كانت الباحثة الإماراتية الدكتورة موزة غباش تستعرض ذات محاضرة لها التحديات الاجتماعية التي يصعب على الفرد الخليجي معالجتها بسهولة، وكانت تقصد بالتحديد معضلة التركيبة السكانية لبلد لا تتجاوز فيه نسبة السكان المحليين 15%، قالت غباش: "أخشى أن يأتي يوم نضطر فيه إلى تعلم اللغة العربية من السوريين والعادات القبلية من اليمنيين"، يومها كدت لفرط افتخاري أن أقف على الكرسي وأعلن للحاضرين أني يمني أصلي (زنجبيل بغباره)، كان ذلك قبل سنوات، أما اليوم فأشعر بالخجل، والسبب أن ما من شيء يجعل اليمني اليوم يفتخر بتاريخ من العنف والتخلف هيمنت عليه عادات القبائل والمشائخ البدائيين، حتى تحول الوطن إلى ما يشبه القبيلة الكبيرة. لم تعد هذه القبيلة وأعرافها محل ترحيب، لأنه لم يظهر منها حتى اليوم -بالنسبة لي على الأقل - سوى الشر المتزايد والنخيط، و"يا ذا أوبه لذاك"، والمشكلة أن قضايا التحديث والمؤسساتية وحكم القانون وتطبيق النظام تتآكل يوماً بعد يوم لصالح أعراف القبيلة وأدواتها، في إدارة شؤون الحكم أو حل الصراعات. ويستطيع القارئ أن يتلفت يميناً أو يساراً، وسيجد أن أغلب القضايا الملتهبة في الوطن قد عادت إلى مجلس القبيلة للتشاور والتحاكم، حتى في الصورة التي جمعت الأخوة الأعداء أثناء توقيعهم للاتفاق المكمل لاتفاق فبراير، لم أجد في أغلب الجالسين أو الواقفين سوى مجرد مشائخ، لن يترددوا في "مشع الجنبية" في أية لحظة، و"والله ما سبرت". الفكرة المرعبة للدكتورة لا يمكن تخيلها، إنها تشبه رجل يقود قطيع ثيران يسير بهم إلى الذبح والصلح القبلي في شوارع دبي، ومثل هذا النوع من القبيلة، لن يخطر على بال الدكتورة أبداً، ولا أريد البحث من جديد عن مميزات في القبيلة، يمكن إهداؤها إلى الذين أعمل برفقتهم هنا، لأني بصراحة لا أجد شيئاً عندما أبحث. كان الزميل ناصر الربيعي في دبي ذات زيارة، ولم يكن يتوقف عن ترديد "لماذا لا يكون الناس مثل الناس" بمعنى لماذا لا نعيش مثل ما يعيش الناس هنا تحت مظلة القانون، وكنت أردد من بعده: "يا ليت قومي يعلمون". ولا أظن أنني أبالغ، لأنه ما من مدينة عصرية يمكن الاحتفاء بحداثتها وتميزها في المنطقة أفضل من دبي. تدرون ما أرغب فيه فعلاً؛ أن يكون بمقدوري اصطحاب العشرين مليون يمني في جولة حول العالم، ليشاهدوا ويسمعوا كيف يعيش الناس في أغلب دول العالم، وكم يستطيع الإنسان أن يكون سعيداً وأنيقاً ومتحضراً عندما يغيب الشيخ وأعراف القبيلة، وتحضر السلطة والنظام والعلم. أرغب من كل قلبي أن يعاد ترتيب البيت اليمني من الداخل وينفض كما ننفض البيت الذي نسكنه "لا يمكن أن نبقي نوافذنا مغلقة هكذا.. كيف يمكن لإنسان بائس فارغ وغارق في مشكلاته اليومية التافهة وذي عقلية متخلفة عن العالم بعشرات السنين أن يبني وطنا أو أن يقوم بثورة ما". كما تقول أحلام مستغانمي. أعرف أننا شعب مسكين ومظلوم ومضياف وكريم على الدوام، ونستطيع أن نفتخر أننا ناس أصيلون أو أصليون (لا يهم)، وأننا أصحاب حضارة وتاريخ عريقين، كما يمكن استعارة عنوان كتاب الصحفي السعودي تركي الدخيل عن اليمن: "جوهرة في يد فحام". لكني سئمت من الحديث المستمر عنا بصيغة الشفقة والرثاء تلك، وفي الوقت نفسه يوجد بيننا من لا يزال ينظر إلينا وكأننا أفضل الناس على هذا الكوكب، ولدينا أفضل رئيس في العالم، و"هنيئاً لشعب أنت قائده". مثل هذا الكلام الذي تسمعه أو تلمس ما يشبهه يفطر القلب، لكنه أيضاً يردنا إلى حقيقة أننا جميعاً في هذا البلد حكاماً ومحكومين، ننتمي إلى الطينة المتخلفة نفسها، وأن الحكام في نهاية المطاف يشبهون شعوبهم وشوارع مدنهم وتصميم الطاولات ولون الجدران في مقاهيهم ومطاعمهم. بكلام واضح، يمكن النظر إلى الوضع الحالي على النحو التالي: قبيلة كبيرة بشيخ واحد وعشرين مليون فرد، وبقية التفاصيل يمكن رصدها من النماذج القبلية المزروعة في كل قرية وفي ركن كل مدينة، حتى مع القلة من النخب المثقفة والمفكرة وأبناء القبائل الذين عادوا من الدراسة في أرفع الجامعات والكليات الغربية، لا يمكن الحديث- مع الأسف- إلا عن مجتمع قبلي متخلف، قادر بكل بساطة على "كلفتة" أي مشاريع تحديثية في هذا البلد، والعودة إلى العيش في كنف القبيلة السيئة التي لا ننفك نحاول الانعتاق منها. كتب عبد الإله بلقزيز أثناء حرب صيف 94 وهو يصف بعض أبناء الحزب الاشتراكي بالآتي: "تمخض الجبل الثوري فولد فأراً قبلياً". لا يمكن أن نهرب من حقيقية ما نحن عليه، في هذا البقعة من الركن الجنوبي الغربي للجزيرة العربية، كأننا لا ننتمي إلى العصر الحديث، كمحطة مهملة رمت البشرية فيها سلوكها القبلي، وغادرتنا في قطار لا ينوي العوة أبداً، حتى المجتمعات البدوية المحيطة بنا تغيرت وتطورت، وتثبت يوماً وراء الآخر أنها تتقدم إلى الأمام مثلها مثل أغلب بقية دول العالم، على الأقل فإن مشكلاتها منطقية، تنتمي إلى العصر الذي نعيشه، ولا تنتمي إلى مجتمعات القرون الأولى التي كانت تتوارث العبيد وتتنازع بالسلاح على نهب الأراضي، وتكتب قصائد المديح في الحاكم ليبارك طريقتها في إدارة الناس وإذلالهم.. هذا النوع من القضايا لم يعد موجوداً بهذه الوفرة إلا في كتب التاريخ. يقول خالص جلبي: "الشعوب هي التي تصنع الطواغيت كما تصنع خلية النحل ملكتها من أصغر العاملات. كل ما تحتاجه حتى تصبح ملكة هو تغذيتها برحيق خاص. وفي عالم البشر يمكن لأي مغامر من أمة مريضة أن يقفز على ظهر حصان عسكري إلى مركز الصدارة والتأله بكل بساطة".