اعتاد المستبدون أن ينتقموا من شعوبهم، حين يأخذونهم بالقوة والقهر والدماء، ليزرعوا فيهم الخوف والجبن، فتلين شعوبهم وتنصاع إلى رغباتهم ونزواتهم الشاذة . الخبرة التاريخية للمستبدين تبادلونها بينهم للمزيد من الإبداع في العمل الاستبدادي، والتفنن في إفقاد الشعوب إنسانيتها وقيمها وأخلاقها، لكي تتحول إلى أدوات ووسائل الهدف منها إسعاد ذواتهم الإستبدادية المنحرفة. في تصوري ما يمارسه المستبدون في العصر الحالي من استبداد، يفوق بكثير الإستبداد في العصور الماضية، في العصر الحالي توفرت لهم الكثير من الوسائل التي ساعدتهم للإمعان في استبدادهم. كتاب (الأمير) ل (نيكولو مكيافيلي) صاحب نظرية الغاية تبرر الوسيلة، كنت أعتقد بأنه قد جمع فيه كل نقيصة إنسانية قدمها للأمير يوضح له كيفية الحفاظ على حكمه، ذلك الكتاب أجده اليوم أمام مايقوم به مستبدوا هذا العصر، لا يعدو أن يكون أبجديات مستبد في سنة أولى حضانة . في الغالب كان يحصل الاستبداد من قبل المستعمرين ضد المستعمرين (بكسر ميم الأولى وفتحه في الثانية) قد يكون ذلك أمراً مقبولاً في قاموس المستبدين، وما يمارسونه ضد من يعتبرونهم لا ينتمون إلى إنسانيتهم الوطنية. لكن أن يحدث ذلك بين أبناء البلد الواحد، والدين الواحد، واللغة الواحدة، فذلك مالم يأتي به الأوائل من المستبدين. لو تحدثنا عن اليمن، كواحد من بلدان الشعوب العربية الاستبدادية، ففي عهد النظام السابق أمعن صالح في إذلال أبناء شعبه ووطنه؛ في عهده وصل حال اليمني درجة أن يستحي البعض الإعلان عن انتماءه اليماني بين الشعوب، وإن قالها يقولها على استحياء. في حقيقة الأمر إن معادلة إيصال الشعوب إلى هذا الحال، أمرٌ ليس بالمهمة الصعبة بالنسبة للمستبد؛ اختزل كل تاريخ الشعب، قيمه، أخلاقه الحميدة، في شخص رجلٍ واحد، شريطة أن تتوفر فيه أسوء القيم الإنسانية. ثم اجعل منه وطناً، علماً، نشيداً وطنياً، اجعله الدولة، تاريخها، مجدها، حاضرها، ماضيها، ووحده مع أفراد أسرته، من بمقدورهم أن يمثلوا مستقبلها؛ تلك الشخصية الكارزمية، يغدو محبوه وحدهم، هم الوطنيون الشرفاء، ومنتقدوه هم الخونة والعملاء والمنتفعون. من يُعمل عقله بعيداً عن وسائلهم الإعلامية، من هو قادرٌ على التمييز بين تناقضات ما يقولونه ويرددونه، سيتولد لديه شيء من العداء ضد ذلك الوطن، الذي جعلوه حصرياً في ذلك الرجل الأخرق؛ فيمتد شيء من ذلك الإحتقار إلى الوطن الحقيقي، إلى الشعب، إلى ذات الشخص، وحين يصل الإحتقار إلى الذات، تكون النتيجة أنه لن يُفكر في يوم ما، أن يعترض على الوطن الزعيم. هذا بالضبط ما جري في الماضي، وأكثر منه اليوم يجري في مصر واليمن على سبيل المثال؛ شيء من التفصيل عن الشأن اليمني، الذي عايشناه، فهو لا يختلف كثيراً عن حال بقية شعوب الربيع العربي؛ حتى وقت قريب كنت شخصياً أعاني هذه النفسية المترددة؛ مع الممارسة أمكنني التغلب على الكثير منها، عدى قضية واحدة، كانت متمثلة في أن يكون الوطن بالنسبة لدي هو صالح، وأن يكون صالح هو الوطن. ترسخت تلك النفسية الرافضة لذلك الوضع، منذ خروج نتيجة انتخابات1997م التي تعايشتُ معها وشاهدت بعض جوانب عمليات إنتاجها، ورأيت المشهد الختامي في نهايتها، وكيف أخرجها (صالح) الوطن لصالحه. مذ ذلك التاريخ وما تلاه، صرت في نظر الوطنيين الشرفاء، رجلٌ حاقدٌ على الوطن، شخصٌ لا يتمتع بالروح الوطنية، بحق لقد كنت كذلك، في نظر المؤمنين بأن الوطن هو فقط (صالح). بسبب التركيز الإعلامي تلك الفترة في الوطن (اليمن) الذي كان يُعتبر حِكراً ومِلكاً خاصاً بالوطن (صالح) ما كان يستهويني العلم الجمهوري، ولم تحرك موسيقا النشيد الوطني ولا كلماته بين جوانحي شيءٌ من ذلك الانتماء، الذي عشته بشكل إيجابي تحديداً منذ بزوغ يوم22مايو1990م كل ذلك الشعور كان يتلاشى بشكل ملفت. بهذا الشأن لدي اعتقادي الخاص، الذي يقول: بأنه لا خرقة العلم، ولا كلمات وموسيقا النشيد الوطني، يمكن أن تكون هي الوطن، لا يمكن لخرقة ومجموعة كلمات مهما بلغت، أن تختزل وطن كامل بما فيه من تاريخ، وقيم، وعادات، وأمور رائعة لا حصر لها، لكني اعتبارهما عناوين للوطن. كنت أعتقد أنني الوحيد الذي يعاني من ذلك الشعور (نوع من العداء للوطن الحقيقي، بسبب ممارسات الوطن المزيف)، منذ الأيام الأولى في ساحة الحرية بصنعاء، التي بدأت تتشكل بعد أول جمعة أقيمت فيها يوم18فبراير2011م ونصبت أول خيمة فيها بتاريخ21فبراير2011م في تلك الساحة نصبت المنصة، ورتقا عليها العلم الجمهوري، وبجواره كان يصدح فنان الشعب القدير أيوب طارش، في تلك الأثناء غمرني شعورٌ آخر، كأنني أفقت على واقع جديد. خلال تلك الفترة، وما تلاها من أيام وشهور، كان لا يزال الواقع المعاش كما هو، صالح لا يزال يسيطر على كل شيء، النظام بكامله كان لا يزال كما في الأعوام السابقة؛ لكن شيءٌ ما في نفسي كان هو الذي تغير، تغير بشكلٍ جذري وكامل، غدا معه كل شيء من حولي مُختلفاً، جديداً بكل تفاصيله؛ لم يكن ذلك الشيء على أرض الواقع، بل كان في نفسي، في وجداني (الحرية)، إنها بالنسبة للشعوب، كبسولة الإنطلاق نحو الإبداع في كافة المجالات. منذ تلك الأيام رأيت العَلَمَ برؤية أخرى فأحببته، وسمعت النشيد الوطني فعشقته، عندها رأيت الوطن الحقيقي، عشته عملياً، لقد زرع في وجداني فكرة أخرى، تمكنت خلالها أن أفرق بشكل أكثر وضوحاً، بين الوطن الحقيقي، وما كان يُريد الوطن الزائف أن أشعر به. نفسياً كان ذلك الشعور يحاول أن يمتد في كل بقعة على التراب اليمني، كانت المساحة تتسع حين أشاهد ساحات الحرية في كافة محافظات الجمهورية، أما عملياً فكانت الساحة الحقيقية التي أعيش فيها ذلك الجو، هي ساحة الجامعة. مذ ذلك التاريخ أعدت حسابات روابطي النفسية، وترتيب ملفات أوراقي، اكتشفت أنني كنت قاسياً على وطني، حين تقبلت فكرة التنكر له، لأن معتوهاً كان يقول لي إنه هو الوطن. حينها أدركت بأني قسوت على وطني، حين ربطت بين حماقات لصوص وخونه لأفراد معدودين، ووطني الممتد على أرض مساحتها (555,000كم) لمجرد أنهم يقولون لي ذلك. في ساحة الحرية، أعدت ترتيب أوراقي، وملفات انتمائي الوطني بكل تفاصيله الجميلة ( تاريخه، قيمه، أمجاده، ساكنوه )، هناك أخذت منشورات ومطولات المداحين والمطبلين، كتابات المواطنين الشرفاء لوطنهم الزعيم، نشرات وطنهم الإله، وجعلت منها سلة مهملات لكل ما يختلف مع قيم، وتاريخ، وعقيدة هذا الوطن الذي أنتمي إليه وأعشقه (اليمن). الآن مهما يفعلون مهما يقولون، أنا مؤمنٌ بأنه لا يُمثل إلا أخلاقهم التي يظهرون بها، وأنه لا يتعدى قيمهم التي تربوا عليها، وهي برغم كثافتها الإعلامية، بعيدة كل البعد، عن اليمني أرضاً، وشعباً، وتاريخاً، وقيماً، ومجداً، بالنسبة إلي الآن، لن ترتفع روائح أفعالهم النتنة، سلة مهملاتي التي خصصتها لهم، ليبقى وطني الحر بعبقه، وشموخه، لا يضره من عاداه. لم أكن اليمني الوحيد الذي خالجه ذلك الشعور، فحين كنا نجلس سوياً في ساحة الجامعة، كان الجميع يُردد نفس ما أقوله؛ الثائرون الذين خرجوا من أجل الحرية ولها، الجميع أعادوا حساباتهم بنفس الطريقة التي صنعتُ. الجميع أوجد سلات المهملات لكل ما يتعلق بوطن الشرفاء الذين هم في حقيقة الأمر بلا شرف؛ في الساحة أدركت بأن وباء الوطن (صالح) الذي قررنا أن نثور عليه، كان منتشراً لمساحات شاسعة في أرجاء وطني اليمن. الرغبة في أن يكون التراب اليمني كله محرراً، كانت هي الدافع الذي جعل الثوار مُصرين على توسيع تلك المساحة، الإيمان بأن الإنسان اليمني ذو طبيعة حرة، وأن الدين الإسلامي الحنيف جاء للحفاظ على هذه الحرية، هي التي كانت تحرك الجموع للسير نحو الحرية، رغم تلك المجازر التي ارتكبت ضد الثوار في مختلف ساحات الجمهورية. من هذا المنطلق استطيع القول للمتباكين على ثورات الربيع العربي لأنها قد ماتت، نقول لهم أنتم لم تعيشوا حقيقة الثورة، ولم تعرفوا مقاصدها، كان لكم حسابات أخرى، وأهداف أخرى، وحين لم تتحقق تلك الأهداف التي رسمتموها في أذهانكم، أمتم الثورة، أما الثورات فإنها في الحقيقة لم تمت، لازالت حية تنبض في وجدان الكثير، هناك من يحاول إعدامها نعم، لكن لن يستطيعوا. الحقيقية أن الذي مات هي أهدافكم التي خرجتم من أجلها، وليس ثورات الربيع؛ حين نُحسن الظن في من يقول بموت ثورات الربيع، نجدهم يخلطون بين وسائل الثورة، وأهدافها، ونتائجها. مثلاً: رفع الوعي العام للمواطن، معارضة النظام، تعريته أمام الجماهير، الإعتصامات، التظاهرات، الإضرابات، التفاوض، الحوارات، المواجهة المسلحة إن لزم الأمر، هذه كلها وسائل؛ تصحيح الأخطاء، إزاحة الفاسدين، محاسبتهم، التأسيس لنظام عادل، تعيين قيادات نزيهة وفاعله، هذه كلها أهداف؛ تحقيق الأمن، السكينة، احترام النظام والقانون، العدل، الحرية، ازدهار اقتصادي، هذه كلها نتائج. إذاً: القفز إلى الحكم، لا يُعد ثورة، بل هو انقلاباً مكتمل الأركان؛ ما قام به السيسي في مصر، والحوثي وأنصاره في اليمن، ليس ثورة بل هو انقلاب، مع فارق وسائل الفريقين. ما يجب التنبه إليه، أنه لا يمكن أن تتحقق أهداف الثورة، والوصول إلى نتائجها، مالم تمر بمراحل مختلفة، قد تمتد لعقود من السنين، مستخدمة كافة الوسائل الممكنة، وقد أشرنا إلى بعضها أعلاه. ولعل أهم تلك المراحل، هي مرحلة الثورة الفكرية والنفسية في قلوب وعقول الناس، إذا تحققت الثورة الفكرية، وحدث التغيير الفكري والنفسي في عقول وقلوب الناس، انطلقت الثورة السياسية والإدارية، لتحدث التغيير في نظام الحكم، فتتحقق الأهداف وتظهر النتائج. في حقيقة الأمر فإن ثورات الربيع العربي كلها، ومنها الثورة اليمنية، لازالت في بداياتها؛ في تصوري، ثورات الربيع العربي كاملة، تم الدفع بها إلى المراحل المتقدمة، بشكل فجائي، قبل أن تستكمل الكثير من أهداف مراحلها الأولى (الفهم والوعي الذي يجب أن تكون عليه الجماهير). لكن وبفعل الحماس الشبابي الناتج عن ما شاهدوه في تونس، انتقلت العدوى إلى بلدان الربيع، وتم القفز بدون حساب المعطيات والنظر إلى مخاطر تجاوز بعض المراحل؛ القيادات السياسية كانت مُجبرة على القفز عن تلك المراحل، رغم إدراكها لمخاطر تلك التجاوزات، لكنها إذا لم تفعل كان سيتم تجاوزها وستصير من الماضي. مع ذلك فهناك إنجازات لثورات الربيع، أبرزها ما تم الإشارة إليه سابقاً؛ تلك الأوضاع التي انتقلت إليها الثورات، أزاحت الستار عن مناطق الخلل في المواطن العربي، لكنها في ذات الوقت، خلقت وعياً فكرياً لا يستطيع أحد أن يُنكره في عقول وقلوب الكثير من أبناء الشعوب العربية، الذين هم اليوم يملكون الجرأة لقول رأيهم بكل حرية، وفي كل جوانب الحياة. الكثير اليوم أصبح مستعداً أن يخرج لرفض الممارسات السيئة لنظام الحكم في بلدة، رغم المخاطر التي ستترتب على ذلك، بل وصل بهم الأمر، حد حمل السلاح، حين أجبروا على ذلك، للدفاع عن حريتهم وانتزاع حقوقهم. ثورات الربيع بما فيها من سلبيات بسبب الطريقة التي تم من خلالها القفز، إلى مراحل تفوق الوعي المجتمعي لثوارها، إلا أنها أطاحت بجدران الرعب، وكسرت حواجز الصمت. الكثير أدرك الوضع السياسي داخلياً وخارجياً، الكثير أصبح بإمكانه أن يتكيف سياسياً -لا أن يُطوع سياسياً- يتكيف ليتمكن من المضي لاستكمال ثورته، على ضوء الأحداث والإمكانات المتاحة. أصبح مستعداً لممارسة العمل الثوري بكل الطرق الممكنة، وبشكل أكثر واقعية وأكثر منطقية؛ لم يُعد من المقبول أن أحداً يمكن أن يتخلى عن ذلك الشعور بالحرية، ذلك الشعور الذي عاشه الثوار في ساحات الثورات. ما يجري اليوم على الأرض السورية، منذ أكثر من ثلاث سنوات، وفي ليبيا كذلك، ومصر منذ أكثر من عام ونصف تقريباً منذ الإنقلاب، خير دليل على أن الشباب قد تذوقوا رحيق حياة، لن يتخلوا عنه مهما كلفهم الأمر. تلك الثورات كشفت أقنعة المستبدين، وأزاحت الستار عن الرعاة والممولين، وفي نفس الوقت أذاقت الثوار حقيقة أن يعيش الإنسان بكرامة، وعلمتهم معنى الحرية. الثوار شاهدوا كيف يموت الحر واقفاً، أدركوا معنى أن يجود الإنسان بروحه، من أجل حريته وكرامته وإباءة؛ كل ذلك له معنى واحد، أن العمل الثوري يجب أن سيستمر، ولكن حسب المجالات المتاحة، والإمكانات المتوفرة، ليكون التحرك محسوباً بدقة، ما يعني أن خطوات الذهاب إلى أهداف ونتائج الثورة، ستكون أكثر متانة، وأكثر دقة وبأقل الأخطاء. الوقت في التحركات القادمة، سيكون له أهميته، سيكون لكل مرحلة وسائلها، وخطواتها التي تمكنها من تحقيق كافة متطلبات المرحلة. البداية التي يجب القيام بها اليوم، تتمثل في تعريف الشباب والشعوب، بمثل هذه الإنجازات، التي تحققت، وشرح مراحل وأهداف الثورات، لأن الأنظمة التي عادت للحكم، والتي تريد العودة إلي ممارسة استبدادها، تريد للشعوب أن تفهم بأنه لامجال لما يُسما ثورات، وأن الأمر لا يتعدى المزيد من الفوضى، واستجلاب ما هو أسوأ من السابق. كثيرة هي المنجزات التي تحققت من خلال ثورات الربيع، التي لن يستفيد منها شعوب ثورات الربيع وحسب، بل ستستفيد منها الشعوب الأخرى أيضاً، إذا لم تتمكن أنظمتها من فهم مكتسبات ثورات الربيع، وأن تدرك بأن عصر النهضة العربية قد حان. وللإنصاف فإن زعماء الاستبداد هي الأخرى قد تعلمت كثيراً، عن كيفية الحفاظ على مواقعها الاستبدادية، لكن الحقيقة التي لا مِراء فيها أن الشعوب لا تُقهر. [email protected]