هذا التقرير التحليلي عن اليمن أكثر من "بانوراما مختصرة" بالمعنى الواسع, وهو بأكثر من معنى عميق في الطرح, دقيق في الرصد على نحو يجذب القارئ والسياسي والمهتم بالأوضاع والمستجدات في اليمن. التقرير كتبه فرناندو كارفاخال, الذي هو في نظر الكثيرين أرقى محلل غربي للأوضاع في اليمن, وهو باحث وسياسي, لديه أكثر من 12 عاما من الخبرة جراء العمل الميداني في اليمن ومتخصص في السياسة اليمنية والعلاقات القبلية. لم يكن نجاح مؤتمر الحوار الوطني الشامل, يمثل انتصارا للرئيس هادي, لكنه انعقد من أجل التخطيط لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة السياسية. كما أن هادي لم يكن هو ثاني رئيس للجمهورية الموحدة منذ 24 عاما لكنه أول رئيس غير زيدي عرفه شمال اليمن على الإطلاق. وإلى ما قبل 2012, كان هنالك إجماع غير معلن, بين القوى المتصارعة على هادي كمرشح مناسب وبديل لمنصب رئيس الجمهورية خلفا للرئيس السابق صالح, وهذا الإجماع يعود تفسيره إلى أن كل طرف من الصراع كان يدرك سهولة ميل هادي إليه والوقوع تحت رغباته. حل هادي في الشمال, كشخصية قيادية انشقت وفرت خلال أحداث يناير 1986 الدامية في الجنوب. وخلال حرب صيف 94 ضد الجنوب عين صالح هادي وزيرا للدفاع, وفيما بعد ذلك تم تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية اليمنية الموحدة, لكي يضمن صالح الالتزام بمبادئ وأساسيات دولة الوحدة التي صاغها دستور 1990, تاريخ قيام الوحدة. استمر هادي ما يقارب 18عاما نائبا للرئيس, وخلال تلك السنوات لم يسجل هادي موقعا يكسبه الشكر والتقدير في أوساط القادة الجنوبيين. ومع أن هادي جاء إلى منصب نائب الرئيس بطريقة تقاسم السلطة بين شمال اليمن مع جنوبه إلا أن الرئيس السابق ظل مسيطرا بشكل كامل على صلاحيات السلطة. حاليا من الواضح أن رفاق هادي الجنوبيين لا يعترفون بالرجل كممثل شرعي لهم, وفي نفس الوقت تنكشف صورة حزب المؤتمر الشعبي العام بقياداته وقواعده والتي تنظر إلى الرجل كخائن: الرجل الذي أعلن الخضوع التام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. الرئيس السابق صالح, يضع نفسه في الوقت الحالي كزعيم خالد لحزب المؤتمر, وهي طريقة للبقاء داخل السلطة وممارسة الضغط على هادي وعرقلة مسار الفترة الانتقالية. وعلى ضوء الحقيقة الملموسة فالعديد من الموالين بالإضافة إلى الجنوبيين يرجعون إلى هادي كرجل يفتقد الوطن مثلما يفتقد الحزب. في دولة الجنوب السابقة شغل هادي المناصب الثانوية, أما الجمهورية اليمنية الموحدة فلم تضمن له الشرعية الكاملة كرئيس جديد للبلد. على مدى سنوات جمهورية الجنوب -اليمن الديمقراطية الشعبية- ظل هادي يؤدي دور الشخصية القيادية التابعة أمام الشخصيات والقيادات الجنوبية الكبيرة, أمثال الرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض, وحيدر أبو بكر العطاس. وبعد حرب صيف 94, استمر هادي على نفس المنوال في عهد الرئيس السابق صالح -كشخصية قيادية تابعة- لا ترقى إلى درجة شخصيات أخرى من شخصيات وأقطاب ومشايخ الشمال, رغم أنه يشغل منصب نائب الرئيس في جمهورية موحدة. أحداث السنة الأولى من فترة الرئيس الانتقالي هادي توجهت سياستها نحو ما يقوي سيطرة هادي الفعلية على المؤسسات الحيوية ومؤسسات الدولة المهمة. ولم يتمكن هادي من إحراز الانتصارات الكبيرة وتقديم نفسه كرئيس نافذ إلا ببدء تدشين مؤتمر الحوار الوطني الشامل. لأكثر من خمسة عقود ظلت مشاكل اليمن مشاكل هيكلية تضرب جذورها بعمق, وتحملها ملفات مهملة, فاقدة للحلول, وطوال هذه الفترة التاريخية لاقى مشروع بناء الدولة في اليمن فشلا ذريعا. اعترت اليمنيين الكثير من الغبطة حال الشعور بالانتقال من حكم علي عبدالله صالح والبدء في عملية التحول, لكن ذلك الشعور سرعان ما تبدد, ولا شيء الآن أكثر من الاعتراف المحلي والدولي من الفشل في تعزيز أسس هذا التحول. نصوص الاتفاق على نقل السلطة لم يسمح لصالح فقط من البقاء في الربيع العربي، لكن لا يزال حزبه يتقاسم السلطة مع المعارضة التي يقودها الإسلاميون وأحزاب اللقاء المشترك، تحت التقاسم 50% لكل من الطرفين. لا يزال حزب المؤتمر الشعبي العام -حزب صالح- أيضا يحتفظ بالأغلبية الحاكمة في البرلمان اليمني، الذي تم انتخابه لآخر مرة في العام 2003، لكن ما يمكن التأكيد عليه مقابل ذلك أن الرئيس عبدربه منصور هادي، الأمين العام لحزب المؤتمر، ليس لديه الدعم الكامل من جانب حزبه، ولا من الناخبين. بين انتخابات هادي وبدء مؤتمر الحوار الوطني في 18 مارس 2013، اجتاح اليمن إعصار من الصراعات السياسية التي تحاول البقاء على قيد الحياة. وقد بدا أن الاتفاق على نقل السلطة كان سلميا نسبيا لنقل السلطة من صالح، في الواقع، حدثت حلقة بسيطة في نقل السلطة وإعادة التوازن داخل النظام الحاكم. ولكن من حيث القيمة الحقيقية، لاتفاقية نقل السلطة, لا يزال "النظام القديم" يحكم اليمن. الواضح أن نفس الشركاء والتوجهات التي حكمت اليمن قبل 23 نوفمبر 2011، عندما تم التوقيع على مبادرة مجلس التعاون الخليجي، لا يزالون يتقاسمون مناصب الحكومة الائتلافية منذ ديسمبر 2013 - الإصلاح وشركاه في اللقاء المشترك وحزب المؤتمر الشعبي العام. هادي نائب الرئيس السابق كان قد خدم في هذا المنصب لمدة 20 عاما تقريبا؛ وفي تلك الفترة كان البرلمان ومجلس الشورى تحت سيطرة صالح؛ إضافة إلى أن رئيس مجلس الوزراء والوزراء كان يختارهم صالح على طريقته من بين النخبة السياسية. لقد هيمن مشروع "إعادة هيكلة" القوات المسلحة والأمن على معظم شهور العام 2012 حتى وصل أخيرا في وقت مبكر من العام 2013, إلى إزالة أهم قطبين في المؤسستين هما علي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى مدرع، وأحمد علي عبدالله صالح، قائد الحرس الجمهوري. اللواء علي محسن الأحمر ظل الذراع اليمين لحكم صالح، حتى التحق أخيرا بالانتفاضة في وقت تلا يوم الجمعة من مجزرة الكرامة مارس 2011، في حين كان قد تم التخطيط مسبقا لوضع أحمد علي لخلافة والده رئيسا للبلاد. إعادة عملية هيكلة الجيش سارت تحت إشراف ورعاية سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكية في صنعاء, وفي نظر المجتمع الدولي والدول الراعية لمبادرة انتقال السلطة كانت هذه الهيكلة واحدة من أهم الأولويات التي تضمن انتقال السيطرة والقيادة بشكل أوسع إلى قبضة الرئيس الجديد هادي. كلا الطرفين, صالح واللواء علي محسن الأحمر ظلا يحتفظان بالتأثير الكبير والهيمنة على وحدات الجيش من خلال مجموعة من كبار القيادات العسكرية من الضباط والشبكات القبلية. لا يزال جهاز المخابرات أيضا يلاقي استقطابا، وعلى الرغم من قرار هادي بإزالة رئيس مكتب الأمن القومي (جهاز الأمن القومي)، علي الآنسي؛ ونائبه، عمار محمد صالح، ابن شقيق الرئيس السابق؛ وشقيقه يحيى محمد صالح، نائب قائد قوات الأمن المركزي في وزارة الداخلية. وقد كانت خطة هادي للسيطرة على هذه الخدمات الحيوية هي من تضمن البقاء السياسي لهادي وعلاقاته مع المملكة العربية السعودية والولاياتالمتحدة. الخطوة الأولى، غير متوقعة والتي تعد واحدة من الأولويات الأساسية لهادي، إزالة الأخ غير الشقيق لصالح، اللواء محمد صالح الأحمر، قائد سلاح الجو. جاءت تحركات هادي بسرعة لتأمين التفوق الجوي الاستراتيجي، حتى ولو لزم ذلك أن يهدد بحرب شاملة مع الجنرال العنيد محمد الأحمر الذي رفض أن يكون الضحية الأولى للفترة الانتقالية. وبعد فترة وجيزة أذعن الجنرال لقرار هادي وجاءت أوامر، رئاسية للتفتيش العام في وحدات التسليح للقوات المسلحة. في مركز مشروع الرئيس الانتقالي هادي ظهرت محاولات متعددة لعكس ربع قرن من هيمنة النخبة القبلية العسكرية الشمالية. مع ذلك ظلت تلك المحاولات لا تمنحه موقعا للإشادة من رفاقه الجنوبيين. لم تكتمل تماما مهمات هادي الصعبة، فقد استبقته عدد من التهديدات لاحتكار الإستراتيجية الجوية -سلاح الطيران- لكن سرعان ما أبدا هادي تهديدات مماثلة تقضي بنقل سلاح الجو من قاعدة الديلمي الجوية في العاصمة صنعاء إلى القاعدة الجوية في منطقة العند بمحافظة لحج. وتعتبر هذه الأخيرة أكبر قاعدة جوية للإتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة. ومن خلال وجود شقيقه ناصر منصور هادي، الذي أوكل هادي له مسؤولية ترؤس جهاز الأمن السياسي في المناطق الجنوبية، والجنرال محمود الصبيحي، كقائد للمنطقة الجنوبية, اطمأن هادي في تأمين الأوضاع في محافظات الجنوب والتي ستمنحه فرصة كافية للتعامل مع الأوضاع الصعبة في العاصمة صنعاء. خدمت الأحداث في الأشهر الاثني عشر الأولى من فترة هادي المؤقتة تدعيم سيطرته على السلطة التنفيذية والمؤسسات الحكومية الحيوية. كما منحت هذه الفترة هادي عددا من الانتصارات، وتكريس دور فريد في منصبه كرئيس. وعندما حان الوقت لإطلاق مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي طال انتظاره, لم يكن التدشين لهذا المؤتمر فقط أداة هادي لتوسيع سلطته وتهميش منافسيه من النخبة، لكنه كان أيضا مصدر فخر لمبعوث الأممالمتحدة الخاص جمال بن عمر – بطل مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي عام 2011 التي ضمنت نقل السلطة سلميا في اليمن. برعاية ودعم الأممالمتحدة ودول مجلس الخليج العربي تم افتتاح مؤتمر الحوار الوطني في العاصمة اليمنيةصنعاء, وقد أخذ جمال بن عمر قيادة الدفة في الوقت الذي ساد التوتر الشديد ووصل إلى أعلى نقاطه, بين الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية وبين المبعوث الاممي بن عمر. الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية خصوصا الولاياتالمتحدة لم تكن سعيدة بطريقة اتجاه العملية. لذلك نشبت التوترات الشديدة بين الدول العشر وجمال بن عمر وتحديدا منذ منتصف شهر يونيو 2011, عندما كانت عملية الاتفاق على نقل السلطة وبنودها المحددة قد أصبحت من وجهة نظر المبعوث الاممي الذي رأى ضرورة ذلك حسب الظروف الآنية التي تمر بها البلد, وهو ما جعل هذا الموقف يرسم صعوبات وإمتعاضات من طرف المملكة العربية السعودية والولاياتالمتحدة, الذين رأوا ضرورة التزام جمال بن عمر بالمسار المرسوم للعملية. مثل هذا التوتر الذي ساد الحكومات الممتعضة هو من يحدد ويكشف جانب الصراع, إلا أن ذلك لم يؤثر على موقف بن عمر في القيام بصلاحياته في صناعة القرارات فيما تراه الأممالمتحدة هو المناسب. الفشل في تجنب أزمة إنسانية على نطاق واسع يمتد من حكومة مختلة إضافة إلى سوء الإدارة والتركيز من قبل الشركاء الدوليين. الحكومة الائتلافية المكونة من حزب المؤتمر الشعبي العام- حزب علي عبدالله صالح وأحزاب اللقاء المشترك المعارضة، بزعامة التجمع اليمني للإصلاح، أظهرت الكثير من الإخفاقات. وقد أكد كلا الجانبين منذ ديسمبر كانون الأول 2011 على أن المنافسة على حساب اليمنيين لا تخدم أي طرف. وبسبب الصراعات السياسية المستمرة تعرقل مسار الإفراج عن الأموال التي التزمت بها الدول المانحة منذ عام 2012. الأموال المحدودة المتعهدة من جانب المانحين لم تحقق الأثر المتوقع على الاقتصاد، وإلى الوقت الحالي من الواضح عدم تلقي اليمنيين العاديين أي فائدة من 8 مليارات دولار أمريكي, هي إجمالي تعهدات الفترة الانتقالية. وعلاوة على ذلك، فقد طغى على فترة هادي في الحكم سيل من الصراعات السياسية المشتعلة بفعل المتمردين الحوثيين في الشمال، والممثلين الجنوبين وأعضاء حزبه المؤتمر الشعبي العام. ونتيجة للواقع والحاصل على الأرض، فالكثير من الموالين لهادي إضافة إلى الجنوبيين, الجميع يمارس الرجوع إلى الرئيس كرجل "بلا وطن وبلا حزب". رفاقه الجنوبيون لا يعترفون به ممثلا لهم، وحزب المؤتمر الشعبي العام يرى أن هادي خائنا: الرجل الذي اعترف بسيادة اليمن لطرف الأممالمتحدة. وكانت اليمن قد وضعت تحت الفصل السابع للأمم المتحدة في فبراير شباط عام 2014. فيما هدد حزب المؤتمر الشعبي العام في أواخر أغسطس عام 2013 بالإطاحة بهادي من منصبه في الحزب كأمين عام للحزب، وتتابعت الحملات الإعلامية التشويهية التي استهدفت صورة الرئيس والمبعوث الاممي بن عمر على خلفية قرار مجلس الأمن رقم 2140. ويضع صالح نفسه الآن داخل حزب المؤتمر الشعبي العام من أجل الضغط على هادي ومنع انتقال السلطة، الأمر الذي يجعل الرئيس هادي مضطرا للميل إلى جانب حزب الإصلاح أو الحوثيين كقوى موازنة. حزب الإصلاح، الشريك السابق في حكومة صالح منذ عام 1994، تمكن من الحشد لانتفاضة عام 2011 وله حضور فاعل في الوسط السياسي الحالي.. كما أن حزب الإصلاح بوصفه حزبا إسلاميا، هو مزيج من السلفيين، الإخوان المسلمين، والعناصر القبلية ونخبة كبيرة من رجال الأعمال الذين تمكنوا من جمع الطاقات والتحضير لمواجهة صالح في الفترة السابقة. ويبقى أن الخوف من حدوث سيناريو مشابه لما حدث في مصر ترعاه الأطراف المستقلة، والجنوبيون والزيود وبالتالي عزل حزب الإصلاح، حتى قد يصل هذا السيناريو إلى إخراج حزب الإصلاح من داخل صفوف أحزاب اللقاء المشترك. من ناحية أخرى، نرى أن الحوثيين، المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني تحت اسم أنصار الله، يمثلون في الوقت الحالي طرفا قويا, ولا يزال يمارس السيطرة على الأراضي في أربع محافظات شمالية. وقد نجت الجماعة المتمردة -الحوثية- وهي جماعة شيعية من ست حروب مع حكومة صالح، بقيادة اللواء علي محسن. وكثيرا توجه الاتهامات لهذه الجماعة بروابطها المتينة مع إيران. وكان الحوثيون قد امتنعوا في التوقيع على المبادرة الخليجية من عام 2011، لكنهم رغم ذلك انضموا إلى عملية الحوار الوطني الشامل, ويأتي تفسير هذه المشاركة على كونها محاولة في الجهود الرامية إلى تنظيف صورة الجماعة المتمردة. ويبدو من الواضح أن أولويات الحوثيين في الوقت الحالي هي المحافظة على سيادة إقليم صعدة المتاخم للسعودية, إضافة إلى جهودهم الرامية في الحفاظ على الهوية الدينية الزيدية التي يهددها تنامي نفوذ الإسلاميين السنة مثل جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين. * هامش: فرناندو كارفاخال مرشح لدرجة الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكستر في المملكة المتحدة. لديه أكثر من 12 عاما من الخبرة جراء العمل الميداني في اليمن ومتخصص في السياسة اليمنية والعلاقات القبلية. - فرناندو كارفاخال- مجلة فير أوبزرفر –يونيو 2014 *صحيفة الناس