بعد أن أمات طلاب الجامعة كل أقاربهم أكثر من مرة ولم يعد في عائلاتهم أحد ليموت ليتهربوا من الواجبات والامتحانات والدوام انتقلوا في النسخة الجديدة من الأعذار الى تلبيس المرض لأنفسهم، ففي أيام الامتحانات صيفا وشتاء على الأستاذ الفطن أن يتوقع مسبقا أن البلد ستصاب بوباء الانلفونزا والالتهابات المعوية، وأن الحرارة الشديدة ستقعد الطلاب في الفراش، وأنهم بسبب الإسهال لن يغادروا الحمام، وهذه الأعذار الخفيفة تهون مقابل الإصابة بالسرطان أو إجراء عملية لأطفال الأنابيب، وهذه الأعذار تجعل الأستاذ يتعاطف أيما تعاطف مع الطلاب ليكتشف بعد أيام سذاجته عندما يتكرر الأمر والعذر نفسه مع زملائه في أقسام أخرى! ولكثرة ما رأى وسمع الأساتذة من الطلاب أصبح الشك والتخوين هو القاعدة في التعامل معهم, وافتراض حسن النية من النوادر, وفي الحالات القليلة التي يكون فيها الطالب معروفا بخلقه وتفوقه وسجله الأكاديمي فيُقبل منه العذر دون الحاجة الى الإثبات. يفقد الاستاذ الجامعي جزءًا من إنسانيته وهو يطلب من طالب توفي والده شهادة الوفاة أو نعي الجريدة لإثبات سبب غيابه، وبدل أن يسانده يصبح الاستاذ جزءًا من اكتمال المصيبة, ويصبح الطالب متهما الى أن تثبت براءته، ولكن انتشار ثقافة الغش والتضليل بين الطلاب لم تدع للمدرسين مجالا سوى توقع الأسوأ منهم على الدوام، ويا لها من انتكاسة للتعليم عندما يغيب جزؤه الأهم في التربية التكاملية التي تعنى بروح وعقل الطالب على حد سواء! نلوم الطلاب أم نلوم المجتمع والمسؤولين الذين أوصلوا الطلاب الى هذه المرحلة من الاعتقاد أن الغش والفهلوة والحظ هي أهم وسائل النجاح؟ أنلوم طالبا غاب عن امتحان فأحضر تقريرا طبيا مزيفا أم نلوم الطبيب الذي أقسم يمينا مقدسا على احترام مهنته ثم باع قسمه وتنكر له مقابل ثمن التقرير الطبي الجاهز بالعذر المرضي حسب الطلب والموعد؟! أنلوم الطالب أم نلوم الطبيب الذي لم يفهم أن الجسد إذا مرض يمكن علاجه أما القلب والروح المسكونة بالتضليل والغش والخداع فكارثة كبرى قد لا ينفع علاجها إلا بشق الأنفس؟ أنلوم الطبيب أم نلوم من أحوج الطبيب إلى الركض وراء المال يبيع لأجله ذمته مقابل أن يطعم أولاده؟ أنلوم الطلاب أم نلوم المجتمع والمسؤولين الذين أوصلوهم إلى الاعتقاد الجازم بأن الشهادة مجرد ورقة ثبوتية يجب تحصيلها كشهادة الميلاد والهوية المدنية أما في واقع الحياة فليس من الأكيد أن لها قيمة، وأن للتفوق قيمة، وفي كثير من الأحيان يرون من كان زميلا لهم لا يعرف الألف من الياء ويأخذ السنة بسنين, يجدونه في وظيفة مرموقة بناء على شهادة غير مرئية وتفوق غير منظور في شكل الواسطة! فلم التعب ولم الدراسة من الأصل؟ وهكذا يتعلم الطلاب الغش ويتعزز فيهم عندما يرون الغشاشين قادة المجتمع, ويصبح الغش ثقافة ومدارس واختراعات تعجز المدرسين، بل يصبح اكتشاف الغش تجارة وبرامح حاسوبية يمكن بيعها بعائد مربح، وفي هذا دلالة على أن الغش ما عاد ظاهرة محصورة, عرضية أو مؤقتة، بل أمرا واقعا ومرضا منتشرا يحتاج إلى علاج جذري. في محاضرة عن الغش والسرقة الأدبية، حاولت حشد كل الأسباب التي قد تمنع الطلاب من الغش، فخاطبت من قد يخافون الله بالبعد الديني، وأن الغش يُخرج الغشاش من دائرة الانتماء للمسلمين استنادًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا، وخاطبت الطلاب بالأبعاد النفسية واحترام النفس والذات، وأن الإنسان مهما وصل من مراتب بالغش، فسيظل أمام نفسه غشاشا، وليس أسوأ من أن تفقد احترامك لنفسك حتى لو احترمك الناس ظاهريا، حاولت تخويفهم بالعقوبات، وأن حبل الغش والكذب قصير وأن الغشاش إن نجا مرة فقد يقع مرات، حاولت مناقشتهم عن المستقبل وأن الغش لن يمكنهم من القيام بوظائفهم والتفوق فيها، أخبرتهم عن إيجابيات الأمانة والنزاهة على النفس والوظيفة والمستقبل، وفي كل مرة كان لديهم حجة مضادة، فلان غش ونجح وتخرج واشتغل، فلان يغش ولا يكتشفه أحد، الواجب الذي حللته بنفسي لم أحصل عليه علامة جيدة وكنت الأول في الواجب الذي غششت فيه، وختم آخر مبتسما بحديث فض المجالس: يا دكتورة ادعي لنا الله يهدينا… نعم أعجزني الطلاب في موضوع الغش. وفترة الامتحانات فترة عصيبة لأني أرى فيها إشكالا من انحطاط القيم الإنسانية التي يرسخها فينا الفساد الذي يبدأ من رأس المجتمع لينتشر المرض إلى كل الأطراف والأعضاء. المسؤولية الشخصية كبيرة وكل إنسان مسؤول عن نفسه وسجله في الدنيا والآخرة، ولكن المسؤولية العامة لها دور كبير في توجيه وتربية وإلزام الناس بمسؤولياتهم الشخصية. لقد غش الكبار فاستسهل الصغار الغش وبرعوا فيه وهذا ما سيورثونه للأجيال القادمة ما لم تصبح الأمانة خلقا تربويا أولا، ثم قانونا يعاقب منتهكوه العقوبة الرادعة ليس على مقاعد الدراسة فحسب، بل على مقاعد الرئاسة أولا. لقد قالوا من قبل فصدقوا: لقد عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا. أما نحن فنقول: قد غشوا فغششنا.. ونغش فيغشون، وما أسوأ ما نُورّث ويرثون.