في اللحظة التي وقعت فيها أحداث سبتمبر، كان الإجراء الأول الذي اتُّخِذ في أروقة الإدارة الأمريكية هو الحفاظ على "قادة الدولة".. كان بوش خارج واشنطن فأرسل إليه ألا يعود الآن.. كولن باول وزير الخارجية كان خارج أمريكا كلها في مؤتمر لدول الأمريكتين في بيرو.. ديك تشيني وكونداليزا رايس حُمِلا إلى الملجأ الآمن.. جورج تينيت – مدير المخابرات- لجأ إلى منزل آمن تابع للمخابرات الأمريكية.. التوجيهات الأولى بعد الحادث هو العمل على إرجاع كافة الطائرات التي تطير في أجواء أمريكا إلى الأرض، لأن الطائرات قد صارت في حكم الأسلحة.. ثم منع الرحلات المتجهة لنيويورك وواشنطن من سائر البلدان.. مع التوتر وانتشار الشائعات ووجود أخطاء طبيعية كانت بعض الطائرات لا تستجيب للنداءات من مراكز المراقبة الأمريكية.. اتصل تشيني ببوش وسأله ما القرار في هذه الحالة، ردَّ بوش على الفور: الطائرة التي لا تتعامل كما يليق يُتعامَل معها على أنها عدو! وبهذا يكون قد أصدر أمرا بإسقاط الطائرات المدنية إذا فُهِم أنها لا تستجيب بالشكل اللائق مع نداءات مراكز الطيران.. لينفذ سلاح الطيران الحربي مهمة إسقاطها! للمعلومة: عدد الطائرات المحلقة في ذلك الوقت هو 4500 طائرة!! فلو فرضنا أن نسبة 1% منها ستعاني خللا طبيعيا أو غير مفهوم فهذا يعني أن سلاح الطيران مسموح له بإسقاط 450 طائرة وقتل من فيها!!! حسنا.. ما هو المقصود من كل ما سبق؟! سامحني واصبر علي، ودعني أضرب لك مثلا آخر.. سيطر الحوثيون على صنعاء وخلعوا الرئيس اليمني وحبسوه في بيته، وكذا فعلوا من عدد من رجال دولته مثل رئيس الوزراء خالد بحاح وغيره، ثم حاصروا مقر البرلمان ليمنعوه من الانعقاد لرفض استقالة عبد ربه منصور هادي.. وإذا بنا بين ليلة وضحاها، نعرف أن هادي هرب من قبضة الحوثيين وخرج إلى الجنوب في عدن، وتراجع عن استقالته، وهناك توافدت الوفود، وتغير الوضع السياسي حقيقة وصار لدينا سلطتان: سلطة الأمر الواقع والقوة المفروضة "الحوثيون" وسلطة توصف بالشرعية "عبد ربه منصور هادي".. وهذا ما سيفتح تغييرا حقيقيا في الوضع اليمني.. حتى لو كان هذا التغيير هو لصالح تقسيم اليمن أو احتواء انفلاته. (التحليلات التي أطمئن إليها في مسألة اليمن تدور بين أمرين: 1. إما أن هروب هادي حقيقي وتم رغم أنف الحوثيين وبدعم خليجي وأممي، وفي هذه الحالة نكون على وشك صراع قد يفضي إلى تقسيم اليمن. 2. أو أنه هروب متفق عليه مسبقا بين الجميع لاحتواء انفلات اليمن وذهابها إلى الجهاد وفتح بقعة توتر جديدة تؤثر على مصالح أمريكا والخليج وتفرز حالة جهادية جديدة، وبهذا يكرر عبد ربه منصور هادي دوره في احتواء الثورة اليمنية ومنعها من التطور نحو إنجاز حقيقي كما فعل من قبل واحتوى الثورة اليمنية تحت ظل المبادرة الخليجية التي أفشلت الثورة وأضاعت اليمن). وأيا ما كان التحليل الصائب، فإن الثابت الذي نريد أن نثبته هنا هو أن التغيير الحقيقي في الوضع السياسي استلزم إخراج عبد ربه منصور هادي من محبسه وصناعة "شرعية" تجتذب الحالة الثورية والسياسية والجهادية المنفلتة والسائلة لتضعها في مسار محسوب. حسنا.. فما الجامع بين هذين الموقفين: الجامع هو أن "قيادة الدولة" هي القادرة على إحداث تغيير حقيقي، وهي العنصر الأول الذي يُهتم بحمايته وتأمينه في حالة الكوارث، وهي التي يمكن أن يضحى فعلا بآلاف من الأرواح التي "قد تمثل تهديدا" لهذه القيادة. ولهذا كان أبو بكر في الهجرة حريصا على حياة النبي أكثر من حرصه على حياته، لأن موت هذا موت رجل واحد أما موت النبي فنهاية للمشروع. وكان النبي ينزل محروسا في السلاح منذ قدم المدينة حتى أنزل الله له (والله يعصمك من الناس) فأمر الحرس بأن يكفوا. ولهذا فمن أبشع الأخطاء التي يجب أن نتعلمها هي التفريط في أمن الرئيس#مرسي وحراسته.. وقد كان اغتيال مرسي من أسهل ما يكون لمن أراد، فحراسة بيته – وخصوصا في خروجه لصلاة الفجر- كانت في غاية الضعف.. ثم إنه ظل في حراسة الخونة من الحرس الجمهوري الذين أسلموه ببساطة مرتين: مرة في ليلة الاتحادية ومرة عند الانقلاب العسكري. لئن كان من الاعتصام بد، فلا بد أن يكون الاعتصام حماية للرئيس بالمقام الأول.. فإما أن يتحول الاعتصام عند الاتحادية أو قصر القبة، أو يتحول الرئيس عند الاعتصام "ومن أراد أن تثكله أمه أو ييتم ولده فليأت وليقترب من الرئيس".. وسيكون اعتصاما مسلحا بطبيعة الحال! لست أقول هذا لإعادة التأنيب على ما مضى.. فهذا المعنى كتبته كثيرا منذ أوائل عهد الرئيس مرسي فك الله أسره، بدءا باتخاذ حرس خاص من التيارات الإسلامية وحتى الاعتصام عند الاتحادية لا عند رابعة.. إنما أقوله لنتعلم فيما بقى. فالقادة لا يعدلهم شيء، وتأمينهم هو المسؤولية الأولى المقدمة على حياة الكثيرين.. وهو الذي يضحى في سبيله بأرواح الكثيرين ليس استعلاء ولكن لأن وجودهم أيضا يعصم دماء الكثيرين.. تصور لو أن مرسي خارج السجن وفي حماية من أنصاره، كيف كان سيتغير الوضع السياسي؟! وكيف كان مبعوثو الأممالمتحدة والوسطاء الدوليون والعرب وغيرهم سيهلكون أحذيتهم في الغدو والرواح على مصر! وكيف سيؤثر هذا على شرعية وقيمة هذا القزم الأحمق سواء في الداخل أو في الخارج، هذا بخلاف التأثير على وعي الشعب وإرادته. أكرر: هذا المقال لما هو آت لا لما قد فات.. والله المستعان!