فتحت تداعيات ما يسمى الربيع العربي بابا واسعا لجدال وصل إلى مرحلة الصراع ما بين التنظيمات المؤمنة بالإسلام السياسي وقواعدها الجماهيرية الكبيرة، وما بين فئات من المجتمع المؤمنة بالتوجه العلماني في إدارة الدولة والمجتمع والثقافة. كثير من أوجه هذا الصراع تظهر الآن في تونس ومصر وسوريا وليبيا وإلى حد أقل في الأردن واليمن. الظاهرة التي بدأت تثير القلق في هذا الصراع هي تحول نسبة من العلمانيين العرب إلى معسكر من التعصب الفكري والعقائدي يشبه كثيرا تعصب تنظيمات الإسلام السياسي وعدم قبولها للرأي الآخر. إطلاق أوصاف "الإرهابيين" على فئات كثيرة من أنصار الإخوان المسلمين والإسلام السياسي ليس أمرا منطقيا ويشبه إطلاق وصف "الملاحدة" على كافة العلمانيين مع ان الكثير منهم مؤمنون بالأديان ولكن لا يدعمون إدارة الدولة عن طريق رجال الدين. بعض تصرفات العلمانيين التي وصلت إلى الإساءة المباشرة للثقافة الإسلامية وكذلك التشهير والاعتداء على بعض الشخصيات الدينية-السياسية لا تتناسب أبدا مع جوهر التفكير والمواقف الصحيحة للعلمانية بالطريقة التي يطبقها العالم في حوالي 80% من الدول. مشكلة بعض العلمانيين العرب أنهم يحاولون التمثل بتوجه العلمانية الأوروبية الصارمة في رفضها للأديان ويعتقدون أن العلمانية أصبحت مقتصرة على مفهوم "معاداة الأديان" والاستهزاء بالقيم الدينية سواء أكانت الإسلام أو المسيحية أو اليهودية. إن العلمانية تعلي من شأن العقل ولكنها أيضا تهتم بحرية المعتقد واحترام الثقافات، وتحويل العلمانية إلى عقيدة متعصبة يشكل أزمة حقيقية لأن على العلمانيين أن يتعلموا احترام الاختلاف وعدم التعامل بعنصرية وفوقية مع الأفكار الأخرى. ربما علينا كمثقفين علمانيين عرب أن نراجع مفهومنا للعلمانية وأن نفرق ما بين فصل الدين عن الدولة كمبدأ سياسي وما بين معاداة الأديان بطريقة غير مبررة، وأنا واثق بأن كل العلمانيين في الشرق الأقصى وأميركا اللاتينية وإفريقيا يحترمون ثقافاتهم وأديانهم وحضاراتهم المحلية ولا يسمحون للتعصب العلماني الغربي أن يسيء إليها وهذا هو دور العلمانيين العرب كأداة للتحول الديمقراطي السليم في المجتمعات العربية وليس إيجاد معسكر جديد من التعصب في مواجهة الأصولية وتوجهات التكفير التي يتبعها الكثير من تنظيمات الإسلام السياسي. العلمانية ليست دينا أو معتقدا يتطلب التعصب والانغلاق بل مبدأ سياسي واجتماعي وثقافي يطالب بإدارة شؤون الدنيا عن طريق المجتمع وليس تفسير رجال الدين للنصوص الدينية وهو المبدأ الذي جعل الغالبية العظمى من الدول التي تطبق العلمانية السياسية في المراكز المتقدمة من مؤشرات النجاح الديمقراطي والتنموي والاقتصادي والإبداعي في العالم. [email protected]