. كانت تتعانق.. لتتغامز على غبائنا".. كان شعارنا: صديقي من يشاركني همومي ويرمي بالعداوة من رماني ويحفظني إذا ما غبت عنه وأحفظه لنائبة الزمان أكان العالم مختلفاً أم نحن الذي تغيرنا؟ صديقتي الوفية لم تتغير قط وما زالت كما عرفتها قبل عشرين عاماً.. الصداقة فن لا يتقنه الكثيرون.. وهي تجيده ببراعة.. أبحث عنها حين أشعر أني ابتعدت عن ذاتي.. فتشدني ثانية إلى أرضي أو ربما إلى سمائي، خيط سحري يربطنا، يتحدى المسافات والزمن، فبعد غياب شهور أدير قرص الهاتف، يثلج صدري صوتها الودود الدافئ، تقرأني من نبرات صوتي، تكفيها الكلمة الأولى لترسم خريطة مناخي الداخلي، ويختل الزمن اختلالاً جميلاً، فأعود طفلة تتدفق حماساً.. أضحك من القلب.. أفتح مصراعي روحي على آخرهما لأدعها تدخل عوالمي المغلقة.. أستمتع وأنا أقرأ لها ما كتبت، وأصغي إلى تفاصيل شؤونها الصغيرة وأخبار أشخاص عرفناهم وأماكن زرناها.. تتوهج تلك المساحة المشتركة بيننا مشعلة كل ما انطفأ في داخلي، وأعود "فياضة" بما أحب.. وأسترد الزمن المفقود.. صورة كثيرة تبهت مع مرور الزمن، في حين تزداد صورهم في البال بريقاً وبهاء.. أصدقاء المراحل الأولى الذين أحبونا كما نحن.. بألواننا الحقيقية.. في الظروف الأصعب، لا نفتأ نتلمس مكانهم الخالي على أريكتنا الوثيرة ذلك: إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن أتهيأ لسفر العودة بعد أن أطفأنا معاً شموع كعكة العيد.. الآن أدرك كيف تصغر "الإنجازات" أمام لحظات نقضيها مع من نحب.. وما أسوأ الندم على أشياء لم نفعلها وكلمات لم نقلها لأحباب فرقتنا عنهم الحياة.. أو الموت. فراق جديد.. وقد بت أخشى اللقاء حين أفكر بآلام فراق يعقبه، ففي كل مرة أودعها استغرق أياماً لأستعيد حالتي الطبيعية.. كأنها توقظ أحزاني النائمة وتستخرج ما أحاول تناسيه بضجيج العمل وزحمة الانشغال وغبار الزمن.. تمتمت بحزن وأنا أتذكر عينيها المغرورقتين بدموع الوداع. "وإذا الدنيا كما نعرفها وإذا الأحباب كل في طريق"