انصب نضال القوى السياسية والشعبوية في مرحلة مابين الحربين على التخلص من الاحتلالات الأجنبية. وصنفت القوى التي جابهت المستعمر « بالوطنية « تعبيراً عن هويتها ومواقفها التي كثيراً ما تميزت بالصلابة والعنفوان تجاه خصم سلب الشعوب حقوقها الطبيعية وكرامتها. بعد أكثر من نصف قرن، أعادت الامة إنتاج مشروعها الوطني الآنف من جديد، لتواجه هذه المرة، أنظمة ديكتاتورية، مارست السياسة القمعية ذاتها، مستعينة في تعسفها بالمؤسسة العسكرية، فأحكمت قبضتها على رقاب الناس وحياتهم وحقوقهم السياسية وأذلتهم بطريقة خلت من أية معايير انسانية أو أخلاقية. ثأرت الشعوب لكرامتها عبر ثورات ما سمي بالربيع العربي، التي انطلقت شرارتها غرباً وامتدت شرقاً في مطلع 2011، وأسقطت أنظمة لم يكن من السهل إسقاطها. وحين دبت الحياة في صناديق الاقتراع، صعدت الى السلطة قوى أعادت دفة السياسة الى وضعها الصحيح. وتنفس الناس هواء الحرية لأول مرة دون خوف أو وجل. لم تكن إزاحة العسكر ومن والاهم عن سدة الحكم بعد ستة عقود من التسلط والامتيازات وتكديس الثروات، لتمر بتلك البساطة، فقد لجأت القوى التي فقدت مكتسباتها الى تنظيم صفوفها، وانقضّت على الشرعية بصورة انقلاب كالذي شهدته مصر مؤخراً، أعاد الى الاذهان قصة المذبحة التي تعرضت الديمقراطية لها مع بداية النصف الثاني من القرن المنصرم. فعقب تحرر الدول العربية وتنامي الحريات السياسية والبرلمانية، ظهرت قوى « يسارية ويسارية يمينية وعلمانية وقومية وطائفية. و.. « ارتبطت مشاريعها العقائدية والطبقية، بالعسكر كقوة، غالباً ما كانت تمثل الجسم المنظم الوحيد في المجتمع، خطفت السلطة وحولت الجيوش التي تأسست لدفع المخاطر الخارجية، الى أداة عمياء عملت على استبدال الأنظمة الشرعية بدكتاتوريات عسكرية، حكمت مباشرة أو من وراء حجب بالقوة، ومارست البطش والتنكيل بحق شعوبها. برزت سورية ومصر على هذا الصعيد في مقدمة البلدان التي وقعت ضحية تدخل الجيش في السياسة، وقدمتا النموذج الواقعي لانهيار الحكم المدني الديمقراطي تحت سطوة المدافع والدبابات. فحين انقلب الجنرالات على شكري القوتلي ومحمد نجيب في مشهدين متفاوتين وأرغم كل واحدعلى توقيع استقالته والتنحي عن الرئاسة، سطَرالعسكر سابقة خطيرة، كان من أهم تداعياتها أن هيمنت المؤسسة العسكرية على المؤسسة السياسية، وتولت السلطة أنظمة قامت على التأطير المشدد والقهر والإكراه بشكليه المادي والمعنوي. ورغم ما صاحب الانقلابات، من دعاية إعلامية وبيانات وتطمينات تدغدغ عواطف الشعوب وتأكيدات بعدم وجود أي طموح لدى العسكر في استلام الحكم، واقتصار هدفهم على تصحيح الاوضاع وإحلال الحكم الديمقراطي الصحيح مكان الحكم الفاسد، لم يفلح الذين خططوا لها، في لجم جموحهم نحو السلطة، أومقاومة شهوة إقصاء الآخر، وخنقه، وتحويل الدول الى سجون سيئة تديرها شخصيات انحدرت من الأحضان نفسها. وخلال سنوات قصيرة تخلت الجيوش عن مهامها وأصبحت أشبه بمجموعات ضغط ذات شأن مهم داخل الحياة السياسية العربية. وانحسر دورها الدفاعي بشكل تلقائي ليقتصر على انتاج دكتاتوريات مقنّعة تختطف السلطة، وآليات نفوذ أشبه بالشبكة العنكبوتية، ومراكز استخبارات « الداخل اليها مفقود والخارج منها مولود « كما تقول العامة. لم يكتف العسكر خلال مراحل حكمهم /1949-2011/ بضمان تفوقهم وسطوتهم، بل مارسوا التلاعب بالحقائق، وانتهجوا سياسة أحادية إقصائية، لم تعترف يوماً بصندوق الاقتراع أوبحق الاختلاف أو بحق الآخر في التعبير عن رأيه أو بحق الشعوب في اختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية. وإذا كان من شأن هذه المدرسة أن تروق بالطبع للقوى التي تخرجت من صفوفها، فإن أحد مفاتيح الإجابة عن اسباب عودة الجيش المصري اليوم الى ميدان السياسة يكشف عن ذهنية سائدة، لم تتغير لديها الصورة النمطية التي تحملها عن دوره. إذ مازالت النخب القومية واليسارية والطائفية والقوى المتضامنة معها، تنظر الى هذه المؤسسة على أنها مجرد أداة للقمع تتشكل وتتغير تقنيتها وفق ألاعيب استخباراتية ومعرفية، وأساليب تنسجم في كل حين مع أي وضع متغير. ليس من المصادفة أن تُغتال الديمقراطية على يد أعدائها، غير أنه من المدهش أن تصطف بعض القوى السياسية الى جانب هؤلاء الأعداء، ثم تتحدث بعد ذلك عن الحرية وصناديق الاقتراع!!.