ما إن تشرق شمس الدنيا كل يوم حتى تعجّ الصحف والقنوات بالواعظين، الكل يحذّر ويصرح، ويسعى لقيادة العباد من أجل إجابة داعي الله عز وجل، ويُسطر على الفيسبوك مواعظ وكلمات، وُيجيب السائلين ويُرحب بالمتابعين، ويتنقل بين المدن مدرساً ومحاضراً، وهذا الدور محمود ومشكور من دعاتنا الأفاضل، بل هو واجبهم على الأمة. مجتمعنا مليء بأصحاب المؤلفات والكتب والدروس والمواعظ، والفتاوى والتحدث إلى الناس، باتوا بفضل الله منتشرين في كل حي ومكان، وبالرغم من الجهد الكبير المبذول إلاّ أنّ الأثر لا تجده واضحاً في الناس، فترى من النسوة من تخرج من مجلس الذكر وهي تنمّ على أم فلان، وآخر يصلي في المسجد جميع صلواته إلاّ أنّه يحلل لنفسه أكل أموال أبناء أخيه اليتامى، وذاك ينهى الناس عن متابعة برامج التلفاز الهابطة بينما يشاهدها هو في خلوات الليل، هذا حال الكثيرين في أيامنا وللأسف. كُنت أظن أنّ لمس أثر التدين السليم مفقود لدى العامة لأنهم لم يطّلعوا على الدين بالصورة المطلوبة، فمجتمعنا يحرم نفسه من المطالعة ويقتصر سماعه على وجوه معينة تظهر على التلفاز، ويظن أنّ الالتزام هو أن تنتقب الفتاة، ويطلق الرجل لحيته ويرتدي ثوباً وعمامة، أمّا الالتزام الفعلي بالأخلاق والسلوكيات مع الأفراد فهذا أمر لا يُدقَقُ عليه. وخاب ظني عندما اكتشفت أنّ النخب الدينية أيضاً تعاني من أزمة الالتزام، ففي حين يقضي الآباء أوقاتهم في نصح الناس ترى جهاراً نجل أحد الدعاة يشرب النرجيلة، وآخر لا يُخفي إعجابه ببعض المطربات، وكثيرون لا يحرصون على الصلاة، والآباء يبررون عدم قدرتهم على تهذيب أبنائهم بأنّ سيدنا نوح عليه السلام لم يستطع أن يهدي ابنه إلى طريق الله، ومن هم من سيدنا نوح النبي؟! وقد تقترب من بعض البارزين في الدعوة، وقد كنت تقرأ له وتتعلم على يديه، وتنهل من معين تدويناته، فتفجع بأنّ كل ما كنت تنبهر به من مواقف وشعارات وخطابات رنانة مجرد فقاعات، من أجل الجاذبية فقط، وفي المواقف الخفية عن البشر لا عن الله لن تجده مختلفاً عن عامة الناس، فهو يسكت عن الحق طمعاً في إرضاء قريب، ويُبرر الخطأ بحجة السهو وعدم العلم، ويجحف بحق مخلص ويستخدم الواسطة ولا يرى حرمة في المحسوبية! ويبرر أفعاله بنصوص القرآن التي يتقن تأويلها! بل ويركّزون في حديثهم للناس عن المظالم والحقوق، وهم أول منتهك لها! أكثر نخبنا تُعاني من ذات الأمراض التي يعانيها المجتمع، إلاّ أنّها تكابر، وتحتمي خلف الدال والميم والأستاذية والمناصب وكأنها ستستر وتقي يوم لا ينفع مال ولا بنون. [email protected]