أجبرتني الظروف الدراسية على الصوم هنا في القاهرة التي يأتيها الكثير للتمتع برمضان، ولا أعرف لماذا القاهرة بالذات! قضيت رمضان هنا في 2005 ولكني لم أشعر به، يقولون إنه مميز وأحاول جاهدة أن أتلمس هذا التميز، الفوانيس شيء مميز في رمضان قبل دخول الشهر يتم تعليقها في أبواب العمارات والمحلات، وتهدى للأطفال، أيضا موائد الرحمن التي لا يخلو منها مسجد أو حارة هي معلم رمضاني بارز في مصر كلها.. في الأيام الأخيرة من شعبان خرجت أكثر من مرة أتلمس أجواء رمضان وطقوسه هنا. تغيرت ملامح الشارع تدريجياً حتى ليلة رمضان كان الوضع شبه تجديد للمحلات؛ تم تركيب الصوان كزينة للجدران والأبواب كمظلات، وأمام المحلات التجارية اصطفت خزانات زجاجية تحتوي الكثير من أصناف المشروبات والمكسرات واحتياجات رمضان من البلح والحبوب والمعجنات والمعلبات الخاصة، وازدحمت الأرصفة أكثر بالمارين إلى جانب هذه الاستعدادات، محل كراكز الخاص بالأدوات المنزلية في المنيل والمحلات الشبيهه أعطتني انطباعاً أن الشعوب تعرف من هذه الأواني، فالشعوب " الأكيلة" وفق اللهجة المصرية أي المهتمة كثيراً بأكلها ترى ذلك في تنوع معروضاتها من الخضروات والفواكه والاهتمام الكبير بأدوات الطبخ وعرض الطعام-هذا العرض دائما يشعرني بالحسرة على وطني "المجعجع"- في مصر ليس مجرد عرض فقط بل عرض وأكل، طريقة العرض لوحدها كفيلة أن تجعلك متهوراً في الشراء بعيداً عن ضمير الميزانية. وفي زيارة قمت بها قبل بضع سنين لعزبة" قرية" في محافظة المنصورة كان واجب الضيافة يحتم على كل بيت مررت للسلام على أهله بأن يقدموا لي أصناف الحلويات والأكل بكميات كبيرة لم أستطع مع هذا العرض المغري جدا -لكنه فوق طاقتي الاستيعابية- إلا أن أتذوق ملعقة واحدة من الصنف الذي يقدم احتراما لأهل البيت"، طبعا كلما بعدت عن مراكز المدن وبالذات القاهرة، تقترب أكثر من الشعب المصري البسيط بكرمه وطيبته ودماثة أخلاقه، فالقاهرة وسكانها ليسوا مقياساً لكنهم يشكلون الصورة الذهنية عن النصب والاحتيال والجشع وغيرها..
طبعا بمقارنة وضع اليمن فنحن نصنف من الشعوب "الجاوعة" وفق مصطلح الجرعات الاقتصادية الإصلاحية! عودة إلى رمضان في شارع المنيل الحيوي بوجود اليمنيين طلاب ومرضى وزائرين" ابتلانا الله بالتجمعات، فلا نسكن إلا جوار يمنين، وبالتالي نكون سبباً في رفع الأسعار وغلاء الشقق في المنطقة التي نتكتل فيها، وهي على الأرجح ثلاث تجمعات في مدينة نصر، والمنيل، والدقي. دعتني صديقتي للإفطار معها فقررت الخروج من منزلي قبل المغرب بوقت كاف لأستطلع الوجه الرمضاني بين الناس. بعد بضعة أمتار من منزلي كان المشهد الأول صادماً إلى حدًّ ما؛ ثلاثة شبان يعملون في توصيل الطلبات يشدون مع بعضهم في الكلام، آخر عبارة لقطتها قبل أن أسرع الخطى خوفاً من أي مفاجأة غير متوقعة كانت تهديداً من أحدهم" أبقى تعالى قابلني بعد الفطار" ..!! ميدان الباشا أحد أبرز معالم شارع المنيل يزدان بمحل حلويات الدمياطي الشهير الذي أقفل الطلبات العادية من بيتزا وفطائر وسندوتشات وتفرغ للمعروضات الرمضانية كغيره من المحلات في هذا الشهر، عجينة سمبوسة الدمياطي هي الأفضل من بين مثيلاتها المثلاجات، وهي وجبة خفيفة دخيلة جاءت مع الخليجيين واليمنيين، والُقلاّش الذي تصنع منه البقلاوة والحلويات الرمضانية وبعض الترت وقطع الجاتوه، والبسكويتات والتمور مع تغيير في طريقة العرض لإغراء الصائمين، هذا الشهر هو سوق الحلويات بأنواعها، لذلك تقفل محلات الكشري البائسة، وفي هذا الوقت من أول نهار في رمضان كثير من المحلات مقفولة في الشارع....
بعد عدة خطوات وقفت أشتري كروت اتصال دولية للتواصل مع أهلي، ثم انتقلت تلقائياً إلى رصيف منتصف الشارع تفادياً لزحمة السيارات الواقفة والمتحركة وحركة الناس، ولأتفرج على رمضان "برواقة". مضيت أتأمل رمضان في وجوه الناس المرهقة والزهقانة والمكشرة والمتذمرة وأخيراً المبتسمة مثلي وهي قليلة، لم أتجاوز ميدان الباشا إلا بأمتار قليلة وأنا غارقة في تأمل ما حولي لأقف فجأة مع بعض الوجوه العابرة أمام تجمع شبابي " بالأيدي" بدون سابق إنذار للمارة المساكين"، يعني مصياحة باللهجة الوطنية. ردة فعلي كانت تلقائية بالهرب من الرصيف الواسطي إلى الرصيف ناحية الشمال باتجاه القصر العيني لمن يعرف المنيل، وتوقفت لحظة لعلي أفهم سبب الشجار الذي عادة ما يبدأ في مصر لسبب ما لكنه لا ينتهي بسهولة، بل كما نقول في اليمن" يتجارر أكثر وأكثر" دون نتيجة ما، بعد عدة خطوات من الهرب وقعت في شرك أكبر بسرعة لم أتوقعها وأنا ما. أزال أنظر خلفي للمتشاحنين " مضرابة أكبر وناسها أكثر أمامي مباشرة تجمدت في مكاني من الخوف، ترددت في تحديد وجهتي إما رصيف الخناقة السابقة أو رصيف المضرابة الحالية. لحظات فقط وكان جمع الخناقة السابقة قد انفض ليجري باتجاه " المضرابة" كانت فرصتي لإعادة عبور الشارع مرة أخرى إلى الرصيف على يميني وبين الفينة والأخرى أقف مع بعض المتفرجين لأشاهد الحدث وأنا أضحك فلسنا المجتمع الوحيد الذي يطبق المثل الشعبي" لا تحاكي صايم بعد العصر"، ونعتقد خطأ أن السبب هو فقد الصائمين من الرجال لعادة مضغ القات في هذا الوقت.
توقفت حركة السيارات أمام " المضرابة" التي تكاثر جمعها بصورة درامية، وأمام الصراخ المتصاعد كان الخوف رفيقي وأنا أواصل طريقي وقد فقدت تركيزي في معرفة إحدى البقالات أو السوبر ماركت كنت أنوي التوقف عندها لشراء التمر، حاولت جاهدة أن أركز على الطريق وأن أظل مستقيمة الخطى متخطية ركبتي المرتجفتين، حتى وجدت ضالتي ودخلت أستجمع هدوئي وأنا أسأل عن نوع التمر الذي أحتاجه ولم أجده أيضا...
وصلت إلى باب صديقتي وأنا أهدد نفسي بعدم المجيء مرة أخرى والتعرض لحالة الرعب والخوف هذه، وبمجرد الانتهاء من الفطور اليمني المكون من السمبوسة والشفوت مع التمر والبن والشربة كنت قد نسيت التهديد والوعيد وظللت أتنقل من نافذة إلى أخرى في البيت في انتظار افتتاح مائدة الرحمن في الحارة الواقعة خلف العمارة، وهي حارة شعبية تقع خلف عمارات السراي في المنيل وأقيم بها صوان كبير للمائدة لكن لم يفتح في هذا اليوم المبارك، ونفس الصوان تقام به الأعراس الصاخبة المشهورة في هذا المكان. وانتهى اليوم الأول الذي هو صعب كما يقول المصريون باعتباره أول يوم صيام. وكل عام وأنتم بخير