تمثل الاختلالات التي تشوب عملية التصرف بالمال العام أحد أبرز المعضلات التي تعاني منها الوزارات والمؤسسات الحكومية وتتأصل يوماً تلو آخر بأشكال ووسائل متعددة ومتلونة. شبح الفساد المستشري في هيئاتنا ومؤسساتنا الحكومية ينمو بشكل مخيف ومتسارع، مهدداً بالتهام كل ما يقابله من اعتمادات وموازنات ومواد، وحتى الإعانات المتدفقة من الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات والصناديق المانحة. ثمة أوجه عدة يمكن من خلالها التلاعب والاحتيال على المال العام، وما أكثرها، وهنا سنركز على أحد الوجوه المتعددة لهذه الظاهرة: وهي الفساد في المناقصات العامة. تناقض المعايير: في أحد التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة المتعلق بالمركز الوطني للأورام بصنعاء، الذي يعتبر مستقلاً مالياً وإدارياً يتبين من خلال التقرير المقدم من الجهاز عن المركز للعام المالي المنتهي في 2009 وجود عدد من الاختلالات في عملية ترسية المناقصات على الشركات المتقدمة للمناقصات الخاصة بتوريد الأدوية التي يحتاجها المركز لمرضى السرطان، وكان أبرز تلك الاختلالات ما يلي: مناقصة 1/2008: وجود تناقض كبير في ترسية المناقصات على الشركات المتقدمة بعطاءاتها لتلك المناقصات حيث: - تخضع ترسية المناقصات لشروط ومعايير ارتجالية أثبت التقرير تناقضها من مناقصة إلى أخرى، ويتبين ذلك من خلال دراسة المناقصتين رقم 1 لسنة 2008 ورقم 8 للسنة نفسها الخاصتين بشراء صنفين من الدواء، فقد لوحظ ترسية المناقصة رقم 1 على شركة الميوني بمبلغ وقدره 166.500 دولار، وتم استبعاد شركة الفواصل المتقدمة للمناقصة بعرض يقل عن الشركة التي تم الترسية عليها بمبلغ 46.053 دولار، وكانت المبررات هي ضرورة توفير الصنف من مصدر جيد لضمان الجودة. تلك المبررات المقدمة لترسية المناقصة رقم 1 لسنة 2008 تثبت تناقضها مع المبررات التي تم الأخذ بها في ترسية المناقصة رقم 8 للسنة نفسها، كما يلي: تم ترسية هذه المناقصة على الشركة التي تم استبعادها في المناقصة رقم 1 لسنة 2008، وتم استبعاد الشركة التي تم ترسية المناقصة رقم 1 عليها، بحجة أن السعر مرتفع للشركة التي تم استبعادها، أي أن توصيات الإخصائيين المشار إليها في المناقصة رقم 1 لم تظهر في المناقصة رقم 8، ولم تؤخذ بعين الاعتبار عند الترسية، بمعنى أن المزاج هو المعيار الوحيد في عملية ترسية المناقصة. ومن المخالفات التي ذكرها التقرير ذاته أن لجنة المناقصات والترسية تقوم بعمل تكلفة تقديرية بأسعار تتناسب دائماً مع العطاء الذي يتم الترسية عليه، بالرغم من أن المركز يجب أن يأخذ عادة بالأسعار السابقة للمناقصات الماضية عند تحديد التكلفة التقديرية للمناقصات التي سيتم إنزالها وتقديم العطاءات فيها، ومما يدل على هذه المخالفة ما يلي: في المناقصة رقم 1 للعام 2009 الخاصة بشراء أدوية كيميائية لثلاثة أصناف تم ترسية المناقصة على شركة جال للأدوية، وتم استبعاد محلات عبدالحفيظ بمبرر عدم تقدمه بعرض للصنف الثالث (قوة 100 mg) وهو مبرر واهٍ خاصة لو عرفنا أنه لو تمت ترسية المناقصة على الجهة التي تم استبعادها، فسيعود إلى الخزينة العامة مبلغ 21.260 دولار فارق العرض الذي تم الترسية عليه، وبهذا فإنه يتضح أنه لا توجد تكلفة تقديرية من قبل لجنة المناقصات بالمركز تقضي باعتماد العرض الذي يقدم أفضل الأصناف بأقل تكلفة ممكنة. استغلال الشخصية الاعتبارية كل ما ذكر سابقاً من المخالفات الصريحة للمركز في المناقصات الخاصة بشراء الأدوية في كفة، وما سنوضحه لاحقاً يأتي في كفة أخرى، وهو استغلال الشخصية الاعتبارية للمركز في مساعدة بعض الشركات الخاصة، من أجل توريد أدوية باسم المركز تمكنها من الحصول على تخفيضات كبيرة في الضرائب وتسهيلات أخرى تمنحها الحكومة للأدوية الخاصة بوزارة الصحة والجهات التابعة، لها وقد ذكر ذلك التقرير ما يلي: قيام إدارة المركز بتوجيه رسالة برقم 590 وتاريخ 17/11/2009 إلى الهيئة العليا للأدوية تطلب فيها الإفراج عن الأصناف الخاصة بالمركز الواصلة عبر شركة بينونة للأدوية والمستلزمات الطبية من الشركة المصنعة (Ginmark) وبلد المنشأ الأرجنتيني، بحجة أن تلك الأصناف جزء من مناقصات المركز للعام 2009، وبعد فحص المناقصات خلال العامين 2008 و2009 اتضح أنه لم يتم ترسية أي صنف من الأصناف المحددة في رسالة المركز على الشركة المذكورة، بل على شركات أخرى، مما يدلل على تعاون شخصي بين إدارة المركز ومؤسسة بينونة للأدوية والمستلزمات الطبية، وهذا التعاون يخدم شخصيات محددة في إدارة المركز، وليس له أي صلة بالمناقصات أو الفائدة العامة التي يمكن أن تعود على المركز وخدمة مرضى السرطان، وهذا جانب من جوانب استغلال الوظيفة العامة للحصول على مكاسب شخصية تحقق مصالح أفراد بعينهم على حساب آهات مرضى السرطان. المشوار مستمر من خلال التقرير وما تم الوقوف عليه وقمنا بعرضه يتبين أن المخالفات والاختلالات الحاصلة في مركز بحجم مركز الأورام لا يمكن السكوت عنها، ويجب أن يتم وضع حد لمثل هذه المخالفات والاختلالات، حتى يتم القضاء عليها ومحاسبة مرتكبيها، خاصة إذا علمنا أن ما ذكر من المخالفات ما هو إلا غيض من فيض من مخالفات كثيرة ومتكررة تناولها تقرير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.