وقع صالح أو لم يوقع على المبادرة الخليجية حتى الآن.. راوغ أو لم يراوغ.. فالجدل حول التوقيع أو أي جدل آخر متوقع بعده، لن يغير من حقيقة الأمر شيئاً، أن ليس أمامه إلا أن يرحل عن السلطة.. صحيح أن الأمر لن يكون سهلا قطعا، وسنشهد عقبات كثيرة إلى أن يرحل عن السلطة، إلا أن فهما لتراجع صالح عن التوقيع على المبادرة الخليجية أنه نوع من المحاولات الماكرة والمجدية للبقاء يفتقد إلى الدقة والقراءة الصحيحة للواقع، فضلا عن عدم الثقة بالقدرة التي أصبحت عليها الثورة. أعتقد أن مسألة الرحيل والبقاء لم تعد متعلقة بالرغبة الشخصية عند الرجل، بقدر ما هي واقع جديد فرضته الثورة، الحلم أو الخوف من العودة إلى ما قبلها أمر ليس واقعيا وغير مبررا فالثورة قد نجحت بالفعل، ولم يبق إلا مسائل تفصيلية لترتيب نقل آمن للسلطة. فنحن في اليمن لدينا حالة خاصة من التعقيدات الداخلية والخارجية هي من منعت أن تكون ثورتنا سريعة وشبيهة بثورتي تونس ومصر، إلا أن ذلك لا يعني أن ثورتنا قد فشلت، فهذه الحالة الخاصة هي من منعت أن نكون مثل ليبيا وسوريا أيضا.. ثمة خصائص تتوفر لحالتنا رسمت للثورة طريقا خاصا لن يشبه غيرنا، وهي من جعلتها محكومة بالأداء السياسي حتى الآن.. مع تمحوره حول حالة إجماع لدى معظم الأطراف في الداخل والخارج عن ضرورة النقل السلمي للسلطة.. من ينكر أن المبادرة الخليجية وبدعم من القوى الدولية (أمريكا، أوروبا) لا تتحدث إلا عن نقل السلطة في ثلاثين يوما؟! حتى الرئيس لا يراوغ الآن إلا في إطار "التوقيع"، هو لا يرفض الفكرة من حيث المبدأ "الرحيل"، على الأقل لا يملك أن يجاهر بالرفض.. فلا خيار أمامه غير الرحيل، سواء بالسلم كما تسعى إليه المبادرة الخليجية، أو بدفع الأمور للمواجهة، ولا يبدو حتى الآن أنه يفضل أن يكون الطرف الذي يذهب للمواجهة أولا، ربما هو على قناعة أنه لن ينجو أيضا، وهو صحيح بالفعل. لذلك أعتقد أن خياره المفضل هو القبول بالمبادرة الخليجية والمناورة على هامشها، كما يفعل الآن، إلا أن ما يجب فهمه أيضا أن مراوغاته تلك ليست انعكاسا لخطة جاهزة للتنصل عن المبادرة في الأخير، لن يمكنه ذلك، بقدر ما هو يراهن على أخطاء قد ترتكبها الأطراف المناوئة له، لينجو. فهم من هذا النوع لما يحدث الآن على صعيد المبادرة الخليجية، وما سيحدث، قد يساعد على أداء سياسي جيد لملاعبة صالح إلى وقت إخراجه من السلطة، على طريقة توصيف قديم لناطق المشترك محمد قحطان عن "قائد الطائرة المجنون".
ليس بالضرورة أن تكون "الثورة اليمنية" حالة مشابهة وسريعة كثورتي مصر وتونس، أو أن تكون ترجمة حرفية لتعريف قديم لمصطلح "الثورة" يتمحور حول السرعة والتضاد مع الأداء السياسي. فالثورة، والحياة وأحداثها عموما، في تصوري، كائن حي أيضا لا يمكن له أن يحمل غير صفات البيئة والظروف المنتجة له، وهو ما أريد قوله بشأن الثورة اليمنية، هي ثورتنا ولن تشبه غيرنا أبدا. لذلك أي تصور للثورة اليمنية على غير ما هي عليه، وإنما بما كانت عليه الثورات الأخرى، والإصرار على تجريدها من صفة الأداء السياسي كواقع متحكم ولا يزال بمسيرتها، بحجة "الثورية"، هو تصور غير دقيق ويشوش على أدائها الذي ينبغي كونها عليه. لا أدري ما يضر بعض من في صف الثورة أن يقول إن ثورتهم قد نجحت بالفعل.. النجاح الذي تجده في الواقع الذي فرضته عن ضرورة الرحيل السلمي عن السلطة، كخطاب أصبح مسلماً به لدى جميع الأطراف بما في ذلك السلطة والقوى الإقليمية والدولية. كمرحلة أولى نجحت الثورة في فرض الرحيل ك"واقع"، ولا يخاض الآن إلا في شكل ذلك الرحيل وطريقته وأدواته، وهو ما يأتي كمهمة للمرحلة الثانية "الراهنة"، ولذلك ينبغي أن يميز الثوار بين المرحلتين، وطريقة أدائهما وأدواتهما المختلفة، بما إنهم أرادوا وكظرف واقعي أن تتخذ ثورتهم هذا المنحى الذي اتخذته. أعتقد أنهم يفهموا أن عدم اتخاذ الثورة اليمنية شكلا مشابها لثورة مصر لم يكن بطرا منهم، وأن عدم شبهها بثورة ليبيا لم يكن من باب الصدفة أيضا، ثمة معطيات وواقع سياسي هو من فرض عليها أن تتخذ هذا الشكل المتدرج في الأداء والمراحل. فالثورة ليست هدفا في حد ذاته وإنما آلية لتحقيق أهداف سياسية معينة، كذلك الأمر مع أدوات الفعل الثوري، ليست أهدافا أيضا، وإنما آليات للوصول لغايات معينة، في حالتنا.. الحشد الشعبي والتعبئة الثورية في المرحلة الأولى نجحا في فرض الرحيل كواقع ويجب أن يستمرا لتدعيمه، إلا أن عدم تفضيل الحسم بالحشد، لمسألة تتعلق بالكلفة، فرض إعطاء آلية التفاوض فرصة لتفعل ذلك، كأحد المراحل الثورية. ثمة قول غير دقيق أن "الثورات لا تعرف التفاوض"، لا أدري من أين جيء به، مع أن كثير من الثورات التي عرفها العالم استكملت مهماتها في مراحلها الأخيرة بالتفاوض، كما حدث في بعض دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية.. حتى إن معظم الثورات القديمة كاستقلال أمريكا والهند عن بريطانيا انتهى بنجاح بالتفاوض.. ما يمكن قوله هنا أن الخوض في التفاوض بموجب المبادرة الخليجية لترتيب رحيل الرئيس عن السلطة، هو مرحلة من مراحل الثورة، ولا يعني كما يفهم البعض نهاية الثورة بتفريق عجيب وغريب اختلقوه بين الأزمة السياسية والثورة. أعتقد أن فهما عميقا للمبادرة الخليجية على ذلك النحو، وعلى أنها تعالج كأولوية مسألة الخروج الآمن والسلس للرئيس من السلطة، كأهم متطلب للمرحلة الراهنة، وأن مسألة تحقيق أهداف الثورة ترك لليمنيين أنفسهم على طاولة حوار وطني لصياغة دستور جديد في مرحلة لاحقة، أعتقد أنه قد يساعد في تفهم بعض المتشككين للعملية التفاوضية على أنها آلية للفعل الثوري أيضا. شخصيا.. أثق في المبادرة الخليجية وقدرتها على ترتيب نقل آمن وسلس للسلطة، رغم العقبات التي تواجهها الآن بخصوص توقيع الرئيس، أو التي قد تعترضها في المستقبل، لتفهمي أن الأمر لن يحدث بتلك السهولة.. غير أن ثمة معطيات تجعلني أثق في نجاح المبادرة ولسبب بسيط هو أن ذهاب الأمر إلى المواجهات المسلحة، وهو الخيار المقابل للنقل الآمن والسلس للسلطة، أمر غير محبب لجميع الأطراف في الداخل والخارج، بما في ذلك "صالح" نفسه، كونه يدرك جيدا أنه في حال ذلك لن يكون بمقدوره حسم الحرب لصالحه، أو أن يبقى رئيسا للبلد.. ما سيكون عليه هو "أمير حرب" مطلوب للعدالة الدولية، إن نجا من القتل.. المبادرة الخليجية لا زالت توفر له فرصة ثمينة لتجنب مآل مثل ذلك. سيراوغ إلا أنه لن يرفضها، ربما يدرك ما سيعني الرفض.. فالإقليم والعالم ليسا في مزاج جيد ليسمحا له بالذهاب بالبلد إلى الانهيار والفوضى.. يمكنهم فعل الكثير لمنعه من ذلك.. ليس أقله منح الضوء الأخضر لتنحيته بالقوة.. حسم أمر الرحيل، والمراوغة لن تغير من حقيقة الأمر شيئاً، كساحر يدرك أنه في مشهده الأخير، ويعزي نفسه بممارسة لعبتين قبل أن يسدل الستار!!