يتوجب على طائرات الجيش المقاتلة أن تقلع مرتين من قاعدتها العسكرية بمطار صنعاء للإغارة على المناطق المشتبه بتحصن مسلحي تنظيم القاعدة فيها بمحافظة أبين، وقد يتطلب الأمر أكثر من ذلك. وفي البر، تستخدم القوات الحكومية الدبابات والمدفعية وما دونهما من السلاح المتوسط والخفيف في معارك منهكة ومستفزة، تبدو في البداية سهلة ومضمونة الحسم وتلوح جماجم المقاتلين المتشددين في مرمى الآلة العسكرية ثم تصعب وتتعقد تدريجياً حتى تغدو مهمة مستحيلة، لا مناص من اتفاق مع المتشددين أنفسهم للخلاص من كابوسها والعودة بالقوات إلى أدراجها.
لا ينقص المشهد في مديريات أبين عناصر أخرى ليبدو ساحة حرب حقيقية منذ الخميس الماضي، فهناك طيران يغير وجنود يسقطون قتلى وآليات تتقدم ومقاتلون ينصبون الكمائن المتقنة ولا يستسلمون.
اندلعت المعارك الشاملة صباح الخميس الماضي حين اغتال المسلحون المرتبطون بتنظيم القاعدة مدير أمن مديرية مودية الرائد عبدالله محمد البهام الذي كان في طريقه برفقة دورية أمنية إلى ميدان عام في عاصمة المديرية حيث تحتشد جموع في الحراك الجنوبي لإحياء الذكرى السابعة والأربعين لثورة أكتوبر.
ولم يكن النهار قد انتصف حتى كاد كمين آخر يودي بحياة محافظ أبين أحمد الميسري الذي قضى شقيقه وجندي وأصيب خمسة في الكمين نفسه.
لم تخف وتيرة الأحداث في ذلك اليوم بعد، فعند عصر الخميس سيهاجم المسلحون دورية أمنية في مدخل مدينة مودية فيقتلون جنديين قبل أن تندلع اشتباكات عنيفة بين المسلحين والقوات الحكومية في المساء على مشارف مودية حين هاجم المسلحون رتلاً من الآليات المدرعة والمركبات العسكرية ليعثر السكان في اليوم التالي على ثلاث جثث محترقة رجحوا أن تكون لجنود سقطوا في الاشتباكات.
سيكون السبت يوماً مماثلاً لسابقيه في العنف مع اشتراك الطيران الحربي في القتال لإخماد قوة المسلحين الذين قتلوا جنديين وأصابوا ستة آخرين في هجوم على دورية أمنية بمودية وأعطبوا دبابتين كانتا ترافقان الدورية وفقاً لمصادر محلية لكن مصدراً حكومياً نفى إعطاب الدبابتين. وعقب هذا الهجوم، أغارت المقاتلات الحربية على مناطق تقع بين لودر ومودية يعتقد أن مقاتلي القاعدة يتحصنون فيها.
وكان مدير جهاز الأمن السياسي بمديرية أحوار العقيد عبيد علي مبارك قد أصيب في اليوم ذاته في انفجار عبوة ناسفة زرعت في سيارته إضافة إلى خبير مفرقعات كان يحاول إبطال العبوة.
واحتاجت القوات الحكومية إلى غارتين جويتين يوم الأحد لضرب مواقع في منطقة آل فحطان بمودية يعتقد أن مسلحي القاعدة يختبئون فيها.
يمثل القتال الجاري في مديرية مودية جولة ثالثة من القتال المتنقل بعد المعارك التي وقعت في لودر بأبين والحوطة بشبوة خلال أغسطس وسبتمبر الماضيين.
وغير خفي أن هذه المواجهات الثلاث تعلن نمطاً جديداً من القتال الذي لم يكن مألوفاً البتة لدى تنظيم القاعدة في اليمن وهو نمط يستبدل أسلوب قتال العصابات بالهجمات التفجيرية الانتحارية التي اقترنت بالقاعدة وازدهرت على يدها في اليمن وباقي بلدان العالم.
وتتجلى الطريقة الجديدة في قتال القاعدة واضحة المعالم في المعارك الجارية في مودية وقبلها في الحوطة ولودر؛ فضلاً عن الهجمات الخاطفة ضد قوات الجيش وضباط الاستخبارات والأهداف العسكرية الأخرى في مناطق الجنوب منذ يونيو الماضي.
قتلت هجمات التنظيم منذ يونيو عشرات الجنود بما فيهم ضباط الاستخبارات وطالت مقرات لجهاز الأمن السياسي والأمن العام في عدنوأبين والضالع ولم يسقط من المسلحين الذين نفذوا تلك الهجمات أحد قتيلاً أو يقع في قبضة القوات الحكومية خلال تنفيذ الهجمات باستثناء انتحاري فجر نفسه في مقر الأمن العام بمدينة الضالع في أغسطس الماضي.
وحتى في مواجهات الحوطة ولودر، تجنب المسلحون الالتحام المباشر مع قوات الجيش التي كانت تضرب عليهم حصاراً من كل الجهات واتبعوا تكتيكات بديلة، نجحوا من خلالها في توفير العنصر البشري والسلاح وإطالة زمن المعركة إلى أن حصلوا على اتفاقات، سمحت لهم بالانسحاب طبقاً لما تداولته الصحافة المحلية.
ويتبع مقاتلو القاعدة في هجماتهم الخاطفة ضد ضباط الاستخبارات والأمن القاعدة الذهبية لحرب العصابات القائمة على مبدأ «اضرب وامشِ» والكر والفر كما تظهر هذه القاعدة في مواجهات مودية الحالية.
يرصد هؤلاء المقاتلون هدفهم من الضباط الأمنيين بدقة وحين يتأكدون من إمكانية النيل منه، يقبل اثنان منهم على متن دراجة نارية فيفرغ أحدهما الرصاص في رأسه أو صدره ثم يلوذان بالفرار دون أن يتعقبهما أحد.
وفيما يخص المواجهات، فهم بارعون في نصب الكمائن ثم الفرار. وفي هذه الحال يكفي أحدهم أن يطلق قذيفة آر بي جي صوب آلية عسكرية فيقتل كل من بداخلها من الجنود. وهذا يغنيه عن نتائج أيام من المواجهات التقليدية. وقد أفصح القائد العسكري في تنظيم القاعدة بجزيرة العرب قاسم الريمي منتصف الأسبوع الماضي عن هذا الأسلوب الذي بات مفضلاً لدى تنظيمه وأطلق على شقه المتصل باغتيال القادة العسكريين «القنص ثم الفرار» وهو توصيف دقيق لما يحدث.
ويضيف الريمي الذي بث له التنظيم الأسبوع الماضي مقطع فيديو مسجل "نحن نسعى لذلك دون اللجوء إلى إقامة الجبهات ذات الخطوط والمواقع". ويمضي في القول إن مقاتليه «يسعون لجر القوات اليمنية إلى مواجهات يومية استنزافية».
تكمن خطورة استراتيجية القاعدة الجديدة القائمة على حرب العصابات في أنها حرب مرهقة واستنزافية بالفعل كما أنها خادعة، يخال للجيوش النظامية أنها قادرة على حسمها في أول جولة ثم ما تلبث أن تغرق فيها وتلوذ في النهاية إلى مفاوضة الجماعات المقاتلة.
ووفقاً لنتائج العمليتين العسكريتين اللتين شنتاهما القوات الحكومية في لودر والحوطة، فلن يكون بمقدورها حسم أي مواجهة من هذا النوع، فالمسلحون الذين قاتلوا في لودر ها قد عادوا للقتال في مودية بخبرة ميدانية مكثفة وإرادة قتالية أكثر فتكاً والأهم أن لا مفهوم محدداً للحسم في مواجهة الجماعات المقاتلة وفق حرب العصابات، فلا رقعة جغرافية معينة يمكن احتلالها ولا جيش نظامياً مقابلاً يمكن هزيمته وإخضاعه حتى يمكن القول إن المواجهة قد حُسمت.
وإضافة إلى ذلك، تجتر القوات الحكومية تجربة مريرة مليئة بالإخفاقات في قتال الجماعات السيارة، تلك التجربة آتية من صعدة حيث خاض الجيش ست جولات من القتال الطاحن ضد المسلحين الحوثيين، امتدت لست سنوات ولم يحسم أياً منها؛ ذلك أن قيادته وقعت في فخ هذا النوع من الحروب وكانت تشرع في كل جولة قتال بضربات مكثفة على مواقع الحوثيين ومناطقهم تنفيذاً لخطة عسكرية افترض واضعوها إنهاء القتال خلال أيام قليلة لكنه كان يمتد لأسابيع ثم لأشهر وفي الأخير يوقف الطرفان الحرب باتفاقات لا بحسم عسكري.
يحتاج التحدي الذي تفرضه جماعات مقاتلة متنقلة إلى أساليب وأدوات مختلفة لا علاقة لها بتجميع كتائب الجيش الخارجة عن الجاهزية، أو حشد أرتال الدبابات والآليات العسكرية لمطاردة بضعة مقاتلين في الصحارى وسلاسل الجبال الوعرة، كما في الحالة اليمنية.
والكلمة الفاصلة في التعامل مع حروب أو جماعات كالتي للقاعدة في اليمن هي للمعلومة الصحيحة التي تغدو أفضل من صاروخ متطور أو سرية من الجند في هذه المعركة. أما قناة هذه المعلومة فأجهزة الاستخبارات وبواسطة هذين العاملين الحاسمين يمكن تفكيك مثل هذا النوع من الجماعات وشل فاعليتها القتالية أو على الأقل، إفشال حدة هجماتها السافرة.
لا بد أن التسليم بفاعلية هذين العاملين، يسلط الضوء على دور الاستخبارات الوطنية المشلول تماماً في المواجهات الأخيرة مع مقاتلي القاعدة ومن قبلها الصراع العسكري في صعدة.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشرع القاعدة بضرب مكتب جهاز الأمن السياسي في عدن في أولى هجماتها التي بدأتها الصيف الماضي وهو مكتب مسؤول عن محافظات عدن ولحج وأبين.
يشبه ذلك الهجوم رسماً ساخراً للاستخبارات الوطنية المنوط بها إدراك دقائق الأخطار وهي تستغيث بلا حماية وقد تلقت ضربة موجعة وصلت إلى العمق منها.
علاوة على الفساد المتغول في أجهزة الدولة التي يحرم استقصاء أوضاعها المعفية من الرقابة غير الفاعلة في الأساس؛ فإن الانحراف بمهام جهازي الأمن السياسي والأمن القومي من حماية أمن البلاد إلى حماية النظام الحاكم وترصد المعارضين؛ قد أفسد طبيعتهما وميَّع أداءهما، ولو كان من بقية دور حقيقي لهما لظهر في هذا التوقيت العصيب، بدلاً من الإعلانات المتكررة لوزارة الداخلية عن رصد ملايين الريالات جوائز لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض على بضعة «إرهابيين».