"هذي السنة البلاد طاحت" قالها سيف سالم، الرجل الخمسيني، المقابل لي على طاولة بوفيه الكهرباء، في جولة باب القاع بصنعاء، في تنفيس ربما لما يعتلج في صدره، وعند سؤالي عن أحوال الشغل معه، .. "نشتغل أسبوع أسبوعين ونجلس شهرين بلا عمل، لكن الله يعين" قالها وهو يقلب كفيه مع نظرة شرود نبيلة. أما كيف يدبر سيف أموره على هذه الحال .. "كله سلف، المصاريف سلف، والأهل سلف، بس الله يعين!" في كل حديثه المشحون بالمعاناة والشجن "الله يعين" لازمة مستمرة قلما يخلوا منها كلامه، .. هو استنجاد بالسماء إذاً، حين تضيق الأرض. جلسة عابرة، مع أحد الناس المرابطين، في جولة باب القاع، ترسم لوحة، للمنحدر الذي انزلق فيه ثلاثة أرباع الأهالي، إلى حيث الفقر والعوز وانعدام القدرة على ملاحقة لقمة العيش، الساعة السابعة مساء، يمد سيف نظره صوب القمر، يتابع تدرجاته اليومية، وهاهو القمر في هيئة الدائرة، انه نصف شعبان، .. "في مثل هذه الأيام نكون جاهزين للعودة إلى القرية، أما هذي السنة ما فيش رِوَّاحة، الأرزاق ضاقت، أيش نروح نقول للعيال"
أمام عينيك تنتصب الظروف المحيطة به، وينتصب إزاءها هدوء باسم، يستل من حناياك إعجاب بالنبل والأبوة، ومعان لا تستطيع توصيفها. المساحة المقابلة لمطعم تعز متخمة بالواقفين والجالسين، وبرغم الشارع المبلل ، يبدأ أصحاب البسطات في نشر بضاعة الحراج خاصتهم ، تظل السواعد المتعبة تلملم قطع الكرتون وبعض الأخشاب لتجنب القاع المتسخ .
يتمدد حلم اليقظة، لدى سيف، الذي يحمل عصا الرنج، متكئا على الذاكرة، وبإشارة من يده تجاه احد المفرشين "هذا كان أكبر قبيلي، أبوه كان رعوي كبير، اليوم أمامك مفرش بالشارع "، إنه زمان القبيَلة (بفتح الياء)، الماضي الباذخ بالهدوء، وسلاسة الحياة، المدعم بوفرة مالية، مثلت بنية تحتية، لأخلاق الزمن الجميل، الكرم، والضيافة، والحساب على صبوح الأصدقاء، قبل أن يضطر الجميع إلى اختراع مقولة "كلوا واشربوا وعلى الحق تحاسبوا" .
مفردات استهلاكية، تتناولها ثرثرة العاملين هنا، باعتبارها أشياء كانت يوما ممكنة الاقتناء، اللحم، والسمك، وسيجارة "كنت"، وبطاريات "ابو ولد"، وسرب لا ينقطع من الذكريات المرفرفة، ماض أحالته ضائقة الحاضر إلى عهد أميري بامتياز، .. "اليوم لو طلعت فوق دباب ما تقدرش تحاسب على صاحبك " ، قالها سيف ذي الحساسية المرهفة ورزانة الرجولة، الذي "مسَّجته" الحياة بأكثر مما يجب.
الحشد المتجمهر هنا، بتنوعه الجغرافي والعمري، لا يجمعه سوى انحدارهم من باحة الطبقة الوسطى إلى قاع السلم، والمطعم الشعبي "مطعم تعز" يراعي مستوى الوضع، حيث الفاصوليا النص، والبيض النص، والعصيد، والوجبات الملائمة للقوة الشرائية .
على رصيف الانتظار، في جولة باب القاع، يتجمع العشرات من بني ادم، في انتظار "دينا" احد المقاولين، تتنوع في أيديهم أدوات العمل، .. عصيان الرنج، ملاعق الاسمنت، الكريك، البالدي، الغراب .. وكل ما يعلن الهوية للقادم المفترض، ينتظرون بتأهب مستفز، كل سيارة قادمة، يفرزونها بنظراتهم المتفحصة، ومع كل سيارة متباطئة، أو سائق متلفت، ترتفع الأصوات والإشارات، إن كان يرغب في عمال، حتى الموظف ذا الهندام الجيد، يكون هنا فريسة النظرات المتوثبة، .. فمع تلفتك بحثا عن صديقك، تبتدرك عشرات الصيحات المتسائلة. فرص العمل القليلة، قياسا بكتيبة المرابطين، تجبرهم على التهافت على كل من يظنونه طالب عمالة ، وبين الأمل والخيبة، تصالح هؤلاء مع طقس الانتظار، مشاعر الأسى التي تنتابك، تنعكس من مرايا وجوههم المتيبسة.
مع بداية النهار يمتهن الجميع لياقة التوثب، صوب القادمين، ومع اقتراب ساعة الأصيل، يبتعد الأمل رويدا رويدا، عن السيارات السالكة في هذه الجولة، يبدأ الجمع بالتفرق على جنبات الجولة، المتخمة بالبوفيهات والمطاعم ، يتبادلون الأحاديث، في جلسة غير مسترخية، وشرود مشدود صوب خيط السيارات الذي لا ينقطع، يقطعون حبال الضيق، بمداعبة أشيائهم، بغير ما معنى .. ومع فقد الأمل من مقدم "أساطية" يتحولون إلى قتل الوقت، بالبطة، والضمنة، وحلقات الثرثرة، وسهوم الشجن.
"وعلى هذا الرحيل"، تآلف الزمان، والمكان، والعمال، في جلسة القرفصاء، التي تلفت انتباهها باصات فرزة الحجرية، في زاوية القاع، بعفشها المثير للشوق، بينما ينتصب "سهن" الأهل و"زاكن" الأطفال ، شجى بطعم الليمون الأخضر.
حالة المعاناة هنا، تتبدى في جميع جنبات القاع، فبعد صلاة المغرب، في مسجد باب القاع، قام احد الشباب، ليعلن أن احد العمال المترددين على هذا المسجد، ظروفه سيئة، وهو بحاجة إلى عون، رواد المسجد تقريبا هم ممن حالتهم بائسة، لكن المسجد الذي يتبنى شبابه مركزا صيفيا، رفع مفهوم "الإيثار"، كشعار للأسبوع، وطلب اقتسام اللقمة مع من يجوع، وعلى يساري في الصف تحرك رجل أعمى ممن يشحتون، وأخرج عدة فلسات من جيبه، وظل يصيح "أين العامل سنتبرع له"!! في لهجة المتندر على جمع المال لعامل عبر ميكرفون المسجد، فيما هو يناضل فرديا في البوابة!.
في اليمن ينقسم الناس الى فسطاطين على سلم "ماسلو" للحاجات ، ففي أعلى السلم الضيق يقف 20% من البشر يحملون 67% من ثروة الوطن ، في مقابل 80% من السكان "مذرذرين" في أسفل السلم العريض يتقاسمون ما تبقى من ال33% ، ومن بين هؤلاء يوجد ال 20% الأفقر يتصارعون على فتات ال 1.6% فقط.
وفي الضفة المقابلة، لجولة باب القاع ، يقطن شهداء هذا الفتات، وتحديدا بمحاذاة السور الشرقي للجامعة القديمة ، .. مجاميع من المرضى النفسيين، تفترش الثرى في رصيف الجنون، يخربشون الأرض بأظافرهم المتسخة، ويمارسون ما يمليه همس الجنون، بما يظهر ضخامة الطاحونة، التي تقذف بالبسطاء، تحت خط الحياة البشرية، أولئك الذين كافحوا بجدارة، غير أن أكثرهم انسحق في أتون الضغوط التي لا تحتمل .
"الله اعلم متى با ننظم لحارة المجانين" .. قالها سيف سالم وعينه على جدار جامعة صنعاء القديمة المقابل للجولة، مضيفا "اليوم إحنا نجاورهم بالرقدة وبكرة بالجنان" ... ما بين رصيف الجنون وجولة باب القاع، مساحة عبور قسري، تضيق رويداً رويداً ... فالقاطنون هناك مروا من هنا،. وهاهم يمدون أنظارهم صوب جولة باب القاع في انتظار زوار جدد ينظمون إلى رصيفهم.
لا أشك في أن "أميليا كاسيلا" المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي، كانت قبل عام هنا، في باب القاع، حين قالت "لم يعد أمام الناس في اليمن سوى واحد من ثلاثة خيارات : الهجرة أو الانتحار أو الثورة " .. هي شاهدت أمامها الجنون في الرصيف المقابل، والهجرة عبر الحدود، وبقي خيارها الثالث، نبوءة تحققت بعد عام، .. فالثورة في الشارع المجاور .