لا أفهم لماذا يصر بعض الكتاب على توجيه رسائل مفتوحة إلى رئيس الجمهورية، وأغلبهم يعرف أن صاحب الفخامة لا يقرأ إلا الرسائل المغلقة التي تأتيه دائماً وبانتظام من أجهزة مخابراته.. هو في الأصل لم يتعود على القراءة حتى نقول إنه مهتم بها، هو تعود دائماً على أشياء أخرى ليس من بينها قراءة الكتابات التي تقول له "اجمع دومان"، وانتبه للحرائق المندلعة في أكثر من مكان.. أن ينتبه لمن يصومون باستمرار من أبناء شعبه، لأنهم لا يملكون ثمن الزيت والدقيق.. ما فائدة الصيام لفخامته إن كان في الشعب من لا يجد ما يفطر به، ما قيمة خطب الرئيس في حفلات تخرج العسكر، حين يأتي شهر السكينة وأكثر الناس خائفون ومترقبون من الغد الآتي، وفي بلادي لا يأتي الغد إلا بما هو أسوأ من الأمس! سيقول من يستلمون الرسائل بالنيابة عنه، ويقرؤون له إن مثل هذه الكتابات لا تتناسب ومزاجه، لا تليق بالأماكن الفخمة المرفهة التي يسكنها، من غير المناسب أن توجد وسط كل مظاهر الترف والنعيم كتابات تتحدث عما يبعث على الكآبة ويورث البؤس ويفجر الذكريات الغاضبة. يكتب الصحفيون والكتاب من كل مكان عن مشكلات اليمن التي لم تعد خافية على أحد، ويتفق أغلبهم حول ضرورة إشراك كافة القوى الوطنية في وضع حلول للمشكلات المتفاقمة هنا وهناك، لكن فخامته "مشغول جداً" عن قراءة مثل تلك الرسائل الموجهة إليه بالدرجة الأولى والتي تبدأ عادة "بسيدي الرئيس"، همه الأساسي ينصب في تدبير "الطريقة المثلى لانتقال السلطة إلى نجله" الذي بدأ هو الآخر في إعادة رسم خريطة الولاءات والتحالفات، وانتقاء المقربين منه، وتوزيعهم على مفاصل الدولة كما كان يفعل أبوه.. هذا الكلام أصبح رسمياً بحسب ما كتبه عبد الحكيم هلال حول الرؤية الجديدة للحكومة التي يراد لها حسم الصراع على السلطة بين جيل الشباب الطامح للحكم. الرسائل المفتوحة غير مجدية لفخامته لأنها كما يراها هو وأصحابه لا تقدم له شيئاً ولا تؤخر، فهي في الأغلب كتابات تتحدث عن الحريات السياسية والحقوق المدنية والتنمية الاجتماعية والضرورات الاقتصادية، وهي مفردات ومصطلحات لا تخلوا من خطاباته وخطبه العديدة، ورجال الدولة من حوله لا يكفون عن التصفيق لها والمديح.. إذاً لماذا التعب ووجع الرأس؟! منتصف العام 2005 كتب الراحل أحمد الربعي في جريدة "الشرق الأوسط" قبل إعلان الرئيس تراجعه عن وعده بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية كلاماً حكيماً ومؤثراً في رسالة وجهها للرئيس قال فيها: " ستدخل تاريخ العرب من أوسع أبوابه، سيقول الأب لابنه وهو يشير إلى صورة لك في جريدة: هذا هو الزعيم العربي الذي ترك الحكم بمحض إرادته ومع سبق الإصرار والترصد.. نريدك أن تحقق أمنيتنا في أن يكون هناك رئيس عربي سابق، هذا اللقب الذي لم يحمله أحد من العرب حتى الآن". ما حدث بعد ذلك يعرفه الجميع، ذهب الرئيس إلى الانتخابات الرئاسية وذهب أحمد الربعي إلى ملاقاة ربه قبل أن تتحقق أمنيته. رسائل الحكمة المفتوحة لا تجدي، إن ظلت أبواب العقل أمامها موصدة، فهي في نهاية المطاف بحسب فخامته والقريبين من حوله لا ترتقي إلى مستوى الذكاء والفطنة والخبرة التي يتمتعون بها.. يجلس الرئيس في قصره، ويسأل: من كتب اليوم عني في الصحف؟ السكرتير: كلهم يشيدون بإنجازاتك. الرئيس: أنا قصدي من المتأزمين والحاقدين؟ السكرتير: شاب صغير السن يدعى محمد العلائي يقول أن "لا شيء يبعث على الاطمئنان". تدوي ضحكة الرئيس في أرجاء القصر الجمهوري ويطلب من سكرتيره الانصراف. الرئيس يضحك لأنه يعرف أنه وصل إلى السلطة قبل أن يولد هذا العلائي بسنوات! وبالتالي يقول الرئيس لنفسه: "كيف لمن ولد في عهدي أن يكون أدرى بالبلد مني؟" اللهم إني صائم.. ولا أريد أن ابدأ الكتابة في هذا الشهر بما يزيد الهم والغم للقارئ، ونعيد ما يكتبه زملاؤنا عن الرئيس وأصحاب الرئيس وخبرة الرئيس.. لكن من يوجد غيرهم؟ تلفتوا حولكم، هل ثمة آخرون غيرهم تسببوا في إيصالنا إلى هذا المستوى المشحون بالقلق والفجائع والحروب، من غير الرئيس أيضاً قادر على إحداث تغيير حقيقي وفاعل على مستوى البلاد، ولذلك تذهب له الرسائل المفتوحة، ويتوجه أغلبنا في كتاباته إليه.. لكن دون جدوى حتى اللحظة. لا أريد أن انتقص من شأن رسائل الحكمة الموجهة للرئيس، ولا يمنعني ما أكتب الآن من توجيه الشكر لأصحابها، ليسوا كلهم طبعاً فجزء كبير من الرسائل الذاهبة في هذا الاتجاه يكتب برنج السيارات وطلاء المباني لتلوين مشاريع البؤس والفساد بكل ألوان النفاق والخداع، فتبدو ملامح الوطن خضراء غناء ترفل بالمنجزات العملاقة في كل ساحة. دعونا من هذا الإنشاء المعقد، وليذكرني أحدكم بكاتب وجه برسالة عزاء ومواساة على صدر صحيفة إلى والد الطفل خير الله الذي اغتالته رصاصة الفوضى وهو في طريقه إلى المدرسة، أو إلى حمدان الدرسي الذي تم تعذيبه وهتك عرضه، وأخرج عارياً إلى الشارع من قبل أحد مشائخ تهامة، ألا يستحق مثل هؤلاء أن تكتب لهم الرسائل المفتوحة، تعبيراً عن التضامن معهم والدعم لهم ولو بكلمة، ألا يستحق أهل الجعاشن أن نوجه لهم رسالة ثناء وتشجيع لأنهم تجاوزوا الخوف الذي رضعوه من آبائهم وأجدادهم وشرعوا في مواجهة الظلم بالمسيرات والتظاهرات.. على الأقل هؤلاء سيقرؤون الرسائل ويعيدون قراءتها وربما يحتفظون بها في براويز تزين جدران منازلهم وقلوبهم. باعتقادي أن الرسائل المفتوحة وسيلة تعبيرية رائعة، لكننا لا نحتفظ لها بهيبتها واحترامها عندما نعلقها على صدر الصحائف وداخلها، ليس لشيء وإنما لأننا استطعنا توجيه رسالة لأكبر رأس في البلاد ندرك أنه لن يقرأها. قرأت ذات مرة أن إحدى المعلمات طلبت من الأطفال توجيه رسائل إلى رئيس الدولة يكتبون فيها ما يريدون فكتب أحدهم: " سمعت الشيخ يهمس بأذن أخي المولود حديثاً باسم الحزب الحاكم بدلاً من الأذان، قال الشيخ: حتى يتعلّم الولاء منذ الولادة؟! سيدي هل "ولاء" هي نفسها تلك الفتاة التي تقطن في الشارع المجاور والتي يذهب إليها الشباب كل ليلة؟! وكتب آخر " قرأت في درس القراءة أن "الشرطة في خدمة الشعب".. ترى مَن هو الشعب سيدي؟ وكيف يمكن أن أصبح من الشعب في المستقبل؟ هل الأمر يحتاج الدخول إلى الجامعة؟".