نيقولاوس ك كوسديف * إن سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يعتبر آخر رسالة تذكير بمدى التعقيد الذي يمكن أن يحفز "الحكام الأصدقاء المستبدين" في منطقة الشرق الأوسط وجميع أنحاء العالم لإجراء إصلاحات. وإنه من المحتمل، وفي ضوء مصير بن علي، أن يراجع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح تقييم النصيحة بخصوص المضي قدما في التحرر السياسي، والتي قدمتها له وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون خلال الزيارة التي قامت بها في وقت سابق من هذا الشهر إلى اليمن. إلا أن صانعي السياسة في واشنطن مترددون أيضاً. فقد كانت حكومة الرئيس بن علي غالباً ما توصف بأنها "حكومة استبدادية ليبرالية"، حيث نشرت الدولة نسخة الإسلام الأكثر توافقا مع القيم الليبرالية من تلك الإسلامية التي أنعشت الإخوان المسلمين في مصر المجاورة. كما أن الحكومة التونسية كانت أيضا داعمة لعملية السلام مع إسرائيل تحت رعاية الولاياتالمتحدة، إلى جانب أنها كانت "حليفا رئيسيا في الحرب ضد الإرهاب". في وقت سابق، من عام 2003، أنا نفسي صنفت تونس بأنها "دولة الحزب الواحد الليبرالية"، وتساءلت فيما إذا كانت تتجه في الطريق لتصبح بمثابة "سنغافورة شمال أفريقيا". وفي العام الماضي فقط، كان تقييم البنك الدولي لتونس ايجابيا بشكل عام، مشيرا، من بين أمور أخرى ، إلى أن "تونس حققت تقدما ملحوظا في النمو المتوازن، ومحاربة الفاقة وتحقيق مؤشرات اجتماعية جيدة". وأشار البنك إلى الزيادة الثابتة في نصيب دخل الفرد، والاستثمار العام في البنية التحتية، والرأس المال البشري، باعتبارها تلعب أدوارا رئيسية في الحد من الفقر. إن واشنطن ليست وحدها التي تخوض الاختبار لتحمل عواقب إزالة بن علي المفاجئ. فالحكومات الفرنسية المتعاقبة دعمت النظام التونسي، وتشيد بالتزاماته بالتنمية الاقتصادية وإنجازاته في مجال التحصيل العلمي، ودعمه لحقوق المرأة، كما أشادت أيضاً بموقف النظام التونسي الثابت ضد التطرف الإسلامي. والواقع أن وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل اليوت ماري كانت عرضت حتى المساعدة الفرنسية في مجال تدريب قوات الأمن التونسية للتعامل مع الاحتجاجات العنيفة في الأيام التي سبقت بشكل مباشر الإطاحة بالرئيس بن علي. بالنسبة لكليهما، باريس وواشنطن، هناك قلق حول ما هو التالي؟ فليس هناك ما يضمن أن من سيحل محل نظام زين العابدين بن علي سيكون الأفضل. فالواقع يؤكد بأن الواجهات الديمقراطية في كل من لبنان والعراق شجعت الحركات المناهضة للولايات المتحدة كحزب الله وجيش المهدي التابع لمقتدى الصدر الذين أكسبتهم صناديق الاقتراع تمكين كل الميليشيات المسلحة من إعادة صناعة نفسها كلاعب سياسي رئيسي. وبينما أن الإمكانية بأن ينجح الإسلاميون التونسيون في الوصول إلى السلطة كانت بعيدة جداً، فإن تونس التي تعيش اليوم فترة عدم الاستقرار السياسي تبدو وكأنها تسعى لأن ترسم لنفسها مساراً آخر لما بعد بن علي. الأمر الذي سيجعل الحكومة التونسية أقل استجابة لمخاوف الولاياتالمتحدة. بطبيعة الحال، كانت هناك علامات تحذيرية في تونس، إلا أن المشكلة ثنائية الرأس التي واجهتها هناك كل من واشنطن وباريس على حد سواء، لا تعتبر هي المشكلة الوحيدة في هذا البلد. فهي في الواقع تعتبر واحدة من المشاكل التي تواجهها الولاياتالمتحدة في جميع أنحاء العالم. وعلى وجه التحديد، فهي تتضمن كيفية الحصول على "أنظمة استبدادية صديقة" تنجح، بدلا من قمع التعددية، في تأسيس واجهة ديمقراطية بشكل تدريجي، وفي الوقت ذاته: كيفية ضمان إعادة توزيع فعال للثروة، وإتاحة الفرص الاقتصادية لتلبية "احتياجات الشباب الوظيفية المتزايدة ". حتى تقلل من احتمال حدوث اضطرابات. تقرير البنك الدولي 2010 كان حذر من هذه المشاكل، منوهاً إلى أن "الاقتصاد التونسي لا يزال غير قادر على خلق فرص عمل كافية لتوظيف القوى العاملة المتزايدة"، وأن هذا العبء كان على نحو متزايد "يقع على الشباب والأفراد المتعلمين"، مع خريجي الجامعات الذين يعانون من معدل بطالة يصل إلى 25 في المئة. وألمح التقرير الدولي أيضا إلى أن انعدام الإصلاح السياسي يأتي كعامل مساهم في زيادة الأعباء، مشيرا إلى أن تونس لم تتمتع بنفس الدرجة من النمو الاقتصادي التي تمتعت بها دول مثل تركيا وماليزيا –كلا الدولتين انفتحت بشكل ملحوظ على أنظمتها السياسية في العقد الماضي. إلا أن هذا يقودنا إلى المشكلة التي وصفها إيان بريمر في كتابه "المنحنى- J : طريقة جديدة لفهم أسباب نهوض الأمم وسقوطها" الصادر عام 2006. ويقول بريمر بأن الأنظمة السياسية المغلقة، يمكنها أن تتمتع بدرجة عالية من الاستقرار الذي يتحول إلى مخاطر حينما تبدء الأنظمة في عملية التحرير. وكما لاحظ بريمر: "بالنسبة لبلد (مستقر كونه مغلق) فإنه ولكي يصبح بلداً (مستقراً بسبب انفتاحه)، سيتوجب عليه أن يمر عبر فترة انتقالية من عدم الاستقرار الخطر". قلة من الأنظمة تبدأ هذه العملية عن طيب خاطر [بقناعة]، لكن بعضها يقوم بذلك إذا كانوا يعتقدون بأنه لا يوجد بديل آخر. وفي تونس، فإن زين العابدين بن علي لم يقف على هذه النقطة على الإطلاق. الزعماء الأمريكان ونظراؤهم الفرنسيون، يصرون على أنهم وبشكل منتظم كانوا يعرضون مسائل حقوق الإنسان، والإصلاح السياسي والفساد، أثناء لقاءاتهم مع الرئيس بن علي وحكومته. لكن واشنطن ما كانت لتلوح بخطر العواقب الوخيمة على حكومة عربية تعتبرها كواحدة من أكثر النظم استقرارا وموالاة لأمريكا في المنطقة، ولديها التزام طويل المدى للتعايش مع إسرائيل. وكان الافتراض بأن الرئيس التونسي بن علي سيدرك -حينما كانت كلينتون تشير لزعماء عرب آخرين في قطر الأسبوع الماضي، أن "مؤسسات المنطقة تغوص في الرمل" بسبب تباطؤ الجهود نحو الإصلاح السياسي والانفتاح الاقتصادي، وأنه بمجرد معرفته بوجود الخطر، فإنه في نهاية المطاف "سيعمل الشيء الصحيح". إلا أنه لم يفعل ذلك، كما أنه ليس هناك أي علامة بأن زملاءه السابقين مستعدون لتبني البرنامج الديمقراطي المنعش المقدم من قبل واشنطن. السؤال الذي من الضروري أن يكون الآن، هو: إذا كان الإصلاح السياسي، لاسيما في العالم العربي، هو أمر حيوي لمصالح الأمن القومي الأميركي، فما هو شكل أو مظهر الأجندة المطلوبة للإصلاح؟ بريمر نصح "الدول المتقدمة بضرورة أن تعمل على تهيئة ظروف مناسبة أكثر لعبور آمن بالنسبة لنظام مغلق، من خلال الجزء الأقل استقرارا من منحنى J – ومع ذلك فإن الانزلاق نحو عدم الاستقرار يمكن أن يحدث في أي وقت". والبعض من هذا يستلزم تأمين البيئة الاقتصادية الخارجية. إن الانكماش الاقتصادي الذي منيت به بعض بلدان اليورو –المحرك الرئيسي للنمو في تونس- ساعد على خلق الظروف التي أطلقت شرارة الاضطرابات التي أطاحت في نهاية المطاف بالرئيس زين العابدين بن علي. ولكن هناك بعد آخر أيضاً، وهو أمر ربما يكون أقل استساغة إلا أنه على الرغم من ذلك يعتبر رئيسياً، وهو: الحاجة إلى ضمان أن المنتفعين من النظام يمكنهم إلى حد ما المحافظة على مصالحهم الحيوية، حتى يقررون إحداث مزيد من الانفتاح. إن جزء من عدم الاستقرار على طول منحنى- J بحسب ما يصوره بريمر يرجع إلى حقيقة أنه في العديد من الأنظمة الاستبدادية، فإن النخب القائمة تدرك أن أي تغييرات في الوضع الراهن ستؤثر سلبا عليهم: إنهم عرضة لخطر فقدان الممتلكات، المكانة، وحريتهم بل وحتى حياتهم في ظل حكومة وراثية. وشيء كهذا من قبيل النموذج التشيلي كان من الممكن عمله في حالة تونس، فتشيلي جربت ذلك الانتقال التدريجي، وفي كل خطوة من الطريق، كانت تعرض حوافز ملموسة لخوسيه أوغوستو بينوشيه أوغارتي رامون لدفع العملية إلى الأمام. تخلى بينوشيه عن الرئاسة في 1990 بعد التوافق على إتاحة استفتاء مفتوح حول ما إذا كان ينبغي أن يبقى في السلطة أم لا، ومع أنه فقد السلطة إلا أنه بقي في منصب القائد العام للقوات المسلحة حتى عام 1998. وعند تقاعد من ذلك المنصب حصل على مقعد مضمون دستوريا في مجلس الشيوخ الذي منحه أيضا الحصانة من الملاحقة القضائية. هذا النهج، الذي أزاح المحاسبة عن بينوشيه وغيرهم من الشخصيات الديكتاتورية التشيلية، كان له مناوؤه بالتأكيد. إلا أنه مع ذلك ساعد على أن تكفل تشيلي مواصلة السير على المسار الذي أدى في النهاية إلى الديمقراطية الحقيقية. فات الأوان لتطبيق مثل هذا النهج بالنسبة لتونس، لكن لدينا في اليمن عبرة أخرى. فمن المقرر أن تجرى الانتخابات البرلمانية في وقت لاحق من هذا العام، وتريد واشنطن عملية سياسية شاملة، الأمر الذي يأتي بالمعارضة دون أن يعرض للخطر قدرات اليمن لمواصلة مشاركتها في الحرب ضد الإرهاب. إن إدارة أوباما تعمل بشكل جيد على استنهاض التجربة التونسية، بحيث أن ذلك ليس فقط يحث اليمن على تجاوز منحنى J ، بل أيضا يساعدها لتجاوزه فعلا. ------------------------- *نيقولاوس ك كوسديف (Nikolas K. Gvosdev) هو رئيس التحرير السابق للشأن القومي (the National Interest) ويعتبر معلقاً مألوفاً في السياسة الخارجية في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية. وهو حاليا عضو هيئة التدريس في فرع الكلية الحربية البحرية الأمريكية. -المقال نشر بالإنجليزية على موقع: (World Politics Review (WPR بتاريخ 20 يناير الحالي.