مانشستر يونايتد يضرب موعداً مع توتنهام في نهائي الدوري الأوروبي    منافس جديد في عالم الحواسب اللوحية من Honor    نائبة أمريكية تحذر من انهيار مالي وشيك    "تل المخروط".. "هرم" غامض في غابات الأمازون يحير العلماء!    واقعة خطيرة.. هجوم مسلح على لاعبي فلامنغو    ليفربول يقدم عرض للتعاقد مع نجم مانشستر سيتي بروين    الأسباب الرئيسية لتكون حصى المرارة    العليمي اشترى القائم بأعمال الشركة اليمنية للإستثمار (وثائق)    الغيثي: أميركا غير مقتنعة بأن حكومة الشرعية في عدن بديل للحوثيين    وطن في صلعة    باشراحيل: على مواطني عدن والمحافظات الخروج للشوارع وإسماع صوتهم للعالم    الطائرات اليمنية التي دمرتها إسرائيل بمطار صنعاء لم يكن مؤمنا عليها    لماذا يحكمنا هؤلاء؟    الجولاني يعرض النفط والتواصل مع إسرائيل مقابل رفع العقوبات    دبلوماسي امريكي: لن ننتظر إذن تل أبيب لمنع اطلاق النار على سفننا    تغاريد حرة .. صرنا غنيمة حرب    عيد ميلاد صبري يوسف التاسع والستين .. احتفال بإبداع فنان تشكيلي وأديب يجسد تجارب الاغتراب والهوية    تحديد موعد أولى جلسات محاكمة الصحفي محمد المياحي    إعلام عبري: ترامب قد يعلن حلا شاملا وطويل الامد يتضمن وقف حرب غزة ومنح قيادة حماس ضمانات    البرلماني بشر: اتفاق مسقط لم ينتصر لغزة ولم يجنب اليمن الدمار    أرقام تاريخية بلا ألقاب.. هل يكتب الكلاسيكو نهاية مختلفة لموسم مبابي؟    تعيين نواب لخمسة وزراء في حكومة ابن بريك    وسط فوضى أمنية.. مقتل وإصابة 140 شخصا في إب خلال 4 أشهر    رئاسة المجلس الانتقالي تقف أمام مستجدات الأوضاع الإنسانية والسياسية على الساحتين المحلية والإقليمية    صنعاء.. عيون انطفأت بعد طول الانتظار وقلوب انكسرت خلف القضبان    السامعي يتفقد اعمال إعادة تأهيل مطار صنعاء الدولي    سيول الامطار تجرف شخصين وتلحق اضرار في إب    القضاء ينتصر للأكاديمي الكاف ضد قمع وفساد جامعة عدن    *- شبوة برس – متابعات خاصة    تكريم طواقم السفن الراسية بميناء الحديدة    صنعاء .. شركة النفط تعلن انتهاء أزمة المشتقات النفطية    اليدومي يعزي رئيس حزب السلم والتنمية في وفاة والدته    السعودية: "صندوق الاستثمارات العامة" يطلق سلسلة بطولات عالمية جديدة ل"جولف السيدات"    . الاتحاد يقلب الطاولة على النصر ويواصل الزحف نحو اللقب السعودي    باريس سان جيرمان يبلغ نهائي دوري أبطال أوروبا    شرطة آداب شبوة تحرر مختطفين أثيوبيين وتضبط أموال كبيرة (صور)    محطة بترو مسيلة.. معدات الغاز بمخازنها    شركة الغاز توضح حول احتياجات مختلف القطاعات من مادة الغاز    كهرباء تجارية تدخل الخدمة في عدن والوزارة تصفها بأنها غير قانونية    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الحاج علي الأهدل    الأتباع يشبهون بن حبريش بالامام البخاري (توثيق)    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض رسوم جمركية على بوينغ    وزارة الأوقاف تعلن بدء تسليم المبالغ المستردة للحجاج عن موسم 1445ه    خبير دولي يحذر من كارثة تهدد بإخراج سقطرى من قائمة التراث العالمي    دوري أبطال أوروبا: إنتر يطيح ببرشلونة ويطير إلى النهائي    النمسا.. اكتشاف مومياء محنطة بطريقة فريدة    دواء للسكري يظهر نتائج واعدة في علاج سرطان البروستات    وزير التعليم العالي يدشّن التطبيق المهني للدورات التدريبية لمشروع التمكين المهني في ساحل حضرموت    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة العربية كحالة أمن
نشر في الخبر يوم 04 - 07 - 2014

في معظم الأقطار العربية، يستطيع معظم المواطنين –مهما اختلفت خلفياتهم واهتماماتهم– أن يعدّ لك معتقلًا واحدًا على الأقل تخصصه السلطة لمعارضيها وربما للذين يقدمون نصحًا وطنيًّا صادقًا أويدلي برأيه في مسألة عامّة تعلوعن الحدّ المسموح به. بينما في العالم الغربي وغيره، لا تظهر هذه الحالة إلا في أفلام تعرضها السينما عن القرون الوسطى في روما أوأثينا أوالشرق.
يمكن القول أيضًا إن رحلة الدولة العربية الحديثة من بعد نشوئها هي "رحلة البحث عن الأمن"، الأمن الوجودي الذي يحكم مسألة وجود الدولة من عدمه. هذا البحث عن الأمن يعني ضمنًا "السعي إلى درء الخطر". في الواقع، لا تشير أيّة دولة عربية إلى أيّ عدوخارجيّ يُهدّد أمنها، بل إنّها تبذل الكثير من الجهد في السعي إلى كشف هذا الخطر داخل حدودها وبين رعاياها.
ومن أجل هذا النوع من الأمن، فإنّ الدّولة العربيّة تقدّم نفسها كأكبر منتهكٍ لحرّيّة مواطنيها داخل حدودها؛ الأمر الذي يعني أن الحريّة في مثل هذه الأقطار مسألة سياسية بامتياز قبل أن تكون وجودية أوحتى دينية. إن ممارسة الحكم السياسي من خلال (شخص الدولة) هي التعين الأوضح والأشهر للسلطة في حياتنا، بل قد تكون هي المعبر لممارسة سلطان روحي وأيديولوجي (قوة ناعمة) تستخدم فيه السلطة موارد معنوية ومادية تعيد بها إنتاج ذاتها وتكريس نفوذها. نذكر جميعا أن الأمويين دعموا ظهور الجبرية الأولى (حيث يتنصل الإنسان من نتائج أفعاله بالحتمية والجبر)، بل وشنّوا حربًا على الصوت العقلاني الحرّ في عرض عقيدة الإسلام والتي ظهرت بوادره على يد: الجعد بن درهم، عمرو بن عبيد وغيلان الدمشقي، وغيرهم.
يقول الجابري راصدًا تقدّم السلطة إلى ميدان الثقافة: "وإذا كانت الثقافة، أية ثقافة، هي في جوهرها عملية سياسية، فإن الثقافة العربية بالذات لم تكن يومًا من الأيام مستقلة ولا متعالية عن الصراعات السياسية والاجتماعية، بل لقد كانت باستمرار الساحة الرئيسة التي تجري فيها الصراعات. إن الهيمنة الثقافية كانت النقطة الأولى وأحيانًا الوحيدة المسجلة على جدول أعمال كل حركة سياسية أو دينية، بل كل قوة اجتماعية تطمح إلى السيطرة أو تريد الحفاظ عليها". ومن أجل الأمن تقوم الدولة العربية بمأسسة الفُتيا وتوجيه الثقافة.
ولذا نسأل: ما حكاية الدولة العربية الحديثة وهي تغترب عن مجتمعها وتظهر من أجل أمنها كأكبر مهدد لحرية مواطنيها (بقوتها المادية بالذات)، بينما تعتبر الدولة في الغرب نفسها مسؤولة عن صون هذه الحريات ورعايتها؟
عن السلطة
عقلانية الإنسان دعته إلى البحث عن النظام والانضباط في حياته لجعلها أكثر إنتاجية وأقل فوضى. في الجانب السياسي أدى ذلك لفرز الناس لطبقتين: حكام ومحكومين. ليس من المعقول أن يكون الجميع حكامًا، وليس من المعقول أن يكونوا جميعًا محكومين. تنبه لذلك شاعر عربي قديم حين نظم: (لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة لهم إذا جهالهم سادوا).
للسلطة (أي سلطة) حدود ثلاثة:
1- آمر (حاكم): له الحق/الشرعية في إصدار أمر إلى مأمور/محكوم ما.
2 – مأمور (محكوم): عليه واجب السمع والالتزام.
3 – وسيلة الاتصال بينهما (أمر): وغالبًا ما يكون التزامًا بسلوك ما (سياسي، اقتصادي، خدمي..) يرى الآمر أن تطبيقه يعود بالنفع للصالح العام.
ولأجل نجاعة هذه السلطة واستقرارها وخدمتها للصالح العام، فنحن بحاجة إلى اعترافين متبادلين بين طرفي هذه السلطة (الآمر والمأمور):
أولًا: اعتراف من الطرف الأول (الآمر) بأن ما يصدر منه من أمر للطرف الثاني (المأمور) إنما حصل له من حقّ شرعي فيه. هذا الحق تطور وصار هو التفويض الممنوح للحاكم (الآمر) من قبل المأمورين (المحكومين) بأن يحكمهم عبر آليات ومؤسسات معينة (أصل فكرة الديمقراطية).
بالنسبة للآمر (الحاكم)، الموضوع ليس مقتصرًا على هذا الحق، بل يجب أن يمتلك الحاكم قدرة تجعل سلطته ذات معنى وفعل حقيقيّ يشعر به الناس وحضور في حياتهم لصالح حياتهم وليس مجرد سلطان رمزي (قد يُعبر عنه بسيادة الدولة الوحيدة على أرضها). وحتى لا تتحول السلطة إلى تسلط، لا بدّ أن يعترف الحاكم (صاحب القدرة الآمرة) بأن الطرف الواقع تحت سلطته (المأمور أو المحكوم) يتمتع بالحرية وينقاد لأوامره مختارًا؛ فهو يختار لأنّه حر. على العكس من السلطة (القدرة الآمرة) في حالة التسلط التي تنكر على المأمور حقّه في الاختيار، بل ربما تعتبره كشيء منزوع الإرادة والحرية.
ثانيًا: اعتراف من الطرف الثاني (المأمور) بأحقية الطرف الأول في إصدار الأمر وتعهده بالتنفيذ وأن لا يكون اعتراضه –إن وجد– إلا تحت سقف النظام العام (المتفق عليه سلفًا) وعبر آلياته ومؤسساته. من الطبيعيّ أن فطرة الإنسان حين يكون مأمورًا ستقوده إلى هاجسين اثنين:
الهاجس الأول: عن مصدر شرعية السلطة الحاكمة في ممارسة الحكم، أي عن تبريرها. لماذا أصبح هذا الطرف بالذات هو صاحب الحق في إصدار الأمر وليس أنا؟ في التاريخ العربي تفاوتت مبررات منح الشرعية لجهة ما أو تبرير سلطة قائمة لشرعيتها، فمن التقديم النبوي للإمامة (أبو بكر) إلى المواكلة الحسنة والمشاربة الجميلة (معاوية)، إلى إمام الرضا من آل بيت محمد (العباسيين).
الهاجس الثاني: مدى ونطاق هذه السلطة. هل يحقّ لهذه السلطة حتى بعد نيلها لشرعية ما أن تأمرني بإنهاء حياتي مثلًا أو تنهيها هي بنفسها أو تأخذ من مالي ما شاءت أو تمنعني من التنقل وتقيد حريتي... أم أن لذلك سقفًا محددًا؟
تجاوزت الأمم التي حازت بنفسها على الديمقراطية إشكال المسألة السياسية (أم المسائل) بأن جعلت المحكوم (متلقي الأمر والخاضع للسلطة) هو مانح الشرعية ونازعها؛ ولهذا تتم بشكل دوري هناك ما يشبه الأعراس للديمقراطية تحضرها شعوبٌ عربيّة متابعة فقط. وتقام لأجل ذالك هناك المؤسسات والأجهزة (الادعاء العام والقضاء مثلًا) التي تُعنى بفحص ومعاينة مدى أحقية هذا الحاكم بهذا الحق في ممارسة السلطة وإصدار الأمر ومطالبة العموم بالالتزام والتنفيذ. يُضاف إلى ذالك أن للمحكومين (عبر الأحزاب المعارضة والنقابات المهنية ووسائل الإعلام المستقلة..) الحق في مساءلة هذا الحاكم على الملأ وأمام الناس.
إلّا أن الحالة العربية الراهنة سياسيًّا طالما تذكر بمحطتين سوداويتين (بمقياس الحاضر) في الفكر السياسي. أعني الإيطالي نيكولا ميكافيلي، والإنجليزي توماس هوبز، خصوصًا إذا ما تمّ تجاهل التطورات التي أعقبتهما.
نيكولا ميكافيلي.. (الأمير) قويًّا مخادعًا
كان ماكيافيلي (1469–1527) هو الآخر ابن واقعه وزمنه وتجربته. لقد كتبَ ماكيافيلي كثيرًا ودوَّن من أجل إيطاليا التي مزقها الضعف والانقسام. لقد هاله ما أصاب بلاده وأراد أن يقدم لها ما كان يظنه طوق النجاة لها. كتب ماكيافيلي كتبه الأشهر (الأمير) في عزلته بعد حياة حافلة بالحركة والسياسة والدبلوماسية وأهداه إلى الأمير لونرزودي ميديتشي حاكم فلورنسا وكأنه يقول له دونك هذا الكتاب إنّه سيف في إحدى يديك ودرع في اليد الأخرى.
و(الأمير) سِفر صغير يتنوع الحديث في فصوله من "أنواع الإمارات" إلى "أنواع الجيوش" إلى الدعوة لتوحيد إيطاليا.
يقول ماكيافيلي في القسوة والرحمة والقسوة في شخص الأمير/ السياسي: "لذا يجب على الأمير أن لا يخشى الاتصاف بالقسوة بدعوى الحفاظ على إخلاص رعاياه ووحدتهم؛ لأنه بتقديم أمثلة قليلة يستطيع أن يثبت للناس أنه أشد رحمة من أولئك الذين من فرط رحمتهم يفسحون المجال لشيوع الفوضى التي تنجم عنها كل أنواع الجرائم والنهب".
أما حين المفاضلة بين المحبة والمهابة في قلوب الناس فيقول: "وجوابي على ذالك أن الإنسان يود لو يكون محبوبًا ومهابًا في الوقت نفسه، لكن مع استحالة الجمع بين كلتا الفضيلتين أرى أن الأكثر أمنًا بالنسبة إلى الأمير هو أن يكون مهابًا على أن يكون محبوبًا".
كما إنه ينصح الأمير بأن لا يثق بأقوال الناس في حبه والإخلاص له: "فالأمير الذي يثق في أقوالهم دون أن يتخذ احتياطاته اللازمة إنما يحكم على نفسه بالدمار، لأن الصداقات التي تكتسب بالمال وليس بعظمة ونبل الضمير يتم شراؤها إلى حين، ولكن لا يمكن امتلاكها إلى الأبد، ومن ثم يتم تتضح هشاشتها عند أول محك يعترضها. والناس عادة لا يترددون في الإساءة إلى الأمير المحبوب بقدر ترددهم في الإساءة إلى الأمير المهاب. ومرد ذلك هو أن الحب يكون مؤيَّدًا بالتزام سرعان ما يتخلى عنه البشر لسوء طويتهم عندما يجدون من مصلحتهم الشخصية القيام بذلك، لكن المهابة تكون مؤيَدة بخوف من العقاب لا يزول أبدًا".
أما حين يكون الأمير بين جيشه وقوات،ه فإن ماكيافيلي ينصحه: "من الضروري جدًّا أن يتصف بالقوة، لأنّه من دونها لن يتمكن من الحفاظ على وحدة جيشه واستعداده للحرب". أما حين يدخل الأمير في صراع، فيشير عليه ما كيافيلي بالتالي: "هناك إذن طريقتان للصراع: إما بواسطة القوانين أو بواسطة القوة. الطريقة الأولى من شيمة الإنسان بينما الثانية من طبيعة الحيوان، وما دامت الطريقة الأولى لا تفي بالغرض دائمًا، فإنه من الملائم اللجوء إلى الوسيلة الثانية. لذلك يجب على الأمير أن يجيد استعمال أسلوبيْ الحيوان والإنسان على حدٍّ سواء"!.
ويقول داعيًا إلى المكر والإرهاب: "لذا ينبغي على المرء أن يكون ثعلبًا للتعرّف على مكامن الشَرَك، وأسدًا لإرهاب الذئاب". أما الوعد والميثاق، فليس على الأمير –حسب ميكافيلي– الوفاء به: "ومن ثمّ، فالأمير العاقل لا يستطيع كما لا يجب عليه أن يلتزم بوعد قد يعود عليه بالضرر...
لقد كان الأمراء دائمًا يجدون الذرائع دائما لتبرير نقض العهود". وماكيافيلي يدعو الأمير لإخفاء عيوبه وسقطاته مستغلًّا سذاجة معظم الناس: "لكن من الضروري أن يتعلم المرء بالموازاة مع ذلك كيف يخفي هذه الطبيعة، وكيف يكون مخاتلًا متصنعًا بارعًا، فمن فرط سذاجة الناس وانصياعهم للضرورات الراهنة ترى العديد من المخادعين يجدون من تنطلي عليهم أحابيل الخديعة".
ويدعوه للتظاهر أيضًا وبالاستعداد للانقلاب على ما تظاهر به: "إنه من الأفضل أن يتظاهر على الأخص بالرحمة والوفاء والإنسانية والنزاهة والتدين، وله كذلك أن يتصف بجميع هذه الفضائل حقيقة شريطة أن يحافظ على درجة عالية من التأهب اللازم للتخلي عن كلّ تلك الصفات والعمل بضدها ضد الاقتضاء". ويبرّر ماكيافيلي مثل هذا التظاهر قائلًا: "فعمومًا، يُصدر الناس أحكامهم من خلال ما تراه أعينهم وليس ما تلمسه أيديهم، بحكم أنّهم جميعًا ينعمون بحاسة البصر، لكن القليل منهم من يستطيع تلمس الحقائق بنفسه. وعليه فالجميع يرون مظهرك، لكن القليل هم الذين يستطيعون إدراك حقيقتك".
كذلك يدعو ماكيافيلي إلى بناء الجيوش وغزو العدو وتحقيق النصر وذلك في معرض حديثه عن الأعمال التي تجلب التقدير للأمراء، وبسبب ذلك يثني على ملك أسبانيا فرناندو الذي طرد العرب بقسوة من غرناطة: "ولنا في وقتنا الحالي مثال في شخص فرناندو دي أراغونا ملك أسبانيا الحالي؛ فهو يستحق لقب الأمير بامتياز... ففي بداية حكمه هاجم غرناطة مدشنًا بذالك الأساس الذي ستنهض عليه دولته لاحقًا".
يُحسب لهذا السياسي الإيطالي أنه استمد أفكاره وتصوراته من التاريخ البشري والتجربة السياسية المحضة (بذرة العلمانية سياسيًّا) وليس من تعاليم اللاهوت الكنسي المفارقة للواقع، فبثّ بذلك روح المواطنة حيث الولاء للوطن/الأرض، ووضعَ لبنة كبيرة في طريق توحيد إيطاليا. لكن يُحسب عليه أيضًا أنه حوّل الدولة إلى كائن مخيف من القوة والخديعة بشكل نزع عنها كل أخلاقية تجاه مواطنيها مما يجعل شرعيتها الأخلاقية محلّ تساؤل وشك كبيرين.
توماس هوبز.. الحاكم بسلطة مطلقة
قد تبدو واضحة هي الظروف التي أحاطت بالفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588–1679) والتي أثّرت عليه في عمله السياسي الكبير (اللفياثان). هذا العمل الذي أطلقه هوبز من تصوره التشاؤمي عن طبيعة الإنسان وسلوكياته العدوانية الغرائزية تجاه محيطه البشري؛ الأمر الذي أدى بهوبز إلى صرامة في تكريس سلطة مطلقة (شمولية بلغتنا السياسية اليوم) يعتقد أن بها تتحق مصلحة الأفراد وتتم حمايتهم من بعضهم.
ففي بداية القرن السابع عشر اشتدّ الصراع في المملكة الإنجليزية بين التاج والبرلمان ثم تطور لاحقًا إلى حرب أهلية. كان وقف هذا الصراع والبحث عن أسس استقرار سياسي متين تشغب بال الفيلسوف الإنجليزي. أضف إلى ذالك أنّ هوبز في شبابه اشتغل بترجمة أعمال تروي عن الحرب البلوبونيزية التي دارت رحاها بين المدن اليونانية. لا شكّ أن هذه الخلفية بظرفيها (الإنجليزي المعاصر واليوناني التاريخي) ستلقي بظلالها على فكر الفيلسوف الإنجليزي وتصوره للسلطة التي لا بدّ أن تكون مطلقة على هذه الجغرافيا من الأرض أو تلك؛ حتى تعيد النظام وتمنع الإنسان من الطيش وخلق الفوضى باسم الحفاظ على بقائه.
رأى هوبز أن الحالة الطبيعية الأولى للمجتمعات هي حرب الجميع على الجميع، حيث إن كلّ واحد مسكون بهاجس البقاء والخشية على وجوده من تربص الآخرين؛ فيلجأ للقوة والعنف من أجل أن يردعهم، وحينها تكون الفوضى. ومن الطبيعيّ في حالةٍ كهذه، أن تنعدم منظومة القيم التي تُعرف كالظلم والعدل والإنصاف والاعتداء... فلا صوت حينها يعلو على صوت غريزة البقاء؛ مما يعني حينها أنّ لكلّ واحد أن يرفع صوته عاليًا مخبرًا عن حقه في إرضاء غرائزه ورغباته مهما كانت تقوم على حساب الآخرين.
من الواضح أن عقلانية الإنسان لا تتحمل حالة الاجتماع البشري الأولى كما تصورها هوبز. إنها حياة غير منتجة ولا ذات معنى، بل تحمل فناءَها داخلها. إنّ تبادل الصراع بهذا الشكل مع الآخرين لا يحقّق الأمن للإنسان ولا عيشه لنفسه ولا للأجيال التي ستعقبه. يقترح هوبز أنه بدل أن يتبادل الناس الخوف بهذا الشكل؛ عليهم أن يتبادلوا التنازلات ويبذلونها لحاكم وحيد (فرد أو مؤسسة) صاحب سيادة على هذه الجغرافيا وعلى المجموع البشري الذي يسكنها.
صاحب السيادة هذا ينزع من كلّ واحد الاستجابة لغريزته الأولى في التربص بالآخر والريبة فيه، والنتيجة هي أن يحوز الناس على الحد الضروري الذي يأمنون به على حياتهم. من الواضح هنا أنّهم لا يفعلون ذلك ليتعاونوا مع بعضهم، بل من أجل اتقاء شر بعضهم، وكأنّه عقدٌ (صريح أو ضمني) (مكتوب أو محفوظ في الصدور) يتمسّك به الجميع خوفًا ممّا يهدّد الحياة ويقوض مصالح الناس.
الناس في نظر هوبز يجب أن يقوموا بهذه التنازلات لصالح الحاكم من أجل مصالحهم الخاصة، هذا الحاكم بدوره يستلم مقاليد الحكم بسلطة مطلقة لا يقيدها شيء، وهو يحوز على ذالك ليكون وحده مسؤولًا عن مصالح الناس وأمنهم. فالتعدد هنا قد يعيدنا لحالة الفوضى الأولى. يشبّه هوبز هذا الحاكم لأمر الناس بالوحش الأسطوري (اللفياثان) الذي يملك قوة مطلقة (في إشارة لسلطته المطلقة) وعدم خضوعه لإرادة من خارجه، جسم هذا الوحش الضخم يمثله الجمهور الغفير الذين تعاقدوا ورأسه هو الحاكم المطلق الذي يتنازلون له.
بالرغم من ازدهار الأفكار حول دولة المواطنين الأحرار وللديمقراطية وفصل السلطات وتقييد التنفيذ منها بالقضائي والتشريعي وحفظ الحقوق والحريات العامة، إلّا أن أعمال توماس هوبز في فلسفة السلطة تظلّ أساسية على الدوام.
هل الدولة العربية الحديثة ماكيافيلية هوبزية؟
لم يتوقف الزمن السياسي الأوروبي عند ماكيافيلي وهوبز، بل تقدم إلى الأمام مهذبًا التطرف في رؤية الرجلين للسلطة واقتراحاتهم لممارساتها. فعلى المستوى الفكري تراكمت أعمال الفلاسفة الأوروبيين منطلقة من حاجة الواقع الأوروبي لحل معضلاته السياسية الخانقة، وكان على رأس تلك الأعمال تلك التي مهدت للثورة الفرنسية: العقد الإجتماعي (روسو) وفصل السلطات من أجل تكريس الحرية وصونها (مونتسكيو) ولا وطن دون مواطنين أحرار (فولتير). أما على المستوى الشعبي، فقد كانت الثورة الفرنسية (وصداها في القارة الأوروبية الذي استمرّ حتى منتصف القرن التاسع عشر) ذروة تحول هذه الأفكار إلى قوة مادية غير بها الناس واقعهم.
إن وجود هاجس الأمن وتجلياته في الواقع كما هو في معظم الدول العربية هو الدليل الكافي لإثبات تبني الدولة العربية الحرب على حق مواطنيها في الحرية. وكم تبدو الدولة دون حرية مواطنيها ضعيفة متداعية، وكم تبدو أيضًا مجرّد أداة لهيمنة صريحة.
هذا ليس اتهامًا باطلًا حتى خارج السياق العربي، فهو السلوك المطرد للسلطة منذ أن أقامها البشر في واقعهم ما لم يُقبض على يدها بالقانون الذي يحمي حرية الأفراد. يقول جون ستيوارت مل (1806–1873) في كتابة عن الحرية: "إن الصراع بين الحرية والسلطة هو أحد الصفات الأكثر وضوحًا في أجزاء التاريخ المعروفة لدينا منذ القدم". ويحضر مِلْ الحرية إلى التعين السياسي لها: "كان يُقصد بالحرية الحماية من طغيان القادة السياسيين، كان يُنظر إليهم –ما عدا بعض الحكومات الشعبية في اليونان– على أنّهم في وضع عدائي بالضرورة أو في موضع الخصم من الناس الذين يحكمونهم".
أما عن النضال من أجل الحرية فهو يراه بالدرجة الأولى ضد السلطة السياسية: "كان هدف الوطنيين هو وضع حدود للسلطة التي سيعاني المجتمع من ممارسة القائد لها، وهذا بالتحديد ما قصدوه بكلمة حرية، وقد تم السعي إليها بطريقتين: الأولى من خلال الحصول على اعتراف ببعض الضمانات والتي يُطلق عليها اسم الحريات والحقوق السياسية والتي كان انتهاكها من قبل الحاكم يعد خرقًا للواجب والذي إذا ما انتهكه الحاكم فإن المقاومة المحددة أو التمرد أو العصيان ستكون مبررة. أما الوسيلة الثانية، وهي متأخرة بشكل عام، فهي نقاط المراقبة الدستورية التي أصبحت من خلالها موافقة المجتمع شرطًا ملزمًا لأفعال السلطة الأكثر أهمية". ويتحدث مِلْ عن علاقة الناس بالسلطة التي تحكمهم: "جاء زمن في تطور الشؤون الإنسانية أصبح الناس فيه لا يرون ضرورة طبيعية في وجوب أن يكون حكامهم سلطة مستقلة، مناهضة لهم في المصالح. وبدا لهم من الأفضل –أي الناس– بكثير أن يصبح الحكام المتعددون للولاية مجرد مستأجَرين منهم أو مندوبين لهم يمكن عزلهم وإلغاء صلاحيتهم في أي وقت. بهذه الطريقة فقط، كما يبدو، كان بوسعهم امتلاك ضمان كامل بأن سلطات الحكومة لن تتعرض لهم بسوء يضر مصالحهم".
ويتضح القول أكثر لدى مِل حين يرغب في جعل الناس سلطة على أنفسهم لأنهم لن يطغوا على أنفسهم ولن تنزع إرادتها من ذاتها: "ما كان ناقصًا آنذاك، هو أن يتم تعريف الحكام مع الشعب ووجوب أن تكون مصلحتهم وإرادتهم هي مصلحة الأمة وإرادتها. لا تحتاج الأمة ما يحميها من إرادتها، وليس هناك من خوف من طغيانها على نفسها".
لقد كانت أفكار جون ستيوارت مل أيضًا لحظات هامة في تهذيب وترشيد التصور (الميكافيلي/الهوبزي) عن السلطة، فمِلْ أراد أن يدافع عن الحرية في وجه السلطة بتعينها السياسي (الدولة) وذلك بأن سعى إلى إلغاء الحدود الفاصلة بين سلطة مستقلة مفارقة للجمهور تسوسه بالقوة حسب مصالحها وبين الناس الواقعين تحت حكمها. الفرد كي تتم حماية حريته لدى مل يجب أن يمارس الحكم ليس بشخصه، ولكن بواسطة أشخاص أفراد آخرين، إنها حكومة ذاتية، من ذات الفرد وليست من خارج مفارق له ومستقل عنه.
أما في الزمن السياسي العربي فحدثَ ما يشبه التوقف التلقائي عن لحظتين: ماكيافيلية حيث تمارس الدولة (شخص السلطة) القوة والخديعة ضد الجمهور العام من مواطنيها وليس ضد خصومها والنافذين فيها (لاحظ أن ماكيافيلي امتدح الأمير الأسباني إذ حارب العرب)، ولحظة ثانية هوبزية حيث تصر الدولة العربية كعضو غريب عن الأمة والمجتمع على سيادة داخل حدودها ضد مواطنيها (وليست ممثلة لهم) تصل هذه السيادة حد الغرائبية (في بعض البلدان العربية تحتاج لمراجعة المخابرات حتى تزاول نشاط تجاري)، ولكنها تتنازل عن كل هذه السيادية العظيمة إذا ما تعلق الأمر بما يُسمى التزامات دولية (معبر رفح بين مصر وغزة مثلًا).
تغترب الدولة العربية الحديثة عن المجتمع والأمة في الوطن العربي، ثم تتضخم أمنيًّا لتلاحق رفض الأهالي ومقاومتهم لها أو حتى اعتراضهم على سياساتها. الأمن في معظم الدول العربية ليس أحد مسؤوليات هذه الدول تجاه السكان، بل الأمن هو أداتها الأولى من أجل البقاء في وجه السكان. تبقى الدولة العربية بالأمن، وتعيد إنتاجه في وجه الناس؛ لِتَبْقَى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.