بسبب حداثة تجربة السجون الاحتياطية في اليمن، فقد أنشئت دون مراعاة للمواصفات والشروط الإنسانية والأخلاقية التي تضعها الأممالمتحدة والهيئات الإنسانية الدولية، وهي في مجملها شروط تتعلق بجوانب المعيشة داخل السجون، وحياة السجناء خاصة الذين يبقون فترات طويلة داخل السجن. ولذلك تم إنشاء سجون احتياطية كأماكن مؤقته، وبمواصفات مستعجلة، لا تليق بالآدميين، ولم توفر الحد الأدنى من الحياة الإنسانية المسؤولة والمفترضة، ولذلك كانت عبارة عن جحور موحشة، لم تزد نازليها إلا اليأس، وانتفاخ الأوداج والتهيئو لواقع جديد في حياة ما بعد السجن. ذلك الاستحداث أثر أيضاً على وضع القوانين الخاصة بالسجون الاحتياطية، فلم يتم حتى الآن وضع قانون خاص بالسجون الاحتياطية يراعي خصوصيتها، ونوعية نزلائها، والقوانين التي تطرقت لها هي عبارة عن مواد موزعة في عدة قوانين كقانون الجزاءات والعقوبات والجرائم وغيرها، وأمام هذا كله تبرز أهمية ملحة وهي عملية إصلاح وإعادة تأهيل السجون الاحتياطية، بما يتواكب مع الشروط الأخلاقية التي تضعها الهيئات الإنسانية الدولية، وبما يتلاءم مع الاحتياجات القائمة، ويوفر الحد الأدنى من مستوى الحياة اللائقة بكرامة الإنسان اليمني الذي يجد نفسه ممتهناً داخل الوطن، ومهانا داخل السجون. في ردها على تقرير الأممالمتحدة عن أحوال حقوق الإنسان للعام 2010م اعترفت الحكومة اليمنية وقتها بوجود كثير من مظاهر الخلل في القوانين المتصلة بحياة السجناء وأوضاعهم، وكذلك أحوال القضاء والقوانين التي يعمل على ضوئها القضاة، والتزمت الحكومة بإصلاح تلك المظاهر، وإجراء إصلاحات عاجلة، من شأنها تفادي الخلل في عمل النيابات والمحاكم، ووضع الشروط الكفيلة بتعزيز استقلالية القضاء وتوفير الأجواء المناسبة للمتخاصمين في الحصول على عدالة صحيحة، لكن منذ العام 2010م توقفت تلك الالتزامات وظلت حبراً على ورق حتى اللحظة. دواعي هذا الحديث هو مستوى الدبلوماسية التي ظهر بها رد الحكومة اليمنية آنذاك على التقرير، والذي يجافي الواقع ولا يلتقي معه إلا بحالات بسيطة يخجل المرء من ذكرها. يقول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المادة(11): كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية، لكن التعامل الذي تتعامل به النيابات العامة عكس ذلك الطرح تماماً، تتعامل معك منذ الوهلة الأولى كمدان ومجرم حتى تثبت إدانتك، وصدق الشاعر العربي أحمد مطر حين قال ولد المواطن مجرماً حتى يدان، والغريب أن معظم بنود القوانين اليمنية تتعامل على أساس هذا المعيار، وفٌصلت لتكون في صالح المدعي، حتى وإن كان على باطل، أما المتهم فيتم التعامل معه كمجرم ومدان منذ اللحظة الأولى لوقوفه في غرف البحث الجنائي، وأقسام الشرطة وصولا إلى النيابات والمحاكم. فالكثير من المتهمين الذين دخلوا البحث الجنائي يتم التعامل معهم كجناة في كل الإجراءات التي اتخذت بحقهم، رغم أن قضاياهم لا تزال في المستوى الأول لإجراءات التقاضي والمخاصمة، فعند تحويل ملفاتهم إلى السجن الاحتياطي تمهيداً لتحويلهم إلى النيابات، يتم نقلهم على سيارات الشرطة مقيدي الأيدي بالكلابيش وكأنهم مجرمون فعلاً، وهذا بحد ذاته كافٍ لإشعار هؤلاء المتهمين بمدى الاحتقار والإذلال الذي يتجرعونه، بغض النظر عن مدى الجرم الذي ارتكبوه ودرجة الجنائية التي وقعوا فيها. في سجن المعلمي وبمجرد وصول السجين المتهم، يتم إدخال بياناته في سجل إلكتروني والتقاط صورة له عن طريق الحاسوب، وهذا الإجراء هو إجراء إداري تقتضيه عملية تسجيل وتوثيق الحالات التي تصل إلى السجن، وإجراء حصر لحركة السجناء، لكن الأمر الغريب هو التقاط صورة للسجين الذي لازال في طور المحاكمة، ولم تثبت إدانته بعد، وهو يرتدي الزي الأزرق الذي يوحي بالكآبة والاشمئزاز والإذلال، وكان من الممكن الاكتفاء بصورة عادية له، خاصة وأن قضيته لاتزال في طور الاتهام، ولا أحد يعلم هل يتم لاحقاً محو تلك البيانات أم أنها تظل قائمة كوصمة عار في جبين كل سجين. الأمر ذاته يتكرر عند عملية نقل للسجناء إلى النيابات ممن لديهم مواعيد مسبقة مع أعضاء النيابات، ففي الليلة السابقة للموعد يتم إبلاغ الأشخاص الذين لديهم مواعيد في اليوم التالي مع ذكر اسم عضو النيابة لكل شخص. في السابعة صباحاً يمر أحد الجنود على العنابر لإيقاظ الأشخاص للتجهيز والتجمع في ممرات السجن تمهيداً لنقلهم إلى النيابات، وقبل عملية الخروج يتم إلزام كل المطلوبين بارتداء الزي الأزرق الذي يميزهم في الخارج وأمام أعضاء النيابات عن باقي الأشخاص كسجناء، ولذلك الزي قصة أخرى. إنه يشبه النطع الذي كان يرتديه من يمثلون أمام آلات الإعدام، بل لا يمكن تسميته زياً، أو اعتباره قماشاً، إنه عبارة عن قطعة من الوسخ المتراكم المترهل من جسد لآخر، مليء بالغبار والأوساخ والمخلفات، وتبدو إليك كتلك القطعة من القماش التي توضع في بوابة مجلس عام ينظف عليها الداخلون والخارجون أقدامهم حتى تمحى ألوانها من الأوساخ والملوثات. تلك القطع المختلفة في مقاساتها وأحجامها لو قدر لها أن تنطق لتحدثت عن صور للمعاناة وأشكال الاحتقار اللامتناهي، التي تعرض لها اشخاص وهم يرتدونها منذ اليوم الأول لاستخدامها. يقذف إليك أحدهم بذلك الزي فتقشعر كل شعرة في بدنك لارتدائها، من حجم الترهل الذي أصابها، ولبسها بذلك الشكل تعبير عن مدى المعاملة التي يتعاملون بها معك، ومستوى كرامتك التي ينزلون بها إلى مستوى تلك القطعة الهالكة، التي لا يعترض على نجاستها أحداً من أعضاء النيابة أنفسهم عندما يشاهدون السجناء أمامهم، وهم أنفسهم كأعضاء نيابة يعتبرون لجان تفتيش حسب القانون على السجون والسجناء والاطلاع على أوضاعهم. وإذا وجدت نفسك مكرها على لبس تلك البدلة -وهي بالمناسبة عبارة عن شميز أو شميز وبنطلون ملتصقين ببعض- فعليك أن تدفع مبلغاً مقابل تنظيفها وكيها وتجهيزها من الليلة السابقة. القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء الصادرة سنة 1977م عن الأممالمتحدة تقول: يجب ان يحظر نقل السجناء في ظروف سيئة من حيث التهوية والاضاءة، او بأية وسيلة تفرض عليهم عناء جسديا لا ضرورة له. هكذا ينص النص الاممي الإنساني، ولكن دعونا هنا نستعرض كيف يتم نقل السجناء في اليمن، ونكتفي بما يحدث في سجن المعلمي الاحتياطي كنموذج. يتجمع السجناء ويتم تقييدهم بأغلال في أيديهم كل شخص على الآخر بمجموعات، ومن ثم يتم حشرهم في سيارة السجن، التي لم تعد صالحة حتى لنقل المواشي والأغنام، لدرجة الإهمال التي تعاني منها ومستوى التدهور الذي تعانيه. يدخلون جميعاً في قفص السيارة المتعفن مقيدين مشدودين إلى بعض، بعضهم واقف والآخر جالس، وتنطلق السيارة في الشوارع بصوتها الكئيب بسرعة جنونية، ومع كل مطب أو توقف، يضطرب السجناء على ظهرها اضطراب الدجاج في أقفاصها، ولا يصلون النيابات إلا وهم في أوضاع إنسانية ونفسية هابطة إلى الصفر. بالنسبة للزي فالقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء الصادرة سنة 1977م عن الأممالمتحدة تقول (2) يجب ان يحظر نقل السجناء في ظروف سيئة من حيث التهوية والاضاءة، او بأية وسيلة تفرض عليهم عناء جسديا لا ضرورة له. نشوان القاضي شاب في بداية عقده الثالث، وهو من أبناء وصاب بذمار، لديه شهادتان جامعيتان، ورصيده الأكبر في سمو طباعه ورفعة أخلاقه التي يتعامل بها مع الآخرين في مكان عمله ومحيط سكنه الاجتماعي. كان الشخص الوحيد الذي عرفني كصحفي منذ الدقيقة الأولى لدخولي السجن، نظراً لحرصه على القراءة ومتابعة الصحف والاطلاع، فهو يعرف الكثير من الصحافيين والإعلاميين من خلال قراءته المنتظمة للصحف، وفي مكانه داخل السجن يحتفظ بالعديد من الروايات العربية والمترجمة والكتب الفكرية والثقافية التي يقرأها وتوافق اهتماماته الثقافية ويتغلب معها على الوقت الطويل داخل السجن. نشوان يحتفظ بطموح كبير، ولديه عزيمة على استكمال حياته وتجاوز الظروف التي حلت به من غير موعد مسبق، يشعرك الحديث معه ومجالسته بمدى الإنسانية والقيم التي يحملها، وفيه تتجسد معاني الرجولة والتضحية والصبر على مكاره الحياة وقوة العزيمة في مواجهتها، ويبدو نشوان متماسكاً صامداً، رغم أن قسمات وجهه لا تخفي تأثيره من حالة الصدمة التي فوجئ بها جراء قضيته التي دخل بسببها السجن. نشوان عنوان للشاب المثابر الصاعد والموظف المثالي، الذي عكس بأدائه الوظيفي المتزن صورة انطباعية لائقة وعالية عن المستشفى الذي كان يعمل فيه، وجذب اهتمام وأنظار المرضى وذويهم والمترددين على المستشفى بطريقة التعامل التي كان يتعامل بها. نشوان حالياً في سجن المعلمي الاحتياطي منذ أكثر من خمسة أشهر على ذمة قضية مالية في مستشفى جامعة العلوم والتكنولوجيا الذي كان يعمل فيه أمين صندوق، وتتضح في قضيته حجم الالتفاف على القانون، ومدى التحايل والتدخل والتغاضي لرجال النيابات والمداهنة التي يتصرفون بها خلافاً لما هو مأمول ومتوقع منهم. خرجتُ من السجن وقصة نشوان تطاردني كشبح لحجم الظلم الذي قد يصطلي به الشخص دون أن يتوقع ذلك. قصته كما يرويها وكما سمعتها منه، تبدو درامية بوليسية، فبعد أن عاد من مدينة عدن مع باقي الموظفين في قسم حسابات المرضى، وبعد غياب عن العمل لخمسة أيام فتح خزنة النقود ووجد الخزنة شبه فاضية، وهنا كانت الصدمة، تواصل بعدها مع موظف الكاميرات ليقوم بمراجعة لقطات الفيديو خلال الفترة التي كان مسافرا فيها، وكانت الصدمة الثانية والأكبر حينما قال موظف الكاميرات إنه بعد انتهاء الشهر لا يستطيع استعادة أي شيء، كان ذلك في بداية شهر ديسمبر الماضي. ولأن المبلغ الذي نهب من الخزنة كان كبيراً ويصل إلى 18 مليون ريال، فلم يستطع مواصلة التغطية عن العجز المالي، واستسلم للواقع، وعرض الأمر على الإدارة المالية ثم المستشار القانوني للمستشفى، وعرض عليه قرائن عن شخص آخر يتهمه بالتورط في سرقة المبلغ، ولكنه لم يعر الأمر أي اهتمام، حسب نشوان، يقول: قال لي لماذا لا تبلغ في حينه، فأجبته لم يكن لدى أي دليل والكاميرات لم تحفظ التسجيل بعد نهاية الشهر، وطوال الفترة وأنا أبحث عن أدله، فقال لي بالحرف الواحد وأمام ضابط أمن المستشفى إن لدينا كاميرات وهمية وكاميرات لا تحفظ وكاميرات لا تلتقط أكثر من متر. بعد هذا الحديث تم تحرير مذكرة من المستشفى إلى قسم 14 اكتوبر القريب منه، وأودع نشوان السجن بعد تلقيه وعدا من المدير القانوني بسرعة إخراجه، والذي رفض في نفس إحالة القضية إلى البحث الجنائي للتحقيق، بحجة أن الموضوع سيطول وسوف يساق جميع الموظفين إلى البحث وهذا سيسيئ للمستشفى. هناك بقي نشوان خمسة أيام، عمل خلالها من خلال متابعين له على نقل القضية إلى البحث الجنائي، وعندما علم المدير القانوني للمستشفى غضب من الأمر وتوعده بالتأديب، وظل هناك نشوان 27 يوما خلف قضبان البحث الجنائي. الغريب أن قسم 14 اكتوبر لم يحقق مع الشخص الذي يتهمه نشوان، وحضر خارج أوقات الدوام للقسم بصحبة أحد أقاربه، وتم التحقيق معه بعجل وخرج بضمانة أكيدة، أما في البحث الجنائي فقد أحضر بأمر قهري، وجرى التحقيق معه، غير أن وجود أخيه في النيابة كعضو كان يحول دون إجراء تحقيق كافٍ وعميق معه. يقول نشوان: أثناء التحقيق معه جاء أحد ضباط البحث وهمس في أذن الضابط الذي يحقق معه "أن هذا أخو زميلنا (ع، ش)" فتم إطلاق سراحه بحجة أنه مريض خاصة بعد محاولة التمارض التي ظهر بها أمام ضابط التحقيق. ومرة أخرى تم إحضاره بصورة قهرية وأودع السجن على ذمة التحقيق، الذي تم معه في غرفة حراس السجن، وكان التحقيق أشبه بمؤتمر صحفي كما يصفه نشوان. في صباح اليوم الثاني- والكلام لنشوان- أخبرني ضابط التحقيق أنه يتعرض لضغوط كبيرة جداً بنقل القضية إلى النيابة، وجاء وكيل نيابة البحث وأخذني مع ذلك الشخص المتهم بسيارته الخاصة إلى نيابة غرب الأمانة، والمفاجئ عند وصولنا النيابة وقبل أن يقرأ العضو الملف قال من هي (أ، ع) قلت له موظفة في المستشفى واطلبها إذا أردتها، وكان كلما دخل على عضو النيابة أحد الموظفين في النيابة يقول للعضو هذا أخو القاضي (ع، ش)، حينها استحضرت نصيحة ضابط البحث بنسيان المتهم الرئيسي (ه، ش)، والتركيز على (أ، ع) وهي موظفة شهدت لنشوان بالبراءة وأكدت شكوكه حول الشخص الآخر. تم إطلاق المتهم الذي يرى نشوان أنه المتورط بضمانة حضورية بينما هو لا يزال داخل السجن منذ خمسة أشهر. نشوان تعرض للحرب النفسية المتواصلة كانتقام منه لطلبه إحالة ملفه إلى البحث الجنائي، وأسوأ تلك المواقف حين قدم عليه المدير القانوني الى السجن ومعه قرار بفصله طالباً منه التوقيع عليه، ولم يجد من أحد مواساة سوى زملائه العاملين الذين يتبرعون نهاية كل شهر بجزء من رواتبهم ويقدمونه لعائلته كي تستعين به على متطلبات الحياة. ولأن نشوان قام بطلب مراجعة الحسابات للتأكد إن كان يوجد خطأ إلى جوار السرقة، فقد شكلت لجنة للمراجعة ومنعت من قبل المستشار القانوني من ممارسة عملها حسب قول أحد أعضائها. تقرير متسلسل يحكي قصص السجناء في السجون اليمنية ، ينشر بالتزامن مع صحيفة «الناس» الأسبوعية