تجسّد مقتلة علي عبدالله صالح ووحشية التعامل مع جثته دروساً وعبراً كثيرة لعالمنا العربي المنكوب بالانقلابات العسكرية. ليست مقتلة صالح الأولى من نوعها ونتمنى أن تكون الأخيرة في عالمنا العربي، فقد سبقه في اليمن الشمالي الإمام يحيى حميد الدين والرئيس إبراهيم الحمدي والرئيس أحمد الغشمي، وفي اليمن الجنوبي الرئيس سالم ربيع علي، والرئيس عبدالفتاح إسماعيل، بحيث أصبح تاريخ رؤساء الجمهورية في اليمن بشطريه مرتبطاً بالاغتيال مباشرة. وفي كل الجمهوريات العربية، جرى اغتيال رؤساء من العراق إلى سوريا إلى مصر وليبيا والجزائر، بحيث بات الاغتيال وسيلة مألوفة في الجمهوريات لانتزاع السلطة. ليس الصراع على السلطة أمراً مخصوصاً في الجمهوريات العربية؛ فهذا أمر معروف في كل الدول وفي مختلف أنحاء العالم واختلاف النظم السياسية القائمة جمهورية وملكية، ولكن وحشية ودموية الصراع على السلطة في الجمهوريات العربية تشتّت الأوطان، وليس نظم الحكم فقط. تنجح الانقلابات البيضاء داخل الأسر الملكية العربية ولا تنجح في الجمهوريات العربية إلا بكثير من العنف والخراب، في حين تعني الإطاحة بالرئيس في الجمهوريات العربية ليس فقط عزله من السلطة، وربما قتله، بل أيضاً استبعاد أجهزة أمنية وعسكرية تابعة له ومستفيدة من رئاسته، وربما أثار الانقلاب حتى حساسيات مناطقية وطائفية ومذهبية، مما يجعل الجمهورية العربية الحديثة تدخل في ما يشبه الحرب الأهلية غداة الانقلابات. تكشف عملية اغتيال صالح عدم أخلاقية السياسة في أوضح معانيها، حيث تحالف المقتول «الراقص على رؤوس الأفاعي» كما وصف نفسه في مقابلة مع الصحافي اللبناني الشهير غسان شربل قبل اغتياله مع الحوثيين و«حلف الممانعة»، فأُفردت له شاشات تلفزيوناتها وصفحات جرائدها للإشادة به. عرف كيف يبتعد عن الشاشات وكيف يستغلها، يكمن عند العاصفة ويظهر جلياً عندما تتطلب مصلحته ذلك. انقلبت الحال على صالح عندما أعلن قبل أيام قليلة فضّ التحالف مع الحوثيين، فصار «خائناً» و«مثيراً للفتنة»، في الجانب الآخر انتعشت آمال السعودية ساعتها في التوصّل الى حل سياسي في اليمن. قاتل الداهية صالح العارف بالخريطة القبلية لبلاده مثل كف يده، والصانع لانقسامات حاضرة في اليمن أو حتى مكرّساً لها حتى يستمر في حكمه، بالسلاح مثلما بالتحالفات. وازن الإخوان بالسلفيين، وبالاثنين واجه الحوثيين الذين قاتلهم ست مرات من قبل ثم تحالف معهم إلى ما قبل يومين من مقتله. لعب صالح على انقسامات اليمن والمنطقة، وتنقل برشاقة منقطعة النظير بين تحالفات محلية وإقليمية للاحتفاظ بسلطة أمسك تلابيبها لمدة أربعة وثلاثين عاماً. كان صالح أكثر الرؤساء العرب المغتالين دهاء، نافسوه في دمويته، ولكنهم لم يقدروا على منافسته في تكتيكاته وتحالفاته، وإن لم يعفه ذلك من مصيره. قبل تحالف صالح مع الحوثيين حلفاء إيران، تحالف مع حلفاء السعودية من قبليين و«سلفين» و«إخوان»، وتعالج في مشافي المملكة من عملية اغتيال سابقة. تملص صالح بدهاء من تبعات «الربيع العربي» الزاحف إلى اليمن والمالئ شوارعها بالملايين عبر وساطة خليجية ضمنت له حياته وأسرته، مثلما ضمنت له عفواً عاماً عن كل ما اقترف من جرائم. مشاهد المقتلة الوحشية لعلي عبدالله صالح تكرّس ثارات ودماء وأحقاداً ستستمر في المرحلة المقبلة في اليمن، الذي كان سعيداً. │المصدر - القبس