لا يجد بعض اللاعبين في مسرح تفاعلات المشهد اليمني غضاضة من التنصل عن مواقف واستبدالها بالنقيض، دونما فواصل توضيحية تبرر مبارحة موقف ما، إلى نقيضه المباشر. خلف الكواليس، ثمة ما يدفع أرباب تلك المواقف المتناقضة للظهور بهذه الشاكلة المتأرجحة بين نقيضين، غير أنهم غالباً ليسوا بارعين في تقديم هذا التناقض بقالب تبريري مقنع يدرأ عنهم اتهامات التلون والتقلب، حسب ما تقتضيه اتجاهات الرياح بشقيها الداخلي والخارجي.
بالنسبة لهؤلاء، ليس مهماً البروز في أكثر من وجه ولون وموقف. المهم أن يحقق هذا التلون غاياته حتى ولو كان الثمن: تشويه صورتهم لدى الرأي العام.
لذا ليس بمستغرب مثلاً أن تجد من كان ينعت السلام في صعدة بالخيانة في مقدمة الداعين إلى تحقيقه!
وليس غريباً أيضاً مشاهدة تاجر سلاح يعلن عن تأسيس مؤتمر سلام لإخماد حرائق حرب يتهم بأنه كان له باع وذراع في إذكاء جذوتها بأسلحته وصفقاته التي توزعت على الطرفين أو بالأدق: على الأطراف الداخلة في لعبة الحرب.
التبعية، المصلحة، الحسابات الخاصة.. نقاط لن نبالغ بزعمنا أنها تجسد أبرز الدوافع لتخلي بعض اللاعبين عن مواقف أصيلة لصالح مواقف مضادة.
في حالة حسين الأحمر مثلاً، لو لم تُعتمد النقاط الثلاث كمرجعية لتفسير مواقفه المتناقضة لتحولت حالته إلى وضع شبيه بالأحجية، إذ كيف لمن قاد مئات المقاتلين لمواجهة الحوثي، أن يقوم بدور وسيط السلام.. كأننا نقول على سبيل التشبيه المجازي: كيف لعاشق أدوار الشيطان أن يبرز في ثوب الملاك!
في مشهد اندفاع الثنائي فارس مناع وحسين الأحمر صوب مساعي السلام في صعدة، المتضادة مع مساعيهم السابقة نحو الحرب، متناقضات عدة تستوجب وقوفاً تأملياً لكشف الدلالات واستجلاء الأبعاد وصولاً لفهم يبدد فكرة الأحجية.
* متحمس للسلام والحرب! حتى عهد قريب، كان حسين الأحمر أبرز المتحمسين لإراقه الدماء على سفوح جبال صعدة الجريحة.
في الواقع، لم يكن التعطش لسفك الدماء محركاً لذلك الحماس المكثف، فالرجل كان يُعبر عن موقف سياسي وقبلي واضح –بغض النظر عن الدوافع- يساند فكرة استئصال الحوثي والثأر لكرامة الجيش المغدورة من الداخل!
في غمرة الحسابات المُعقدة لأطراف لعبة الحرب، كان حسين، يُعد جيشاً شعبياً لمساندة ألوية الفرقة الأولى مدرع في قتالها ضد الحوثي والنيران الصديقة.
حين كان الإخفاق مصيراً محتوماً لفكرة الجيش الشعبي، كنتاج للنهاية الدراماتيكية لجولة الحرب الرابعة، عاد إلى صنعاء ليتبنى موقفاً حاداً يرى في إيقاف الحرب خيانة وطنية عظمى.
مؤخراً، ودون مقدمات، تحول داعية الحرب الأول، إلى مبعوث سلام! وأخذ قائد الجيش الشعبي المُطالب باستئصال الحوثي يتحدث عن ضرورة عدم السماح بتجدد الحرب ومساندة جهود إحلال السلام!
مع أنه لم يكن بارعاً في إضفاء صبغة إقناعية لتبرير هذا التحول من نقيض إلى آخر، غير أنه بدأ يحقق تقدماً جزئياً في سبيل إنجاز الغاية المرجوة..
الدوافع بين الحالتين فارس مناع، أبرز تجار السلاح في المنطقة باعترافه، والممول الرئيسي بالسلاح –حسب الشائعات- لآنف جولات الحرب في صعدة، يؤسس مؤتمراً وطنياً للسلام الشامل في صعدة! وضع تناقضي آخر يماثل سابقه.
بالنسبة لفارس مناع فالدوافع أكثر اتصافاً بالتعقيد بعكس حسين الأحمر، غير أن اللافت يكمن في تشاطرهما جانباً واسعاً من دوافع المواقف المتناقضة.
في حالة حسين الأحمر، تبدو اتجاهات الريح في القصر الملكي السعودي أبرز تلك الدوافع وأكثرها تأثيراً.
بخلاف فارس الذي يمكن القول إن ثمة دافعاً شخصياً يقف وراء تخليه عن إمداد الحرب بلوازم الديمومة واعتناقه لمبدأ إحلال السلام عبر فكرة "مؤتمر السلام الوطني" الذي أعلن عن تأسيسه خلال مؤتمر صحافي يوم الأحد.
التباين الطفيف في الدوافع الرئيسية يناقضه التقاء مثير في الدوافع الفرعية..
فالرجلان لديهما شعور مشترك بالقلق من النتائج التي يمكن أن تترتب على اندلاع حرب سابعة.
البعد المؤامراتي يبدو حاضراً بقوة. فالتمدد الحوثي الذي تعاظم –في البداية- على حساب تحجيم النفوذ القبلي والمكانة الاجتماعية لفارس مناع ومشائخ صعدة، بات يهدد حالياً استئصال مناع وغيره من المشائخ بموازاة استهدافه لتحجيم نفوذ ومكانة قبيلة حاشد ورؤوسها وفي المقدمة حسين الأحمر.
إنها بتوصيف دقيق: مسألة وجود وبقاء، فالرجلان يدركان استحالة استئصال الحوثي، ويعلمان من واقع صمود الحوثيين في مواجهة دولتين، أن أي جهد أو حديث حول فكرة الاستئصال مضيعة للوقت ومدعاة للندم المبكر.
اكتمال الصورة هنا مرتبط باستغراق اضطراري في تفاصيل الدوافع بين الحالتين، ولكن كلٌ على حدة.
* التماهي مع التكتيك السلطاني حين كان التكتيك السلطاني في مملكة آل سعود يميل إلى خيار «استئصال الحوثيين» وإنهاء التهديد الذي قد يشكلونه في المدى المنظور على الأمن القومي لدولة توسعية مثل السعودية، كان على حسين كطامح بخلافة والده في موقع "الحليف الاستراتيجي للسعودية" أن يثبت استحقاقاً ميدانياً يتماهى بشكل كلي مع الرغبة السلطانية.
المساهمة في قرع طبول الحرب جسدت تفاصيل دور مرحلي قام الرجل بتأديته على أكمل وجه.
التغيير الطارئ على الأجندة السعودية والناتج عن أمرين: عودة الأمير سلطان بن عبدالعزيز من اعتكافه المطول في مدينة أغادير المغربية، وشعور الجناح السلطاني بمؤامرة مشتركة بين الحوثيين وجناح في النظام اليمني لإقلاق أمن منابع النفط السعودية، كل ذلك استوجب إظهار حسين الأحمر في شكل مناقض تماماً للدور الذي فرغ من تأديته تواً! ليبرز بالتالي في عباءة الصالحين الباحثين عن السلام والاستقرار!
ثمة لبس قد ينشأ هنا، فتناقضات حسين، حتى وإن بدت مرتبطة بتقلبات الطقس في القصر الملكي السعودي، غير أنها –في تقديري- لا تنطلق من تأديه التابع لدور توجيهي من المتبوع السعودي.
إذ هنالك اعتبارات أخرى تجعل الأمر يبرز على هذه الشاكلة، فحسين ومن ورائه حاشد، لا يرتبطان بتحالف استراتيجي مع الجناح السلطاني السعودي فحسب، نظرية المصير المشترك تشكل –إلى حد ما- رابطاً أكثر عمقاً.
وبالتالي فالإحساس الزائد لدى حاشد والجناح السلطاني بالبعد المؤامراتي بين الحوثي وجناح في السلطة اليمنية أمر يوقظ فكرة المصير المشترك التي تقتضي بالضرورة تقيداً صارماً بما يأتي من قصر الحمراء في السعودية!
* فارس بلا جواد! المتمعن فيما بين سطور إجابات فارس مناع عن تساؤلات الصحافيين في الحوارات الصحافية الثلاثة التالية لخروجه من معتقل الأمن القومي، يجد حضوراً لافتاً لنبرة قريبة إلى الندم منها إلى الألم!
لقد أتيحت لفارس فرص عديدة ليكون حليفاً استراتيجياً لسلطان بن عبدالعزيز، غير أنه آثر التمسك بتحالفه مع الرئيس علي عبدالله صالح، ضارباً عرض الحائط بكل محاولات التودد السعودية التي كانت ترمي لخطب تأييده وتحالفه.
داخلياً، ظل فارس متأرجحاً –وفق شواهد كثيرة- في الولاء المطلق بين العليين، منطلقه في ذلك كان نابعاً من إيمانه بضرورة الاحتفاظ بمسافة متساوية من الرجلين تكفل حماية موقعه كأبرز تجار وموردي الأسلحة ليس على مستوى اليمن بل والمنطقة..
لذا كان مقرباً من علي محسن الأحمر بدرجة القرب ذاتها من الرئيس!
ماذا لو أن "فارس" كان حليفاً لسلطان بن عبدالعزيز ورجلاً من رجال علي محسن (المخلصين) هل كان ليُلقى به في غياهب سجون الأمن القومي!
هنا مربط الفرس بالتأكيد، فاحتجازه في الأمن القومي تم –حسب ما نُشر وذاع- على خلفية ضغوط مكثفة مارسها الجناح السلطاني في مملكة آل سعود، كما أن عدم ارتباطه بتحالف (مصيري) مع علي محسن لم يدفع هذا الأخير لاستخدام نفوذه وعلاقته بالرئيس لتخليصه من المعتقل.
ببساطة: لقد اكتشف فارس أنه بلا جواد ولكن بعد فوات الأوان! وأدرك أخيراً أن حساباته لم تكن صائبة لا سيما بعد ان قدمته صنعاء كقربان لإرضاء الرياض، وهو أمر دفعه لإعادة التموضع والإنصات لنصائح صديقه المُقرب حسين الأحمر الذي ما انفك –حسب مقابلة صحفية لفارس مناع نفسه- يحاول جره إلى بناء علاقة ثقة مع الأمير سلطان تقيه غدر الأصدقاء والحلفاء قبل الأعداء!
*وماذا بعد.. الوجه الذي لست قادراً على صفعة قم بتقبيله! ثمة مثل شعبي بهذا المعنى يشخص جزءاً من الدوافع، فأرباب المواقف المتناقضة وحلفاؤهم باتوا يدركون استحالة إنهاء الخطر الحوثي عبر المواجهات المسلحة..
تماماً مثل إدراكهم لوجود بعد مؤامراتي بين الحوثي وجناح معين في السلطة، وهو ما سبق لفارس مناع أن عبر عنه في حواره الأخير لموقع إيلاف السعودي بالقول: هنالك تواطؤ من قبل الجيش في تزويد الحوثيين بالسلاح وكأنهم – أي الحوثيين- وحدة تابعة للجيش اليمني.
إذن ليس في وسع تاجر السلاح سوى أن يُنحّي تجارته جانباً ليلعب دور رجل السلام، تماماً كما هو حال داعية الحرب الذي أضحى رجل سلام أيضاً.
بالنسبة لهؤلاء، ليس مهماً كيف حققت أو ستحقق غاياتك، المهم أنها تحققت أو ستتحقق!، بعبارة أكثر وضوحاً: مادام تحقيق الغاية (البقاء والنفوذ) مرتبطاً بتغيير الوسيلة (كتبني مواقف متناقضة مثلاً) فلا ضير من إخضاع الوسيلة لتقلبات الطقس وتلوينها بكل ألوان الطيف!
باختصار: إنه منطق ميكيافيللي الذي يجعل الغاية محدداً لهوية الوسيلة! أليس كذلك؟