على الرغم من أن العبودية وأنظمتها المختلفة ضاربة في أعماق التاريخ ولازالت بعض آثارها السيئة ماثلة للعيان حتى الآن، فإنه من الملفت للنظر أن القرآن قد تعامل معها بطريقة مختلفة، ذلك أن القرآن لم يعترف بنظام العبودية لكنه تعامل مع العبيد وما يتعرضون له من ظلم، وربما أن تعامل القرآن مع ظاهرة العبودية على هذا النحو قد سمح لبعض المسلمين أن يتعامل مع نظام العبودية بطريقة أو بأخرى، وفي هذا الإطار يمكن القول بأن الفقه الإسلامي قد أقر بنظام العبودية وإن كان قد حاول أن يخفف من بعض أثارها، ولا شك أن ذلك يمثل نقطة سوداء في الفقه الإسلامي ينبغي تنقيته منها. وبشكل عام فإن القرآن قد أطلق على العبيد مصطلح المظلومين، وما من شك بأن مدلولات مصطلح المظلومين يختلف جذرياً عن مصطلح العبيد، فالأول يعترف بواقع العبيد السيء وغير الإنساني لكنه لا يقر بأي شرعية لهذا الواقع، أما المصطلح الثاني فإنه يقر بشرعية نظام العبودية وما ترتب عليها من آثار ضارة على اعتباره أنه ظاهرة طبيعية لها ما يبررها من الظروف والملابسات« إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين». يقول الله تعالى: « وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك ولياً وأجعل لنا من لدنك نصيراً». فمن بقى من المسلمين في مكة ولم يتمكن من الهجرة إلى المدينة هم في غالبيتهم ينتمون إلى العبيد سواء كانوا من الذكور أو الاناث أو الولدان أو من ممن تحرر من الرق ولكنه ظل في مرتبة متدنية في السلم الاجتماعي لا يمكنه من الهجرة لأسباب مادية أو معنوية،و في هذه الآية فإن الله تعالى يطالب المسلمين بنصرتهم وذلك من خلال تحريرهم من الرق ومن الاجبار على اتباع دين لايرضونه لأنفسهم. وفي نفس الوقت فإن القرآن يقر بوضعيتهم الضعيفة في المجتمع نتيجة لكونهم ارقاء أو أبناء ارقاء أو ينتمون الى طبقة الارقاء فيقول الله تعالى:«إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا». وفي هذا الاطار فإن التميز في الواجبات بينهم وبين غيرهم لصالح التخفيف عليهم منها هو في حقيقة الأمر تميز ايجابي وليس تميزاً سلبياً يقلل من شأنهم«ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما. قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون». والدليل على ذلك أن هذا التخفيف يخص من بذل ما يستطيع لمقاومة العبودية وما يترتب عليها من آثار ضارة وليس أولئك الذي قبلوا بها و تعامل معها كواقع« وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين. قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين. وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له انداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون. وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنا لكم تبعا فهل انتم مغنون عنا نصيباً من النار». والدليل على أن القرآن لم يعترف بنظام الرق إطلاقاً وان تعامل معه كأمر واقع يجب تغييره في نهاية الأمر أن الله وعد المستضعفين أن يمكنهم في الأرض. «واورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني اسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. واذكروا اذ انتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين». ورغم أن النبي صلى الله عليه و سلم ما ترك مناسبة إلا وحث الناس على اعتاق الرقيق بل إنه مارس ذلك بنفسه فأعتق عبده الوحيد زيد بل إنه عمل على تزويجه بابنة عمته أم المؤمنين زينب. ومن الملفت للنظر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتق ما يحصل عليه من إماء ويتزوجهن. فلم يكن في بيت النبي عبد أو أمة. وعلى الرغم من ذلك فإن موقف المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الرق لم يكن صارماً بما فيه الكفاية, بل أنه يمكن القول إن البعض وخصوصاً السلاطين قد تعاملوا مع العبودية مثلهم مثل غيرهم من الملوك غير المسلمين. ومن العجيب أن غالبية فقهاء المسلمين قد تعاملوا مع العبودية والرق على أساس أنه ظاهرة طبيعية وخرجوا لها من الاحكام ما يمكن القول أن بعضها لا يوجد لها أي أساس في القرآن الكريم, بل انه يمكن القول إن بعضها يتناقض مع روح القرآن كما سنوضح ذلك في المقال القادم.