من الضرورة كصحفي أن أزور صحيفة يابانية متخصصة بشؤون الأعمال والاقتصاد، وهذه الصحيفة التي قدمها رئيس تحريرها السيد يوزو واكي أنها "صحيفة صغيرة ومتواضعة" تطبع يومياً 3 ملايين نسخة من 50 مليون نسخة هي إجمالي ما تطبعه صحف ومجلات اليابان يومياً. وهذا يعني أن لكل أسرة يابانية (متوسط حجم الأسرة اليابانية 3.22 فرد، وعدد السكان 130 مليون) معدل 1.2 صحيفة يومياً. لو أن ناشرو الصحف اليابانية يعلمون أن صحفهم لا تقرأ، لن يستمروا في العبث. وبحسب بعض الدراسات المنشورة على شبكة الإنترنت فإن متوسط القراءة لكل فرد في المنطقة العربية يساوي 10 دقائق في السنة مقابل 12 ألف دقيقة للفرد الواحد في اليابان والدول المتقدمة. كما أكدت الدراسات أن عدد الكتب المتوفرة للطفل العربي، مثلاً، لا تزيد عن 400 كتاباً في السنة مقارنة بالطفل الأمريكي والياباني المتوفر لهما 13260 كتاباً في السنة، والطفل البريطاني 3837 كتاباً، والطفل الفرنسي 2118 كتاب، والطفل الروسي 1458 كتاب في السنة الواحدة. وأفادت الدراسات أن كل 20 طفلاً عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة بينما يقرأ كل طفل ياباني 7 كتب تعادل 140 ضعف عدد الكتب التي يقرؤها الطفل العربي. وأطفالنا الذين لا يقرأون وهم في فترة الدراسة والتحصيل العلمي، لن يقرءون وهم في فترة الكسل الوظيفي أو البطالة. خمسون مليون نسخة يومياً كفيلة أن تحيل غابات اليابان الشاسعة إلى صحراء جبلية بركانية (خصوصاً و75 إلى 80 بالمائة من أراضي اليابان عبارة عن جبال بركانية خضراء)، لكن عملية إعادة تصنيع الورق يسهم في الحفاظ على الطبيعة وكذلك يقلل من تكلفة إنتاج ورق جديد.
لا يقلق اليابانيون عند تلف الأوراق تماماً وعدم قابليتها لإعادة التصنيع، يجمعون كل النفايات ويعالجونها بطريقتهم، تمكنهم من استخدامها في ردم البحر وبناء جزر صناعية، يقيمون عليها أحياء سكنية أو مدناً تجارية، كجزيرة أوديبا التي تقع على شواطئ طوكيو العاصمة، حيث ينتصب مجسم لتمثال الحرية، ويصلها بوسط طوكيو جسر قوس قزح الشهير، والذي يعد معلماً بارزاً في طوكيو.
اليابانيون أقاموا جزراً صناعية من النفايات، ليس لأنهم بحاجة إلى مساحات، بل لأنهم يحافظون على الطبيعة ويستفيدون من نفاياتهم. نحن لا نستفيد حتى من ثرواتنا. كم نبدو عبثيين!
لك أن تندهش عندما تدرك أن إجمالي ما ينشر في اليابان فقط يومياً أكثر بكثير مما ينشر في الشرق الأوسط من صحف، يمكن أن تقول عليها صحف. لن أتحدث عن الصحافة الورقية في اليمن لأن أكبر صحيفة لا يزيد عدد نسخها عن 40 ألف نسخة من العدد الواحد، وفي أحسن الظروف). كم نبدو أقزاماً ومتخلفين في كل شيء! ربما لو أنه من المسموح دينياً وثقافياً نشر صحافة المراهقين والشباب والمطبوعات الجنسية ونحو ذلك، لانطلقت أرقام المبيعات من وضعها الحالي البائس نحو الفلك بسرعة فلكية أيضاً. دعونا نعلل أن الصحافة من هذا النوع تستهوي اليابانيين، وأن نسبة الأمية المرتفعة في بلداننا وسياسات التجهيل ليست إلا سبب ثانوي.
أما عن متوسط الدخل الشهري لصحفي متمرس إلا أنه في منتصف عمره المهني يصل إلى 10 آلاف دولار شهرياً، ومقارنة بنظيره اليمني في نفس العمر والمستوى، فإنه قد يتقاضى ذات المبلغ لكن خلال عام كامل من العمل. ولكل ما يؤثر على دخله من ظروف المعيشة والضرائب ونحو ذلك. وعن حرية الصحافة وحق الحصول على المعلومة فيكفلهما الدستور الياباني، ولا توجد سجون ولا محاكم صحافة كما هو الحال في بلدي. ويحاكم الصحفي في حال المخالفة أو الإساءة بالقوانين المدنية.
وإن كنت أتفق كثيراً مع ما ذهب إليه الكاتب الياباني نوبوأكي نوتوهارا الأستاذ الجامعي في قسم الدراسات العربية بجامعة طوكيو، في رصد انطباعاته عن الشارع العربي وإشارته إلى حرية الصحافة كواحدة من مستلزمات الديمقراطية، فيقول: "إن الناس في شوارع المدن العربية غير سعداء، ويعبر صمتهم عن صرخة تخبر عن نفسها بوضوح، بسبب غياب العدالة الاجتماعية". كما أنه يلاحظ كثرة استعمال العرب لكلمة "ديمقراطية"، وهذا لا يعبر سوى عن شيء واحد: عكسها تماما، ألا وهو القمع والديكتاتورية. ولهذا القمع وجوه عدة: منع الكتب، غياب حرية الرأي وحرية الكلام وتفشي ظاهرة سجناء الرأي، بحسب رأيه.
نوتوهارا كتب هذه الانطباعات قبل سنين عدة وها هو الحال كما هو عليه، لو أن الشارع العربي هذه الأيام يعيش سعادة الثورة الشعبية في تونس، بل ولم يعرف أن الكبت في هذا البلد هو ما ولد انفجار الثورة الشعبية التي أبهجت الشارع العربي.
وفي جامعة إنترناشنال كريسشان ألقيت محاضرة لطلبة الإعلام والدراسات الاجتماعية حول الإعلام في اليمن: الواقع والتحديات. وشدني كثيراً اهتمام الطلاب وتركيزهم على بعض التفاصيل التي تحولت إلى أسئلة تلت المحاضرة من المشاركات والمشاركين. سألتني طالبة أوروبية عن صورة مسلمي الغرب في الإعلام المحلي والعربي، وسألني ياباني أن أقارن مثلاً بين الإعلام اليمني والسعودي وكيف يؤثر التشدد الديني في الإعلام؟ أجبت بما أعرف ونصحت بالبحث أكثر. أكدت لي الآنسة شيميزو أكيكو- الطالبة الجامعية التي رتبت اللقاء- أن العرض الذي قدم والنقاش فتح أعين المشاركين على اليمن وربما المنطقة التي أتيت منها. فتاة جميلة وشابان من قناة (إن إتش كيه) القناة الشعبية الأكبر في اليابان، تعمل بنمط تقليدي جداً، بحيث يأتي تمويلها ليس من المعلنين بل من المواطنين الذي يدفعون اشتراكات شهرية، يتم تحصيلها من قبل آلاف المحصلين. وبما أنك لديك جهاز تلفزيون بالبيت فعليك أن تدفع رسمك الشهري للقناة، شاهدت برامجها أم لم تفعل. ربما تضمن بهذا الأسلوب استقلاليتها وديمومة التمويل الذي ينعكس إيجاباً على المنتج وكذلك إعالة قرابة 30 ألف موظف يعملون في مختلف إدارات وفروع الشركة.
الحديث عن الشرق الأوسط والسياسات الغربية والعربية والاحتلال الإسرائيلي والمد التركي جنوباً بموازاة المد الإيراني، كان شيقاً للغاية –(وكنت مثل ذلك الذي عاد إلى منزله بعد رحلة طويلة. كصورة نمطية، فنحن العرب واليمنيون خصوصاً نحب الحديث في السياسة) أو ربما كان ما يعرفه هؤلاء. لم يمكن بإمكاني أن أتحدث مع الثلاثة الذين تبدو عليهم ملامح الجدية عن أمور أتحدث بها مع صديقي "السورماني" عبيدة فارس مثلاً، أو صديقي اللبناني الصحفي جهاد الملاح.
عندما تعود ل"النزل"، وهذه معناه الفندق أو مكان الإقامة باللهجة التونسية، عليك أن تكون حصيفاً في اختيار وجبة العشاء. كل الأطباق تشبه بعضها إلى حد كبير، كما يتشابه اليابانيون. الدجاج أقرب الخيارات، لذا عليك ألا تجهد نفسك في البحث عن تفاصيل الوجبات في قائمة المطاعم اليابانية، إذا كنت لا تحب السوشي أو التامبورا كثيراً أو مللت منهما.