بعد سقوط نظام بن علي خرج طلبة جامعة صنعاء – الذين يحق لهم أن يفخروا إلى الأبد- وهتفوا بشعارات متنوعة تطالب صالح بالرحيل عندما لم تكن مقولة «الشعب يريد إسقاط النظام» قد اكتسبت تلك الحياة العارمة في الثورة المصرية. كانوا مجرّد عشرات «يخافون أن يتخطفهم الناس». دسستُ نفسي بينهم، فشعرتُ براحة عميقة في الضمير. وفي لحظة نشوة غريبة هتفتُ: الشعب يريد إسقاط حسني مبارك. رمقني شاب من طلبة الجامعة بقليل من الود: أنت في اليمن. اعتذرت له بابتسامة وبصوت خفيض: لو طار مبارك بايطير صاحبنا ثاني يوم. انشغل الشاب بهتافه العظيم، وشردتُ. بعد دقائق وصل نائف القانص، حمله الشباب على الأعناق. ألقى مجموعة من العبارات: لقد خرجتم اليوم لأنكم ترفضون أن تكونوا إضافة جديدة لعمال الحراج والعاطلين في الجولات. التقطت بعض الصور بكاميرا موبايلي لهذه المجموعة الصغيرة التي يحاصرها رجال أمن يبلغون، على الأقل، ثلاثة أضعافهم. قلت لرفيقي: سأذكرك قريباً عندما يتحوّل هؤلاء العشرات إلى تسونامي يحجب الرؤية، وسنضع الصورتين جوار بعضهما. دردشنا قليلاً، واتفقنا على أن «الزمن قد أكمل دورته، وغيّر قواعده القديمة كلّياً». هذا بالضبط ما قلته، وتلك تماماً كانت الصورة. لقد كبرت تلك البؤرة المقدّسة – اليوم - وأصبحت تسونامي لا حدود لقدرته. المسافة بين الصورتين تكشف بجلاء حقيقة ان الشعب اليمني أيضاً قد أكمل عبوره على عصر الشعوب الحرة كما قال هيكل عن شعبه قبل هروب مبارك. سقط نظام مبارك، وتحللت أجهزته القديمة تماماً. سقط النظام الصالحي كلّياً، وخرجت بلدتنا من الطور الجنيني للدولة إلى الغد بقيمه الفائقة، وقواعده الحداثية: إلى الدولة الكبيرة، بلدة يحرسها الجميع لأنها تنطوي على خير الجميع. بلدة الفضائل الخاصة المفضية إلى الفضيلة الكبيرة، على النقيض من «دولة الرذيلة الكبرى المؤسسة على شبكة من الرذائل الصغيرة» التي نحتها المخلوع وشبكته الطفيلية المتوحشة. دعونا نعترف بأمر حاسم: لقد سقط النظام الصالحي على المستوى الشرعي، والمستوى النظري. وسقط أيضاً كحضور ذهني لدى المجتمع اليمني الذي أصبح، الآن، يتحدث عن ما بعد نظام صالح. كما سقط عملياً على المدى المتوسط والبعيد. حتى الصحف العالمية أصبحت تتحدث عن هذه الواقعية الجديدة، وتركّز على ضرورة تفعيل هذه الحقيقة عبر إتاحة الفرصة للشعب اليمني لاسترداد دولته التي اختطفتها أسرة المخلوع صالح، وخرّبتها بلا هوادة ولا أخلاق. لكن هذا لا يعني أن نظام صالح فقد قدرته على المناورة والأذى. فقد حرص المخلوع صالح على مدى ثلث قرن على تأسيس دولته الخاصة: شبكة نفعية ارتبطت مصالحها بصورة مباشرة ببقائه في القوّة/ السلطة. لا يمكن التهوين من قُطر هذه الشبكة، ولا مساحتها. ستستميت هذه الشبكة دفاعاً عن نظام صالح لأنه أنبوبة الأكسجين الوحيدة التي تمدها بالبقاء. إنها جماعة عريضة من أولئك الذين ليسوا جيدين للدولة الجديدة والبلد الحديث. لقد حشدت في الجمعة الماضية بشراً كثيرين إلى ميدان السبعين. وتوّجت الحشد بفبركة الصورة على التلفزيون في محاولة تعد عملياً «هروباً إلى الأمام». حملوا صور الرئيس، وهم لا يريدونه، أو على الأقل: لا يكترثون لغيابه أو حضوره. لقد أجبرتهم قوى الضغط المتصلة بعضلات صالح على الخروج: بالمال، والحميّة، والتخويف، والتبعية. واندغمت هذه الجموع مع أفراد الحرس الجمهوري والقوات الأمنيّة وشكّلت شريحة مؤيدين يعلم صالح قبل غيره أنها شريحة زائفة يمكن حشدها لمرة واحدة فقط. وقد أدّت، فيما يبدو، وظيفتها: استطاع صالح عشية ذلك الحشد أن يتحدث عن الشرعية والأقلية والأكثرية، حتى وإن بدا مثيراً للشفقة والقباقيب. صالح هو عملٌ غير صالح في كل حياته. لقد لعب في الجمعة الفائتة لعبة ممكنة بالنسبة لنظام مرتبط بشبكة مصالح قوية ولا يجد وازعاً أخلاقياً يمنعه من العبث بالمال العام. لكن هذا اللون من اللعب غير ممكن الاستمرار فيه على المدى المتوسّط لأنها لعبة تدار عبر طاقة «غير متجددة» فضلاً عن كونها طاقة غير نظيفة، سرعان ما تكشف عن سمومها وعناصرها الملوثة. قرّر صالح أن يغرق غداً بدلاً عن اليوم. وفي الحالين: لقد غرق صالح، وانتهت الحكاية. ولا توجد طريقة مشرّفة للغرق، يا صالح. ارفع هامتك الميّتة كما تشاء فنحن لم نرها أبداً سوى هامة محنيّة. دعونا نتذكر: في لحظة نشوة كان صالح ينسف كل شيء، ويقرّر أنه سيترشح لمرات بلا عدد وسيعيش رئيساً بلا نهاية، حتى يبلغ الوريث رشدَه المستحيل. أول إنجازات الثورة: لقد قضت على الوريث في مهاده، وسحقت أحلام صالح في ليل صنعاء الطويل. ما يفكّر به الآن هو كيف يخرج «رافعاً هامته». لقد كان منذ 3 أشهر فقط يفكّر: كيف أدخل في المستقبل اللانهائي رافعاً رأسي، ورأس ابني أحمد، ورأس ابني خالد، وكل الرؤوس سواء. تبلطج «كلب الريح المدرّب» أمام شاشة التلفزيون وتوعّد الشعب اليمني بأن كل ذلك سيحدث، رغماً وغصباً و.. إلخ وسيخلع عداد ليموزين القصر. لقد تغيّر التاريخ تماماً، وتغيرت قواعد اللعبة بلا رجعة، وانكسرت السيقان الخلفية لكلب الريح، وأكلته فريسته. من المتوقّع أن صالح فهم جزءًا من اللغز، لكنه سريع النسيان. لكن المؤكد أن شباب الثورة قرّروا أن «يذاكروا» لصالح حتى يحفظ الدرس عن ظهر قلب، ويدخل مدينة جدّة وهو مركّز وواثق من نفسه. ذاكروا لصالح يا شباب، واستحملوا فهمه البطيء. مش بإيده والله، قسمة ربنا وأرزاقه يوزعها على العباد. قد يتحول صالح من المناورة إلى المغامرة. لكن مع اقتراب الثوّار الليبيين من شرقي طرابلس سيفقد صالح صوابه. هدّد القذافي شعبه بحرب أهلية، ودشّنها بالفعل فخسر كل شيء. كان بمقدوره أن ينجو بجلده وأهله وبعض ماله. لكن فيما يبدو: تعيش هذه الجثث الرئاسية في منافيها الداخلية غارقة في اللذة والرغبة والشهوة حتى تتسطح عوامل إدراكها وتفقد القدرة على الاستجابة للزمن والأحداث والمعادلات الجديدة. صالح لا يزال في طور التهديد، وفيما يبدو فهو أيضاً يخشى أن «يبل رأسه» لأن المجتمع الدولي حلاق ماهِر. لأول مرّة كنت أرمق الطيران الفرنسي بإعجاب وامتنان وهو يقصف قوات المخلوع القذافي بدقّة وقسوة. لفرنسا مصلحة، نعم، وكذلك للشعب الليبي. انتهى الدرس، بلا ادعاءات ولا سخافات على شاكلة: الغزو والحرب الصليبية. القذافي يسقط، رغماً عن أنفه، وأولاده يفرّون (كالجرذان). هل لا يزال أمام صالح من سبيل لكي لا يغرق على النحو الذي غرق فيه رفاقه (مبارك، بن علي، القذافي؟). لا أظن. حتى إن وجدت الطريق فإن قوى الإدراك لدى هذا المخلوع لن تدلّه سوى إلى مصيره المشؤوم. فقد سبق لعوامل إدراكه أن دمّرت المجتمع اليمني بلا رحمة، وحوّلته إلى هولوكست. ها هي تشعل الآن قميصه وتحرقه أخيراً كما أحرقتنا. ما أروعك أيتها العدالة، ما أقدس عينيك!
* تعليق على حوار المخلوع مع قناة «العربية» استمعتُ إلى حوارك الأخير في قناة العربية. أشكرك كثيراً لأنك اتضحت بما يكفي وزيادة. أدرك العالم، على مستوى اليقين، أن هذه الثورة النظيفة ضدك ليست فقط شرعية، وأخلاقية، بل وضرورية على نحو عاجل. آلاف الشباب الجديد دونوا على الإنترنت: نشعر بالعار لأن هذا الرجل الجاهل، محدود القدرات، هو الواجهة الرئيسية لليمن. نعم أنت جاهل، وبلا قدرات. ونعم تأخرنا كثيراً عن هذه اللحظة. لقد انكشفتَ بصورة رائعة قضت على الحقنة التي حصل عليها بلطجيتك بعد أكذوبة حشودك المليونية يوم الجمعة الفائتة. كم أنت بلا ضمير! ذهبت إلى فقراء بلدي، وهم السواد الأعظم، وأغريتهم ب 40 ألف ريال مقابل الحضور، وأنت تعلم أن كثيرين سيقبلون هذه الصفقة لأنهم في مسيس الحاجة إلى كيس الدقيق وعلبة السمن وباكت الشاي بعد أن سحقهم نظامك وأفقدهم القدرة على تحصيل الرزق النظيف. حتى فقر أهل بلدي تشتريه بمسروقات البنك المركزي، وتستخدمه كورق سوليفان تلف به جرائمك. لا تزال تهين هذا الشعب العظيم، فبعد أن حولتهم بجهلك وبلطجتك إلى فقراء، هَأَنت تنقل بعضهم من درجة «فقير» إلى مستوى «مرتزِق». تبالغ في جرح كبريائهم وهم ينساقون وراءك لا لأنهم يريدونك، فقط يفكرون بكيس الدقيق. بعد لقائك مع قناة العربية- بعيداً عن المونتاج ولملمة الفضايح كما يحدث في قناة «قفي»- أدرك كل شاب يمني حقيقة ارتفعت من مستوى الجدلية النظرية إلى البدهية العلمية: على كل من لا يزال يعتقد أن صالح يصلح للمستقبل اليمني أن يتأكد من سلامة عوامل الإدراك لديه. أما بالنسبة لأولئك الذين ينظرون إلى عواصم العالم ثم يتأملون وجه اليمن ولا يزالون يعتقدون أن «صالحاً» كان صالحاً في الماضي؛ على هؤلاء أن يراجعوا «عقائدهم وإيمانهم بالله». كنتَ مخجِلاً بحق يا صالح، وكانت الثورة بحاجة إلى نارٍ جديدة فكنتَ أنتَ.. كنت كريماً لأنك لم تخفِ شيئاً. كنت تقول أموراً سخيفة وملفّقة، وكانت جثث قتلاك تنط من ثنايا أسنانك، وكان أبناء الشعب في كل هذه البلدة الطيبة يضربون على صدورهم بقبضاتهم: موعدنا بكرة. دعك من اللقطة التاريخية لشباب الثورة وهم يقذفون صورتك، أثناء الحوار، بالنعال. دعك من هذه الصورة، فما فعلته أنت بنفسك أقسى من ذلك بكثير. لقد ارتكبت الخطيئة القاتلة. هكذا كنت مثيراً للضحك يا صالح: الإخوان المسلمون مكروهون من قبل الشعب. لكنك حذرت من أنهم سيسيطرون على السلطة، وطبعاً عن طريق إرادة شعبية! مش فاهمك يا ستموني؟ وبالنسبة لك فإن من قتل شباب الثورة هم أبناء حي الجامعة، مع أنك شخصياً قلت قبل أربعة أيام: إنهم الحوثيون. فضلاً عن أن لجنة التحقيق التي شكلتها لم تتحرك تقريباً. وصفت الشعب بالقناصة، واتهمت المواطنين بالقتل، وسخرت من قدرتهم على بلورة خطاب سياسي ناضج لأنهم قبائل غير متحضرة على عكس المجتمع المصري، كما قلت. ماذا تريد أن تضيف من الإهانات لهذا الشعب الذي تحمّل قلة حيلتك ثلث قرن؟ أريد أن أزودك بهذه المعلومة: في افتتاحية الأحد الفائت قالت صحيفة نيويورك تايمز إن من قتل المعتصمين في صنعاء هم رجال أمن يتبعون نظام صالح. المعتصمون قالوا إن القتلة من رجالك. المقبوض عليهم أفادوا أنهم مرسلون من قبل أولادك. أهالي الحي نشروا بياناتهم وقالوا: لسنا قتلة. رجالك استقالوا بعد أن تأكدوا إن القتلة من رجالك. على من تستهبل إذن؟ ما هذا السبات المخيف الذي تسبح فيه؟ من ضمن كل جرائمك فإن هذه الجريمة هي الأقسى، والأحقر. ارتكبت إثماً، ثم اتهمت به بريئاً، ثم أعلنت الحداد، وبعد ذلك زعمت أنك تطارد القتلة؟ «ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرمِ به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً» (الآية 112، النساء). قال يعني حتفرق معاك الآية! أنت أيضاً لن تسلم السلطة لأقلية. لكنك مستعد لتسليم السلطة في خلال ساعات وأنت مرفوع الهامة. للأقلية برضه؟ ليس من طبيعتك التشبث بالسلطة. لكن طبيعتك أيضاً تريد أن تموت في القصر الجمهوري. 33 عاماً وأنت لست من هواة السلطة. دعنا نقل: يا ليتك من النوع الذي يتشبث بالسلطة، مثل بن علي، لكي تستمر فيها فقط 23 عاماً. وأشياء كثيرة مما لا يقوله العقل السليم. شعرت بالحزن العميق لأجلك هذه المرة، فأنت رغم كل شيء بشر. قال مبارك: الإخوان. قال بن علي: الإخوانجية. قال القذافي: القاعدة وأصحاب اللحى. مؤكد أنك تعرف مآلات كل تلك الرمم. لماذا تكرر ما فعلوه وما قالوه؟ إلى هذا الحد لم تعد قادراً على ابتكار أي شيء؟ تتحدث عن الشرعية وتستخدم مصطلحات «الأولاد»، «الأسرة». ما هذه الشرعية الدستورية التي تتحدث عنها؟ وبمناسبة حوار المخلوع على قناة العربيّة، والصورة المثيرة التي ظهر عليها صالح، أنهي مقالي بهذه الأغنية من فيلم «الكيف» لمحمود عبد العزيز ويحيى الفخراني: يا حلو بانت لبّتك، أول ما دابت قشرتك. تحرّم عليّ محبتك. ورح أتوب عن سكّتك. القلب منّك مليان جفا، والصبر من قلبي اتنفى، وضاع معاك كل الصفا. ضيعته بعِندك يا قفا.آه يا قفا.