أن تشاهد الرجال والأطفال في صعدة "يعرعرون" بالدبابة والمدرعة، وتسمع خلال ذلك زاملاً شعبياً لأنصار الحوثي، تكون قد اقتربت كثيراً من فهم القصة. تأمّل جيداً في الصور القادمة من هناك وستعرف الكثير..على الأقل الأسباب التي توفر لتلك الحرب الحطب والزيت لتظل مشتعلة.. أثناء ذلك لا تنسى المفارقة التالية: تلك المشاهد ملتقطة من أكثر البيئات جهلاً، لكنها منقولة إلى العالم بأفضل التقنيات العصرية: الكاميرات الرقمية والإنترنت. نعود للزامل الذي لم أتعرف على كلماته ، صوته كان كافياً لأتذكر المسلسل اليمني الشهير "الفجر"، الذي أنتج في العام 1983 وتناول الحياة اليمنية قبل ثورة سبتمبر 1962. وإذا كان القارئ من الذين استمتعوا بمشاهدة ذلك المسلسل، يمكنه أن يذهب إلى موقع اليوتيوب على الإنترنت ويشاهد الأفلام التي يرفعها على الموقع أنصار الحوثي بما فيها مقطع الزامل، ثم يقول لي الفرق بين ما كان يعرضه المسلسل وما تحويه هذه المقاطع.. لا فرق كبير يمكن ملاحظته وذكره، سوى أن الناس هنا استبدلوا بعض الوسائل القديمة بأدوات حديثة فاضت علينا من العالم الذي يتغير من حولنا.. تشاهد رجال الحوثي بملابسهم، وصيحاتهم، وزواملهم، وكأنك تشاهد مقطعاً للحياة يعود إلى ما قبل الثورة، الجبال هناك والتضاريس الوعرة ، وغياب أي ملامح عصرية سوى وسائل القتل والحرب تجعل المشهد يتطابق تماماً مع صعدة في العام 1962.
يمكن الاستشهاد أيضاً بالدعوات نفسها التي تنطلق من البيوت هناك، واستدعاء القليل من التاريخ المعاصر لتبدو الصورة مكتملة. ما تغير هنا أن هؤلاء الرجال أصبحوا يحملون الهاتف المتحرك "أبو كاميرا" ويستطيعون الولوج إلى الشبكة العالمية، ليعرضوا علينا بكل بساطة كيف أن هذه السنين التي مرت منذ قامت الثورة لم تغير في الإنسان اليمني ما يجعله قادراً على الخروج من هذا العجين المقيت الذي يختلط فيه جهل الإنسان بأدوات القتل. ولذلك ستأتي ذكرى الثورة في هذا الشهر، وكأننا لم نغادرها أصلاً. بكلام آخر أكثر بساطة، يمكن القول إن ما يحدث في صعدة ليس سوى استمرار لحالة الجهل والتخلف اللذين كانا من أبرز الأسباب التي قامت الثورة لأجل القضاء عليهما، وما حدث خلال فترة ما بعد الثورة وحتى الآن لا علاقة له بالقضاء على تلك الأسباب، وكل ما في الأمر مجرد عمليات تحديث باهتة ومتقطعة اهتمت بالمظاهر السطحية فقط في أوساط المدن، بينما ترك الإنسان اليمني في أغلب المناطق يعاني من عدم توفر أبسط مقومات الحياة المدنية، الكهرباء المقطوعة مثلاً في قلب العاصمة. لا زلنا محلك سر، نعيش مسلسل الاقتتال والاحتراب منذ ما قبل الثورة، ويمكننا أن نعدد الحروب التي خاضها اليمنيون منذ ذلك الحين.. تكاد لا تمر عشر سنوات دون حرب واقتتال، سواء بعد الوحدة أو قبلها. ولدينا من الجهل والتخلف في أكثر من مكان ما يساعد على الاستنفار والعودة إلى خلف المتاريس، ولن يعدم كل طرف السبب الذي يقاتل من أجله، فالأمر ببساطة -كما يقول مروان الغفوري- أن أيّاً من طرفيها ليس لديه ما يفعله فيما لو توقّفت القوارح. وحالات الاستقرار المتقطعة التي كانت تمر بها البلاد لم تكن نتيجة تحول في السلوك، بل كانت تتم في أغلب الأوقات عن طريق شراء الولاءات، وبمرور الوقت كانت إنفاقات دار الرئاسة تزداد باستمرار لشراء الولاء السياسي، وهذا أمر لا يدوم طويلاً. ولذلك يصبح من الطبيعي أن يلجأ الإنسان الذي لم يغادر ثقافة الفيد والتقطع والقتل إلى ما يركن عليه إلى السلاح تحديداً، وفي ظل وضع كهذا تهيمن ثقافة العسكر على كل شيء تقريباً، وتجد أغلب المسؤولين في المواقع المدنية يحملون رتب عسكرية حتى في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، حيث ذهب الفندم إلى قاعة الدرس وإلى رئاسة الجامعة كما يقول جمال جبران بمقالة له في نيوز يمن بعنوان "الأفندم دكتور".. وقبل ذلك كان فقيه قريتنا يرحمه الله يقول إذا اشتدت الخطوب: "الدنيا ضبحت عسكر". في القبيلة أيضاً لا تصنف الفئات العمرية فيها على أساس أن هناك أطفالاً وشباباً ورجالاً وهكذا.. للقبيلة مصطلحاتها العسكرية: الأطفال يتحولون إلى رجامة، والشباب إلى هجامة وهكذا. وكأن الناس هنا لم يخلقوا إلا ليحاربوا، أو مستعدين لمعركة يقاتلون فيها ويقتلون. ووفق تلك الثقافة ينتظر الرجامة بفارغ الصبر تحولهم إلى هجامة ليجوبوا دروب القبيلة بالسلاح المتدلي من على أكتافهم، وكأنهم بذلك أصبحوا بمنتهى النضج والرجولة، ولا شيئ سوى ذلك يهمهم. تخيلوا معي صبياً ينتظر بفارغ الصبر حمل الكلاشينكوف على كتفه، وإذا به مدعواً لاعتلاء دبابة – مرة واحدة - لمقاتلة اليهود والنصارى، هذا عرض مغر جداً، ولا يستطيع طفل تربى على ثقافة القبيلة مقاومة إغراء أن يكون في اللحظة التالية رجلاً يجاهد في سبيل الله، ولذلك سيعتلي ظهر الدبابة ويحمل السلاح ويردد الشعار الشهير لجماعة الحوثي ويمضي لحتفه بكل بساطة، وسيأتي من بعده من هو مثله أو ليثأر له، وهكذا. هؤلاء الأطفال ليسوا سوى ضحية، وأغلب البلاد هي كذلك. ولو أن رجال الحكم في بلادي أخلصوا العمل واتجهوا إلى الإنسان اليمني تعليماً ومعرفة لما كنا اليوم نتحدث عن هذه الحرب وهؤلاء الأطفال. وبكلمة واحدة: خلال الخمسين عاماً الماضية لم نتحرك بما فيه الكفاية للخروج من جهلنا وتخلفنا، و"ظلت هذه البلاد تبحث عن التغيير كمن يبحث عن إبرة في كومة قش" كما قال ذات مرة نبيل الصوفي. ولأن التغيير لم يحدث ظل العقل القبلي لأغلب اليمنيين يمارس هواياته في نشر الفوضى أينما حل في هذه البلاد، يدفعه إلى ذلك جهله الذي لم يجد من ينقذه منه المصدر أونلاين