استفتح مجلس النواب جلسته أمس بصوت أوراس سلطان ناجي. وأصاب أعضاء البرلمان حالة من الذهول وهم يستمعون إلى زميلتهم الوحيدة أوراس وهي تقرأ المحضر على المنصة مستعرضة قدراتها ومهاراتها اللغوية والخطابية أمامهم. قرأت أوراس المحضر واتضح أن هذه المرأة تتفوق على الجميع. إذ لا أحد من الرجال يضاهيها في الصوت ولا يجاريها في الإحكام بزمام اللغة. إنها شجاعة. كما وأيضاً تجيد العربية الفصحى. من قال إن الرجال أفضل؟ لقد بدت متماسكة ولم يسجل عليها حالة تلعثم واحدة أو تعتعة أبداً. ورغم أنها للمرة الأولى تتكلم في البرلمان، وأنها المرأة الوحيدة في القاعة، فإن أوراس على خلاف الرجال كانت تنطق الرقم (2) وتقول اثنان. كثير من الرجال عندما يقرأون المحضر تبان عوراتهم اللغوية ويخطئون من أول جملة. فمثلاً في أول جملة: عقد مجلس النواب جلسته الاعتيادية ال12. تجد البعض ينطق "جلسته" بالكسر ويقول "جلستهِ". وعندما يصلون إلى ال12 ينطقونها الثانية عشر. أما أوراس فإنها تنطقها هكذا: الثانية عشرة، و"جلسته" تنطقها بالفتح وتقول "جلستَه". لا أحد يستطيع أن ينكر تفوق أوراس. ولا أتذكر عندما كانت تقرأ هل كان الكل يحدق فيها بانبهار أم كان البعض مطأطئ الرأس إلى القاع. وحتى بالمصادفة، كانت جماعة النواب الأميين أمس غائبة. لم يكن أحد حاضر. ولا حتى من أولئك الذين يشغلون يحيى الراعي من الصباح ويترجون، كل يوم قبل أن تبدأ الجلسة: "أنا شا أقرأ المحضر اليوم أنا". الحياة البرلمانية اليمنية رجالية بامتياز. فالقاعة كلها رجال. سواءً أعضاء المجلس أم أعضاء السكرتارية. وحتى الصحفيين، ليس بينهم "بنت" واحدة. أوراس وحدها تحضر وسط هذا الجو الملبد بالصراخ و"الذكورية". أوراس لا تكثر الغياب، ولئن حضرت فإنها لا تتكلم ولا تمد يدها لمصافحة كل الرجال. لقد اكتسبت خبرة طويلة، وخبرتها الأيام والسنون أن من الرجال من يصافح ومنهم من لا يصافح. كما أنها لا تجلس في أي بقعة. إنها تقدر اليمنيين كلهم والأحزاب كلها، لكنها لا تفضل أن تقعد بعيداً عن "حارة الحضارم". تصل القاعة في وقت متوسط. لا "تبكر بدري" ولا تأتي متأخرة كثيراً. غالباً ما تصل والجلسة على وشك البدء. وكما يفعل الجميع؛ تمر على السكرتارية توقع حضور وتبتسم للسكرتارية ثم تتحول يساراً وتخط طريقها باقتدار إلى الغرب من "حارة الحضارم". مثلها مثل أي نائب توقع على الحافظة، وتغادر أحياناً بعد نصف ساعة. لكن أوراس، مثلها مثل عم عبده بورجي وشيخ سنحان أبو حورية، لا تأخذ أي أوراق أو أدبيات من السكرتارية. كما وأيضاً لا تذهب إلى البوفية ولا تصعد إلى منصة هيئة الرئاسة مثلها مثل النائب علي العمراني. لدى أوراس أصدقاء في القاعة كما لها أيضاً خصوم. مثلاً تراها ترتاح لعبد الرحمن بافضل وعبدالواسع هايل ونبيل باشا ونائب "القُطيع" علي محمد قاصرة. والأخير يتحفها لابد بلهجته وضحكته التهامية الأصلية. وأيضاً بأسئلته شبه اليومية. يجيد يحيى الراعي انتقاء الأشخاص للكلام أو لقراءة المحضر، كما يجيد التعليق عليهم. ويوم أمس اختار أوراس لقراءة محضر الجلسة السابقة فجأة. ولبََّت الطلب بمنتهى الهدوء والاطمئنان كما لو أنها تقرأ هذا المحضر كل يوم. فقرأته وعادت مكانها يستقبلها بافضل وشلة من نواب المحافظات الجنوبية. في حدود العلم، هذه هي المرة الأولى تتكلم فيها "أوراس" داخل القاعة. ولكن الزميل نبيل عبدالرب أكد لي أنها المرة الثانية. فقد سبق وأن اختارها الراعي لقراءة المحضر قبل عامين متعمداً أمام زوار من البرلمان الأوربي فيهم نساء. عموماً ليس أوراس وحدها الخبر البرلماني الجديد. هذا الأسبوع، ويا للصدفة، تكلم اثنان من الصامتين أيضاً. الأول تحرك تحت ضغط الحاجة والضرورة، وربما التحدي، وأمسك الميك. إنه أحمد عباس البرطي يتحدث إلى النواب للمرة الأولى في حياته. لكن الأخير كان يرتجف من رهبة المكان، وكان الراعي "يدف" معه من على المنصة ويشجعه "هيا اتحاكى مالك.. اتحاكى بس ورفعتا صوتك". في مداخلته يوم السبت، شكى البرطي لزملائه ما لحقه من ضرر بسبب السجن. وناشدهم الوقوف معه ضد من حبسه بالمخالفة للقانون والدستور، وعرض حياته وأمواله وسمعته لأضرار بليغة. وفي اليوم الثاني، من هذا الأسبوع نفسه، نائب مديرية الجراحي وصاحب الشال الأخضر الملفوف على الرقبة، منصور عبده واصل يطلب صلاة الاستسقاء. كان يتحدث من أقصى أطراف "حارة الحديدة" المهجورة. وكان مستاءً جداً من بعض خطباء المساجد وقلق "من تأخر نزول المطر". منصور عبده واصل خطيب مفوه وبرلماني قديم وكان يخاطب القاعة من بعيد ويصيح وهم منهمكون في نقاش تقرير لجنة المياه والبيئة: "اتقوا الله، شغلتكم الدنيا، اطلبوا من الله يسقينا الغيث واستسقوا وصلوا أرحامكم. ليش الكبرة والنخيط". هذا النائب الحُديدي النحيف والخفيف الحركة، أسكت القاعة، وحوَّل رؤوس أصحابها غرباً. الجميع ينظر إليه وكان الراعي يحدق فيه باستغراب وتأمل في ما يقوله بتماسك. وفي النهاية قطع الميك عنه قائلاً: "منصور، منصور، إنا ما دخلنا في الموضوع هذا. احنا نناقش تقرير المياه والبيئة الله يهديك".