ليس قبل خطاب بن علي الشهير ب " لقد فهمتكم " , لم يكن جيلنا يكترث بدواعي إلقاء الخطابات الرئاسية , و لا تعنيه تحليلاتها السياسية و لايستهويه اظهار أي ردود أفعال حولها , ليس لانعدام الحيلة أو الاستيعاب لها و لكنه الضجر من تلك الوجوه و الكلمات المستهلكة , حد الغثيان .. حدث هذا على الرغم من أننا كعرب كنا دائماً مجتمعات إسفنجية بامتياز , إلاّ أننا لم نفلح – حتى وقت قريب جداً – في امتصاص عادات الغرب و الامريكان على وجه الخصوص في غرامهم بالحكاوي الرئاسية , فهم يحبون الاستماع إلى خطابات رؤسائهم , لا بل و يبتعدون في غرامهم هذا إلى الوقوف عليها شكلاً و مضمونا ً, فلم تكن مضمونات خُطب " بيل كلينتون " وحدها تشغلهم بل قد تؤرّقهم أيضا الانتفاخات تحت عينيه و مدى تعبيرها عن توتره , و تثير هواجسهم ألوان ربطات العنق ل "جورج دبليو بوش " ومستوى انعكاسها على الحالة السياسية العامة , و قد لا ينسون الإشارة إلى مهارة توزيع النظرات التي يمتلكها " باراك أوباما "..
ربما يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أن كتاب ( احلم : هذه خطابات غيرت القرن العشرين ) الذي وضع فيه مؤلفه دومينيك جاميه ( و هو كاتب و صحفي و مدير المكتبة الوطنية في فرنسا ) مجموعة من الخطابات التي ألقاها رؤساء و قادة حول العالم و كان لها أثر في تغيير العالم كله أو المحيط الإنساني و التاريخي لصاحب الخطاب , خلا من أي خطاب عربي حقيقي قلب مقاييس الشعوب في الوطن العربي الشاسع , فيما عدا خطابين أحدهما للرئيس الراحل " أنور السادات " و هو ذلك الخطاب الذي ألقاه في الكنيست عام 1977 و أعلن فيه مبادرته للسلام , تلك المبادرة التي تسببت في مقتله بعد اربعة سنوات, أما الخطاب الثاني فهو للرئيس الراحل" ياسر عرفات " الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن رفضت واشنطن منحه تأشيرة الدخول لأراضيها عام 1988 .. و لولا أثر هذين الخطابين على السلام مع اسرائيل لغابت الخطابات الرئاسية العربية تماما عن قائمة التأثير في الوجدان العربي و العالمي .. و هو الشيء الأكثر واقعية و خزياً ..
قال الشاعر الإسباني باهيا كودا قديما ً( اللسان قلم القلب .. و رسول العقل ) العبارة التي أصبحت فيما بعد عموداً من أعمدة التدريس لفنون الخطابة و التأثير .. يبدو أنها لم تمر أبداً على مسامع رؤساء العرب و لم تعِها عقولهم الضئيلة بالمطلق , فلم تنتج لنا أي خطاب ذو قيمة إنسانية أو تاريخية تليق بالمتعاقبات العنيفة التي شهدتها هذه البقعة من العالم ..
لا يهم هذا الآن فالأمور تغيرت للأفضل و يبدو أن قناع اللامبالاة قد أزيل أخيراً عن العقل العربي الشاب , الآن نحن نهتم بالخطابات الرئاسية و نستمتع أيضاً بتحليلها و إطلاق العنان للفكر الساخر في مجاراتها أولاً بأول . من منا لا يقف مشدوها ًأمام شاشات التلفزة يشاهد خطابات مبارك , و ملحقاته ( أقصد هنا عمر سليمان , و الراجل اللي وراء عمرو سليمان و الراجل اللي وراء اللي وراء عمرو سليمان ... الخ , الخ ) ,و من منا لا يضحك ملء الفم و يبكي ملء الجفن و هو يحملق في عروضات معمر القذافي الفكاهية و ملحقاته ( أقصد هنا سيف الإسلام القذافي , و الست اللي وراء القذافي و الست اللي وراء اللي وراء القذافي .. الخ ,الخ )
لن أدعي أن هذا التغير قد شمل نوعية و فحوى الخطابات نفسها , إذ لا يبدو أن رؤساءنا الطاعنين في السن المحدودين في الفهم قابلون للتمدد الحضاري الذي يستوجبه أن تكون حاكماً لمواطنين 60% منهم يصغرونك بعقود كثيرة و كثيرة جدا ً, لا بل أن هذه الخطابات التي نسمعها الآن من الزعماء الذين لفظتهم الشعوب ستكون شاهداً تأريخياً على مهازل فكرية و إدراكية ربما تدرّس في المدارس و الجامعات لاحقاً تحت بند " عبرة لمن لا يعتبر " .. على سيرة العبرات ألا تلاحظون أن هذه الخاصية خارج نطاق العمل لدى هؤلاء الزعماء , و إلا فلم يصر جميعهم على ترديد ذات العبرات لقرنائهم و بذات المنطق مع علمهم الأكيد بأنها ستجلب نفس النتائج ,؟ احدهم عرف الغباء فقال " أن تفعل نفس الفعل كل مرة , و تتوقع نتيجة مغايرة " , يجب أن نكتبها من الآن و صاعدا كمادة أولى في دساتيرنا العربية مقرونة طبعا بالكلمات الأشهر ( الأجندات الخارجية , العناصر المدسوسة , الإصلاحات الشاملة في الوقت الضائع , عدم النية في الترشح , لا للتوريث , سأم السلطة ,و طبعاً الإنجازات و النضال الذي يستوجب التقديس , و مؤخراً حبوب الهلوسة الشهيرة و التي تؤثر على القلب . و شر البلية ما يضحك )
لأجل الإنسانية سأدع مارتن لوثر كينج يعلّم هؤلاء البؤساء كيف يمكن لخطاب أن يغيّر المصير و أن يوجه دفه الحياة إلى الحرية , لا أجد أجمل من تلك الكلمات التي صدحت بالحلم الأمريكي عاليا و باتت واحدة من أهم خطابات القرن العشرين على الإطلاق ( لديّ حلم ) : " هذا هو الإيمان الذي أعود به إلى الجنوب .. بهذا الإيمان سنخرجُ من جبل اليأس نواة الأمل .. و بهذا الإيمان سنحول التنافر في أمتنا إلى سمفونية أخوة جميلة .. بهذا الإيمان سنعمل معا و نصلي معا و نقاتل معا و نذهب إلى السجن للدفاع عن الحرية معا ..مومنين بأننا سنكون أحراراً ذات يوم "..