المشاهدات كثيرة والأمثلة عديدة في سياق الإجابة على السؤال أعلاه، لكنّ الخلاصة في الختام تكاد تكون واحدة. *** كنت أنوي طرح هذا الموضوع قبل عدة أشهر بعدما حصلت لي حادثة مع قائد سيارة آسيوي، خرج أمامي برعونة فائقة من شارع فرعي، بينما كنت مع عدد كبير من السيارات نحاول أن نقطع إشارة المرور الخضراء ضمن وقتها المحدد. لم أتمالك غضبي لتعريضه حياة عدة أشخاص للموت، كانت حياته أولها، دون سبب يستدعي كل هذه العجلة. فما كان مني إلا أن قمت بحصر سيارته جانباً وترجلت أرغي غضباً وأنا أسأله عما إذا كان أي شيء يتوجه إليه يَعدِل قيمة حياته، بينما قابلني بابتسامة المعتذر والخائف في آنٍ معاً. ما إن سكت عني الغضب وقفلت عائداً إلى السيارة (بعدما أوقفت المرور للحظات!) حتى طرحت ذلك السؤال على زوجتي، التي كانت ترقب تلك الشخصية البغيضة فيَّ عندما أغضب أثناء القيادة. *** لولا أن ما بتنا نراه ونسمعه يومياً حول مرض إنفلونزا الخنازير كان حاسماً في إلقاء الإجابة في حضني. وإذا كنت توصلت إليها عن طريق حالة فردية في الحادثة الأولى، فإن ردود فعل شرائح مختلفة من الناس في أمتنا تجاه المرض الوبائي يشير إلى أن الأمر لم يتوقف عن حالات فردية فحسب. أول ما راعني في الأمر كله تقرير بثته هيئة الإذاعة البريطانية BBC حول عدد الراغبين في أداء العمرة خلال شهر رمضان المبارك. فالغالبية الساحقة ممن التقتهم مراسلة القسم العربي للإذاعة البريطانية في القاهرة أكدوا أن العمرة فريضة واجبة الأداء، فيما الموت أمرٌ محتم. ولم يخل كلامهم من تلميحات واضحة إلى أن توافق الاثنين في وقت واحد قد يكون إشارة ربانية بحسن الختام! يضاف إلى ذلك ما نشرته صحف عدة نقلت سخط مقاولي الحج والعمرة على الإعلام الذي «هوّلَ المسألة، وأعطى المرض حجماً أكبر من حقيقته»، كما قال بعضهم. وما ذلك إلا بسبب الخسائر التي تكبدوها بسبب إحجام العقلاء عن أداء عمرة هذا العام، وربما الحج، إلى حين أن تنكشف غمة المرض، الذي يبدو شبه محتم في مكان تجمع مثل مكةالمكرمة وحرمها الشريف. إلا أن الأنكى من ذلك كله، ذلك الصمت شبه المطبق من لدن غالبية العلماء حول ما ينبغي على الأمة - دولاً وأفراداً- أن يفعلوه، أو يجتنبوه في هذا الصدد. ورغم أن البعض منهم عبر عن رأيه في الموضوع فإن ذلك لم يعد أن يكون رأياً شخصياً لا فتيا عامة تتصدى لمرض أودى بحياة المئات فعلاً. *** قد يرى البعض في عدم الخوف من الموت لدى من يرغب في أداء مناسك الحج أمراً محموداً. بل قد يذهبون إلى أن ذلك نقيضٌ جيدٌ للوَهَن الذي أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، والذي يصيب الأمة في آخر الزمان، ومعناه كما قال صلى الله عليه وسلم «حُبّ الدُنيا، وَكرَاهِيَة المَوْت». إلا أن القدر المتيقن من أن كثيرين من أولئك المقبلين على ذلك الموت الممكن لم يدركوا حرص الإسلام على قيمة الحياة أساساً. تلك القيمة التي اتفق علماء الأصول على أن حِفظها يُعد أحد المقاصد الكلية الكبرى للشريعة الغراء، وهو ما اصطلحوا عليه ب «حفظ النفس». والأوامر الصريحة من قبيل «وَلا تَقتلوا أنفُسَكُمْ» و «ولا تُلقوا بأيْدِيْكُمْ إلى التَّهْلكَةِ» في النصوص القرآنية والنبوية أكثر من أن نحصيها في هذه العجالة. وما ذلك التقدير في الشريعة الغراء للحياة إلا لكونها سبباً مباشراً لأداء واجبات الاستخلاف في الأرض وإعمار الدنيا وعبادة الخالق سبحانه. وزوال الحياة وما يساعد على استمرارها مثل الصحة في النفس والعقل والبدن يعني انعدام القدرة على أداء ما أمر به الرب عز وجل. ولعل السر وراء الاستهانة بحيواتنا - جماعات وأفراداً- يكمن في الأوضاع المتردية التي تعيشها شرائح واسعة من أبناء الأمة على مختلف الصعد الحياتية. فالتسلط السياسي والظلم الاجتماعي وانعدام الحريات ومحاربة المواطن في حقه في المواطنة واضطراره إلى مطاردة لقمة عيشه ومن يعيل، كلها أسباب تكفي لتضيِّقَ على الإنسان ما رَحُبَ من الأرض، حتى إنه ليرى بطنها خيراً له من ظهرها. ولست أفضح مستوراً إذا قلت إن الخطاب الديني غير المنسجم مع الإسلام والمتأثر بهذه البيئة شديدة السلبية، يوفر غطاء مناسباً للراغبين في التخلص مما يكابدون في حياتهم اليومية. فرغم أن كثيراً من حالات الموت التي نسمع عنها لا تختلف عن الانتحار غير المباشر فإن الثقافة الناتجة عن مجتمعاتنا المسلمة التي لا تقدِّر الحياة تضفي عليها الكثير من القبول بل والتقديس أحياناً. بل إن ذلك الخطاب قد يدفع بعضهم دفعاً إلى إيثار موتٍ يُمكِنُ أن تكون الجنة وراءَه، على حياة لا يعرفون كيفية البقاء على قيدها بكرامة أو حتى بمعدة تلقى ما يسد رمقها! ليس غريباً إذا أن تصفعك مشاهد الاستهانة بالحياة في مختلف تصرفاتنا اليومية، سواء كان ذلك إهمالاً في التغذية الصحية أو تهوراً جنونياً في القيادة (أو المشي أيضاً)، أو عدم اكتراث بمواصفات البناء والسلامة، أو حتى التسبب المباشر في القتل، وليس حريق الجهراء منا ببعيد! *** عندما تمسي الحياة عبئاً ثقيلاً على كاهل المرء فإنه يسعى للتعلق بأمل أن يكون ما بعدها خيرٌ منها. وحيث إننا نوقن بحقيقة البعث والحساب بعد الموت، فإن ما آلت إليه أوضاعنا جعلنا نغفل عن حقيقة كبيرة مفادها أن الجائزة التي تنتظرنا في الآخرة مرتبطة بقيمة ما نقدمه في الدنيا. وعليه، فإن إيماننا بالحياة بعد الموت ينبغي ألا ينفك لحظة عن يقيننا بالحياة قبله.