صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أين يكمن "كعب الرئيس"؟
نشر في المصدر يوم 07 - 08 - 2009

قبل شهر ذهبت لزيارة الدكتور عبدالكريم الإرياني في بيته. أتذكر أنه استقبلنا بوجه بشوش وحفاوة في غرفة خارجية، بينما كان يودع ضيوفاً على وشك المغادرة. هبطنا درجاً مفروشاً بالسجاد الأحمر، يفضي إلى البدروم حيث تقع مكتبته العملاقة، المكان الأثير الذي يمضي فيه الرجل البالغ 75 عاماً جُل وقته. تأخر بضع دقائق، فيما رحنا نحدق في الرفوف المكتظة للمكتبة التي أخذت شكل حرف C لكن بزوايا حادة. وأظنني فكرت حينها أن هذه هي الورشة السحرية التي يصقل فيها الرجال المميزون أنفسهم.
جلسنا على الأرائك، فيما اعتلى هو كرسيه الدوار، حيث بدا أصغر مما هو عليه. أطلق بعض الدعابات الخفيفة، ثم أخذ يتساءل عن مصير بقية الألمان المخطوفين في صعدة. وبعد برهة وجيزة من الصمت، تطرقنا لموضوع الحوار مع أحزاب اللقاء المشترك. كان المجلس الأعلى للمشترك يومها قد أصدر بياناً أثنى خلاله على جهود الإرياني، لكنه اعتبرها "مساعٍ شخصية".
قلت له إن فرص نجاح الحوار ضئيلة للغاية. بيد أنه رد بحزم: "لا مجال أمامنا إلا أن نتفق". وحينما سألته: هل أنت متفائل؟ رسم ابتسامة لا تشي بالثقة، هي أقرب لابتسامة شخص يجهد لإخفاء شيء ما، ورفع حاجبيه المكتسيين بالبياض، وقال: "نعم. أنا متفائل. بالتأكيد". ولكي يبرهن أكثر على خطورة ما ينطوي عليه فشل الحوار، أردف السياسي البارع جداً واللبق: "ما الذي سيتبقى إذا فشل الحوار مع المشترك! ما باقي إلا نهاجر".
انتهت الزيارة التي استغرقت حوالي 20 دقيقة. نهض لتوديعنا، في حين كنا لا نزال نتجاذب معه أطراف الحديث. وخطر لي أن أسأله عن التحذير الرهيب الذي أطلقه من بيروت في يونيو الفائت، بشأن احتمال حدوث مجاعة في اليمن العام القادم. ثم سمحت لنفسي أن أقول له مازحاً: "يا دكتور إذا كانت الأمور من السوء بحيث إنها ستدفعك أنت للتفكير بالهجرة فكيف بنا نحن"! ولما لاحظ الذهول الذي تركه تلميحه السابق بالهجرة، ابتسم وقال: "كنت أمزح فحسب".
مذاك، راح كل شيء يحدث بصورة أسرع من أن نجاريها. إذ لم تمض سوى بضعة أيام، حتى تناقل الإعلام طلب الإرياني من الرئيس إعفاءه من مواصلة الحوار مع المشترك "لأنالنوايا الحسنةلا محل لها من الإعراب في قاموس المشترك السياسي"، طبقا لنص الرسالة. نهاية 2008، جلس الإرياني إلى اللقاء المشترك على مائدة الحوار، ونجم عن ذلك اتفاق بدا من أول وهلة كم هو هش وسقيم وغير قابل للحياة. كان يؤخذ عليه –مثلاً- أنه لم يحسم من بين كل النقاط المتنازع عليها سوى أمر واحد: التأجيل لعامين (ربما هو المدى الزمني الذي تحتاجه اليمن لتلفظ أنفاسها الأخيرة). بمعنى آخر: كان ينبغي أن تكون السنتان هي الوقت الذي يستغرقه تنفيذ تسوية ناجزة، لا تبديدها في صنع اتفاق الراجح أنه لن يأتي.
لست واثقاً من أن الإرياني كان يعني ما يقول حرفياً، عندما علل رغبته في الانسحاب من الحوار بعدم وجود "نوايا حسنة" لدى المشترك. فهذا المفاوض الحاذق، هو نفسه الذي أبرم اتفاقية الدوحة مع الحوثيين، تلك الوثيقة التي أوشكت على إعادة قضية صعدة إلى سياقها الوطني، وتجريد الحوثي من امتيازات غير مشروعة اكتسبها عن طريق الحرب. وحينما حاول ممثل الحوثيين التملص من الالتزام بتسليم الأسلحة الثقيلة التي يمتلكها باعتبار أن هذا شيء لا يقتصر عليه وحده، مشترطاً سحب الأسلحة من القبائل أولاً، فإن الإرياني لم تطاوعه نفسه ليتخطى هذه النقطة خالي الوفاض: لقد تمكن من إدراج بند يلزم الحوثيين بتسليم القطع الحربية والأسلحة التي استولوا عليها من قوات الجيش.
والسؤال هو: كيف انتهى المطاف باتفاقية الدوحة؟ حسناً، ربما ساهم الحوثيون، إلى حد ما، في إفشالها، لكن إلى أي مدى فعلت السلطة ذلك؟ كانت لتصبح وثيقة ذات قيمة سياسية ثمينة، تمتلكها الحكومة، وتستطيع بموجبها أن تشن حرباً على المتمردين، في حال عدم امتثالهم لها، فتكسب بذلك تأييد المجتمع الدولي والرأي العام المحلي معاً. على أن الرئيس صالح، عبر تصريحاته المسيئة لجهود القطريين، أثبت، بما لا يدع مجالا للشك، بأن يده كانت هي الطولى في التنصل عن وثيقة الدوحة. لتأتي النتيجة على هذا النحو الفاضح: خضوع صعدة شبه الكامل لسطوة مليشيا الحوثي. والأكيد أن أقصى ما يحلم به الرئيس الآن، هو تثبيت الوضع القائم، وإيقاف التوغل "الكابوسي" لجحافل الحوثي في أجزاء من محافظة عمران والجوف.
في اليمن، على المرء أن يتعلم ألا جدوى من الثقة في شيء. "أغمِض عينيك برهة، ثم استدِرْ لتنظر إلى شيءٍ آخر، وإذا بالشيء الذي كانَ ماثلاً أمام عينيك قد اختفى". هكذا عبَّر الكاتب الأمريكي بول أوستر، على لسان أنَّا بلوم، شخصية روايته "بلد الأشياء الأخيرة"، فيما كانت تصف جانباً من المدينة التي تقطنها: "كما ترى، لا شيء يدوم، ولا حتى الأفكار التي في رأسك. وينبغي ألاّ تهدر وقتك في البحث عنها. فعندما تختفي، تكون تلك نهايتها". في لحظة ما، تصل بلوم إلى القول: "هكذا تحدث الأمور في المدينة. كلما اعتقدتَ أنكَ تعرف جوابَ سؤالٍ ما، تكتشف أنَّ السؤال لا معنى له".
الأسبوع الماضي، قرر المشترك تعليق الحوار مع المؤتمر. وكان التفسير المعلن لهذا الإجراء هو: "تصعيد السلطة للأزمات، وعدم تهيئة المناخ السياسي"، وفقا لحسن زيد رئيس المجلس الأعلى للتكتل المعارض. بالموازاة، كانت فصائل من الحراك الجنوبي تأخذ في التحول، رويدا رويدا، من حركة مدنية تتمتع بتعاطف واسع وتفوق أخلاقي لا يضاهى، إلى حركة عنف منظم، مع تمسكها المعلن بالنضال السلمي. وفي صعدة تضاعفت المواجهات واتسع نطاقها، فيما ارتدى الصراع طابعاً مذهبياً في الجوف. حتى إن تنظيم القاعدة، هو الآخر، انبثق فجأة وبعنفوان وقح من بين الرمال في هجير صحاري مأرب، فقتل عناصر من قوات الشرطة وأخذ آخرين أسرى حرب.
وحدها أحزاب اللقاء المشترك تحتفظ بنهج اللاعنف كاستراتيجية لا محيد عنها. وبقليل من التفكير سيجد المرء أن حاجة النظام الحاكم للتفاوض تفوق حاجة المشترك. هكذا يقول منطق الأشياء. وأحسب أنني غني عن القول بأن المعارضة في أي ديمقراطية، أكانت حقيقية أم زائفة، تؤدي وظائف حساسة من شأنها الحيلولة دون اختلال موازين القوى الاجتماعية والسياسية في البلد، أي بلد. ففي مقالة نشرتها الاتحاد الإماراتية، يعترض برهان غليون على القائلين بأن المعارضة ليست أداة التغيير الرئيسية في النظم السياسية، وبشكل خاص الاستبدادية، "فهي (المعارضة) تستمد أهميتها من أنها الوسيلة الوحيدة للتغيير داخل النظم، وحفظها من الفساد والانحطاط، وبالتالي ضمان ألا يتحول الحكم السياسي، مهما كان نوعه، إلى حكم العصبية، والولاءات الشخصية المدمرة لروح القانون والعدالة، والمخربة للأوطان والأعمال".
ويجادل غليون بأن المعارضة عادة لا تستمد شرعيتها من مقدرتها على التغيير وقلب نظم الحكم، وإنما من قيامها بوظائف أخرى ضرورية حتى من دون تغيير النظام. ومن هذه الوظائف التي يقترحها المفكر السوري، والأستاذ في جامعة باريس: "عقلنة حركات الاحتجاج، وترجمتها إلى مطالب سياسية يمكن النقاش فيها، والتفاهم من حولها. وإلغاء المعارضة أو تغييبها يخلق فراغاً كبيراً لا يمكن لأي حزب حاكم مهما كان نوعه ملأه".
والافتقار إلى المعارضات السياسية الشرعية والقانونية، يشرح غليون، يهدد بتحويل أي حركة احتجاج أو اعتراض أو نزاع، مهما كان حجمها، ومحدودية مطالبها، وضيق مجال انتشارها، إلى ما يشبه الثورة أو التمرد على النظام، بقدر ما يحرم المجتمع من آلية التوسط التي تمثلها المعارضة بين المصالح الخاصة والعامة. وبكلمات أخرى: "تحويل حركات الاحتجاج إلى مطالب سياسية، وتجنيبها الانخراط في منطق الانشقاق والتمرد والمواجهة"، بتعبير برهان غليون.
في ضوء ما قاله برهان غليون، هل يحق لنا النظر إلى تكاثر حركات الاحتجاج العنيفة، والانشقاقية، بأنها لا تعدو كونها ثمرة خبيثة لانكماش اللقاء المشترك، والتقليص القسري الممنهج للدور الذي كان يتحتم عليه القيام به. ها إن الحوار قد أخفق، وعلى المعارضة أن تذهب للعب هذا الدور الصعب إنما المثمر، الآن وقبل أي شيء. لا يجدر بها التوقف لتخمين ما الذي بإمكان الحزب الحاكم أن يقوم به، بل ما الذي بوسعها هي أن تفعل.
يقول جين شارب، وهو باحث في مؤسسة ألبرت آنشتاين، المهتمة بدراسة استعمال العمل الاستراتيجي اللاعنفي في الصراعات على مستوى العالم: "علينا أن نأخذ العديد من الأسئلة الصعبة بعين الاعتبار: ما الذي يستطيع أن يفعله كل طرف على حدة فيما بعد للوصول إلى أهدافه، إذا فشلا في إنجاز اتفاق على طاولة المفاوضات؟ وإذا نجحوا في التوصل لاتفاق، ما الذي يستطيع أن يفعله كل طرف على حدة، في حالة عدم التزام الطرف الآخر بوعوده، واستخدم القوة المتوفرة لديه في تحقيق أهدافه، ضارباً بالاتفاقية عرض الحائط؟".
ويميل شارب إلى التحذير من أن الحكام الديكتاتوريين ينصبون مصائدهم في قلب العملية التفاوضية. "فعندما يكون نظام الحكم قوياً، ولكن يعاني من وجود مقاومة تقلق مضاجعه، فإنه يود عرض التفاوض على المعارضة لكي يجرها نحو الاستسلام. وقد تظهر الدعوة إلى المفاوضات بمظهر جذاب". وينصح شارب بأن النضال اللاعنيف هو البديل الملائم للتفاوض عديم الجدوى. وهو شعار أطلقته المعارضة اليمنية ومارست بمقتضاه العديد من الاحتجاجات. وهي الآن مدعوة لاستئناف العمل بمقتضاه في عموم اليمن.
ضرب جين شارب العديد من الأمثلة، لحركات تغيير ديمقراطية استخدمت اللاعنف طريقاً للإطاحة بأنظمة ديكتاتورية، أو للتحرر الوطني، أو لإنهاء التمييز العنصري: منذ 1953 وحتى عام 1990 ناضل الخارجون عن الأنظمة الشيوعية في أوربا الشرقية، خاصة ألمانيا الشرقية وهنغاريا ودول البلطيك، باستخدام أساليب اللاعنف من أجل كسب مزيد من الحرية. وكذلك نضال حركة التضامن البولندية، الذي انتهى بسقوط النظام الشيوعي. ونجح اللاعنف في القضاء على الديكتاتورية الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا سابقا عام 1989. وفي استونيا ولاتفيا وليثوانيا عام 1991. والانتفاضة السلمية أسقطت ديكتاتورية ماركوس في الفلبين عام 1986. ولعبت المظاهرات السلمية دوراً هاماً في تقويض سياسات الحكم العنصري والسيطرة الأوربية في جنوب أفريقيا. ونجحت أيضا في بورما وصربيا ومدغشقر ومالي...
الأسبوع الماضي، لوّح الفضلي باللجوء إلى العنف. وهذا منطق يليق بشخصيته. فهذا الرجل، إلى جانب الحوثي, لا يمكن التعويل عليهما في اجتراح التغيير الذي نتوق إليه. لا يكف الفضلي عن إطلاق الوعود المنمقة بتحويل الجنوب إلى واحة ديمقراطية، وهذا هراء أجوف. الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين. والتراث السياسي العربي الحديث مليء بثورات مسلحة قوضت أنظمة حكم ثيوقراطية أو ديكتاتورية، وأقامت على الأنقاض ما هو أعتى وأبغض. وفي العالم أمثلة لا حصر لها للتدليل على ذلك. يقول جين شارب: "خيار استخدام العنف، مهما كانت حسناته، يعكس بوضوح أمراً واحداً؛ هو أن اللجوء إلى وضع الثقة في أساليب العنف يعني استخدام أسلوب يتميز الطغاة دائما بالتفوق فيه".
لكن ماذا إن حققت المقاومة العنيفة أهدافها؟ يتولى شارب الرد قائلا: "عند نجاح مقاتلي حرب العصابات، وتوليهم السلطة، فإنهم يخلقون نظام حكم أكثر ديكتاتورية من النظام السابق الذي حاربوا ضده، بسبب تأثير مركزية القوات العسكرية الممتدة، وبسبب ضعف أو دمار مجموعات ومؤسسات المجتمع المستقلة".
التفاوض مع نظام حكم بات إلى الديكتاتورية أقرب منه إلى أي شيء آخر، لا يعني سوى تزويده بالزمن الذي يفتقر إليه. فعندما يتعلق الأمر بتفاوض يستوجب تنازلات جوهرية، فالإخفاق حتمية لا مفر منها. من يوم لآخر نزداد يقيناً بأن الرئيس لا يمكن أن يسلم السلطة عن طريق الانتخابات الحرة. فهو يعتقد أن "التخلي عن السلطة مسألة شرف". هذا مؤكد. وبالتالي على المعارضة مغادرة حجرة التفاوض رأساً إلى ساحة الكفاح "المنزه من العنف"، دون أن تلوي على شيء. التشاور الوطني طريقة جيدة وخلاقة لإيجاد أرضية مشتركة مع القوى الممتعضة من الحكم، قبل أن تجنح إلى العنف، على غرار الفضلي والحوثي مثلاً.
اللاعنف هو الخيار الأمثل والآمن والأقل كلفة لتحقيق الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي. صحيح، يترتب عليه تضحيات جسام، وصبر لا حدود له، لكن نتائجه مضمونة ومرغوبة. ليس من الحكمة العودة إلى طاولة الحوار وفق شروط جديدة تفتقت عن قريحة الرئيس. يمكن استئناف الحوار، لكن ليس قبل أن يُظهر المشترك إمكاناته في الفعل السلمي، لتعزيز قدرته التفاوضية من موقع أقوى.
ننتظر من المشترك أيضاً، أن يعيد النظر في صيغة خطابه السياسي العام المترع باليأس والتشاؤم. يجب أن يقدم خطاباً مغايراً، تمتزج فيه الحقيقة المرة بالأمل والتفاؤل. خطاباً خال من الأوهام، لكنه يشير إلى مخارج الطوارئ وممكنات النجاة، بدلاً من المغالاة في السوداوية وزرع الإحباط والقنوط .
الأولوية الآن هي لتحديد "كعب أخيل". ولمن لا يعرف، فأخيل، في الميثيولوجيا الإغريقية، هو محارب باسل، غمسته أمه في ماء نهر ستايكس السحري عندما كان طفلاً. فعلت ذلك بينما كانت تمسكه بكعبه حتى لا يجرفه التيار، فلم تغط الماء السحرية هذا الجزء الصغير من جسده، فأكتسب مناعة أسطورية ضد الأخطار، عدا كعبه. لكن في حرب طروادة، قام أحد الجنود الأعداء، الذي عمل وفق تعليمات من شخص عرف نقطة ضعف أخيل، بتوجيه سهمه على كعب أخيل، وهو المكان الوحيد الذي يمكن إصابته فيه. لقد كانت الضربة قاتلة، وأصبح "كعب أخيل" أمثولة ترمز إلى نقطة ضعف شخص ما ترسخ اليقين بأنه من المتعذر المساس به.
أين يكمن "كعب الرئيس" إذاً. في الحقيقة، يقع على عاتق المعارضة تحديد هذا الجزء بالذات من نظام حكم علي عبدالله صالح. فكرة النضال السلمي، والعصيان المدني، والنزول إلى الشارع، إحدى أكثر نقاط ضعف الرئيس التي تصيبه في مقتل، ويفقد معها السيطرة على نفسه. لأنه رجل خرج من مشيمة الجيش والسلاح. قوة السياسة تخرجه عن طوره، أكثر مما تفعل سياسة القوة. أكاد أجزم أنه بات للرئيس، منذ زمن طبعاً، أكثر من كعب، وعلى المعارضة الوطنية اللاعنفية تصويب سهامها بدقة وكياسة وإصرار.
علينا أن نقرأ قصة كفاح المهاتما غاندي، وحركة "السادا جراها" التي أسسها مع رفاقه، والتي تعني "الثبات على الخير"، وكيف أنه أصبح يطلق عليها "ساتيا جراها"، أي "القوة المنبعثة من الحق والمحبة"، الحركة المنزهة عن كل عنف. وحكايته مع فلاحي البصل، حيث حرضهم على جمع محاصيلهم رغم الحجز الحكومي المفروض عليه "وهي فرصة مواتية لكي يتعلم الناس كيف يجلبون على أنفسهم الغرامة، ويسعون بأرجلهم إلى السجن"، كما يقول في مذكراته. علينا أن نستلهم تجارب رموز الحركات المدنية العظام، ابتداءً من صاحب مقولة "العصيان المدني"، الأمريكي هنري دايفيد ثوراو، وصاحب رواية "الحرب والسلام" ليو تولستوي، إلى مارتن لوثر كنج، والباكستاني عبدالغفار خان، وصولاً إلى نيلسون مانديلا.. وهلم جرا.
المشترك هو القوة الوطنية الوحيدة القادرة على إحداث التحول الذي نريد. فرغم كل شيء، أعترف أنني ما زلت أعلق عليه آمالاً كبيرة، مع أن الوتيرة المتكاسلة التي ينجز بها خطواته تثير السأم والإحباط والتبرم. المؤتمر أيضا قوة وطنية عملاقة لا يستهان بها، لكن إذا استطاع اختراع ذات جديدة بمنأى عن السلطة والجيش. إنني ببساطة أتلفت ذات اليمين وذات اليسار، فلا أجد إلا جماعات وقوى تفرض شرعيتها بسنان سيوفها: الحوثي الفضلي الوحيشي، وفي مواجهتهم الرئيس وأقرباؤه الجنرلات.
إذا لم تضطلع المعارضة بدورها، فإن اليمن، للأسف، سيظل "ميدان لعبة لغير الناضجين". فكل القابضين على مقود التاريخ الآن يجرون البلد من قرونه إلى الجحيم. كل منهم يسلخ بحسب طاقته ويشد الرحال إلى حظيرة التاريخ الغابرة: الحوثي يغذ الخطى لاستعادة "مملكة الرب"، (إجراء مناورة عسكرية ليس من شيم جماعة تزعم أنها تمارس حقها في الدفاع عن النفس). والفضلي يصبو إلى مملكة أسلافه، أو على الأقل استعادة شراكته في اتحاد الجنوب العربي. والقاعدة تنشد إمارة إسلامية "على منهاج النبوة". والرئيس صالح يتصرف كقيصر تؤرقه الطريقة المثلى التي سينقل بها العرش لنجله. القاسم المشترك بين كل هذه القوى هو امتلاكها، جميعها، لأدوات العنف، ورغبة لا تقاوم في استخدامها، مع التفاوت في الموازين بالطبع.
شخصياً، يعني لي الكثير معرفة ما إن كان الدكتور الإرياني، وهو من أكثر السياسيين الذين يثيرون إعجابي، مازحاً أم جاداً في تلميحه إلى الهجرة. لكن الشيء الأساسي هو إن أحداً ليس لديه أدنى فكرة عما ينتظر 24 مليون يمني في اليوم الذي يلي الغد. لا أظن أن الهجرة خيار في متناول الكل. أنا نفسي أفكر أنني بالكاد أستطيع العودة إلى "بني علاء".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.