في الأفق البعيد ثمة غيمة عارضة تضمر ريحاً صراراً تنتج فوضى مستدامة، صور كثيرة هي تلك التي تشير إلى مستقبل ملغوم، في بلد لم يعد يحترف سوى القتل والإقتتال. لم يعد هاجس انزلاق اليمن إلى زمن الطوائف شيئاً محتملاً، فهذا الغيب صار يتكشف للعيان في صورة حماقات صبيانية ومراهقات تفتئت على ما تبقى من رمزية الدولة. حينما يفكر الإنسان في ظرف اللحظة قاصراً عينيه على ما سواها تبدو له كل الوسائل ممكنة الفعل مهما كانت إفرازاتها، ولكنه إذا ما تجاوز لحظته الراهنة للبحث عن روزنة يرقب منها ملامح المستقبل من خلال الحاضر المتناقض فإنه سيدرك أنه بفعلته تلك يستدعي مستقبل ليله. في أي بلد وعلى مرّ التاريخ حينما ينفرط عقد الدولة وتنهار مؤسساتها تنبري المطامع في صورة جماعات وطوائف تطوعية رافعة لواء الوطن، لكن وعلى أكتافها أدوات العنف والسطوة. تنطلق شعاراتها في البدء من مسوغ وطني أو ضمائري عام، تتحمس لنداء الوطن، ترفع أصوات الجهاد في سبيله…الخ. لكنها ما تلبث أن تخرج من أكمامها رايات متعددة، بمرجعيات طوائفية أو جغرافية، تفرضها على المجموع بسطوة العنف صياغة أحادية لمفهوم الوطن والدولة. هذه الأشكال تجد فرصتها في مراحل الضعف وانهيار المؤسسة، إنها البيئة الرخوة لاستنبات الملشنة بكل أشكالها. بغباء كبير تتعامل النخب – أحياناً- مع مثل هذه الظواهر كحلول بديلة في لحظ الحرج، أو كوسيلة للدفاع عن المؤسسة المهترئة، لكنها في الحقيقة ما تلبث أن تستلب ما تبقى من شرعية المؤسسة المنهارة. تلك هي أٌقرب صور الفشل السياسي في مراحل ضعف الدولة، إنها حالة رخوة من الإنتقال اللاواعي إلى سلطة الطوائف والرايات المتعددة، وهي أيضاً أقصر طرق إلى التيه الاجتماعي في ظل انعدام المشروع، وقد تشكل بيئة قابلة للصدام والتفكك والانشطار. ماذا يجري هنا؟ الشرعية في هذا الظرف العصيب إطار جامع وفرصة أخرى وحيدة يؤسس عليها وينسج من خلالها دولة مواطنة وقانون، غير أن القوى المنضوية في إطارها لم تأتلف بعد في مشروع وطني واضح، ولا تزال تعمل هنا وهناك بصورة انفرادية تجزيئية بل وتناقضية في بعض الأحيان ؟ هل ثمة مشروع ناظم لأفراد الشرعية؟ وهل صياغة موحدة للجهود والوجهة ؟ وماذا بشأن المستقبل؟ استفهامات حائرة لا تجد لها جواباً في ظل سماء ملبدة بالغيوم، وأرض قحلة لا تزرع سوى الشوك! كأحد المراقبين أحاول عبثاً رؤية المستقبل السياسي من خلال الواقع ومعطيات اللحظة الراهنة، لكنني لا أرى سوى خليط من الفوضى والرايات المتنافسة تعج بأصوات أبطال البنادق والبيادق! الشرعية قائمة في شخص الرئيس وسلطته نعم. ولأجلها ناضلنا وتحت رايتها يكافح الشعب لاستعادة دولته، ولكن لماذا تعاق عودة مؤسسات الدولة؟ ولماذا تصنع العراقيل أمام القرار المؤسسي؟ ولمصحة من بقاء هذا الواقع الممزق برايات متعددة؟ كيف نفسر ما يجري في عدن من صراع ؟ وهل سنضطر إلى عدول لقسمة التركة بين الفصائل؟ كيف تسيدت نزوة المناطقية حتى صارت كل منطقة لا تثق بغير أبنائها، ولا تقبل من غيرهم لها موظفين وقادة؟ وهل الحزامات الأمنية التي تصنع بصورة جغرافية جزء من مؤسسات الدولة؟ أم شيء آخر؟ لو افترضنا أن يمنياً قرر الآن أن يجوب بلاده طولاً وعرضاً، فكم سيحتاج إلى إذن دخول وهو يتجاوز حدود محافظات بلده العزيز؟ ولو قرر فخامة الرئيس – مثلا- نقل بعض الوحدات العسكرية والأمنية من جهة إلى أخرى أو دمجها ببعضها، من مأرب إلى عدن إلى حضرموت إلى تعز إلى غيرها، هل سيكون هذا ممكنا ومقبولاً؟ على مدار عامين صدرت ألالاف التعيينات في كل مرافق الدولة، لكن الأغلب منهم عاطل في يفتش عن عمل ومستقر، رغم وجود عاصمة بديلة! فهل هؤلاء جميعاً سفراء متجولين؟ يبدو هذا الواقع المنفلت بيئة خصبة لاستنبات ظواهر أخرى من الملشنة خاصة في ظل توافر السلاح بأي كثير من الغلمان وذوي الطيش والمقامرة، وهو ما سيجعل من عملية التحول إلى المؤسسة والدولة صعبة جداً أو غير ممكنة، ولعل في تعزوعدن وغيرها بعض صور هذه المأساة. مما لا شك فيه أن الحوثية هي مفتتح عصر الملشنة بامتياز، لكن ما الدافع لتقليد سلوكياتها في المناطق المحررة؟ هل سنستبدل المليشيات الحوثية الغازية بمليشيات محلية على قاعدة أهل البيت أحق بالبلطجة؟ هل ستضيع اليمن كما ضاعت الأندلس في زمن الطوائف؟ أيها الناس كيف نستشرف المستقبل وكيف نقرأ ملامحه؟ حرب بلا أخلاق تقود البلاد إلى رايات خرقاء تقتحم جدار الهوية والتاريخ. وأطلال شعب يقاد بلا مرجعيات إلى فضاءات من الفراغ لا مشتركات فيها. يا لهول المأساة نزرع المفجر بأيدينا ثم نطالبه بالسلامة والأمان والاستقرار! أيها السادة لن تبنى اليمن بهذه الطريقة أبداً. هذا مسلك مخيف جداً، وقد يقود إلى هوة سحيقة لا نظير لها في التاريخ. هل من مدكّر؟ │المصدر - الخبر